حسام المقدم - رُؤيا الحَبْل.. قصة

أوشكتْ ألعاب العيال، في ذلك الزّمن، أن تكون كذا وعشرين لُعبة. خُذوا مثلا: جَمعُ أغطية الكُوكاكولا والبيبسي وغيرها، ولضمها في بعضها بخيط، ثم ثنيها لتصير عَجلة صغيرة تصنع مع زميلة لها شيئا يمشي بعجلتين، مُثبَّتتين في خشَبة صغيرة، وعمود طويل للقيادة يكون دائما من جريد النَّخل. كان هناك وشيش لصوت العجلتين فوق التراب. هذا الوشيش هو الدّافع للإسراع كي يعلو أكثر، وكي يسمعه كل الأولاد ويتحلَّقوا حول صاحبهم الماهر، مُستمعين له وهو يشرح طريقة العمل. بعد يوم أو اثنين، تكون كل الشّلّة في قِمة الانتشاء مع العجلات المُتكاثِرة الصّاخبة، والتي تعدّدتْ فوائدها: مثل اصطحابها في جَولات الصباح الباكر للإغارة على عناقيد البلح المُدلَّاة من أعالي النّخل، أو نهب وبعثَرة أكوام التِّبن المُشَوَّنة في الأَجران. تأخذ الأيام القليلة مجراها. يجرون ويطيرون ويلمعون بالعَرق. وحين يبدأ الوشيش في الخُفوت المُتدرّج، حتى السُّكوت الكامل؛ تكون لُعبة أخرى قد ظهرتْ للوجود. لكن قبل اللّعبة الجديدة، لم يكونوا يقفون ليسألوا. أعمارهم وقتها، وعقولهم الغَضّة لن تلتفت لنار الأسئلة المُقلِقة: لماذا لا تبقى اللعبة بنفس حضورها وغلَيانها في الرؤوس؟ كيف ننساها كأنّها لم تكن، وندخل في أخرى؟ لكنَّ ولدًا منهم كان يُخايله طيف سؤال وراء سؤال. يُذَكِّرهم بأيام لعبة حُلوة قديمة، ويتعَجّب كيف برَدتْ حرارتها. لا يشغلون بالهم، ويمضون في لعبة بعد أخرى: طيّارات الورق، اللعب في الطين وتشكيل دُمَى الذئاب والثّعالب، تقشير حطَب الذُّرة وصُنع العرائس من اللُّب الأبيض..

لا شيء ألهبَ قلوبهم مثل تلك اللعبة الخطيرة التي لم يعرفوها من قبل. لعبة شدّت نور العيون، وجعلت سُوس الدّماغ يلعب وينخر انتظارا للموعد في الظَّهيرة مقطوعة الأنفاس، حين يُقبِل الولد العفريت وفي يده الحبل المفتول. يكونون هناك.. على شطّ التّرعة، تحت التّوتة الوارفة ذات الفائدة في أوقات الطوارئ. فحين رؤية أي مخلوق قادم على السِّكَّة، يكون في الإمكان الطُّلوع والاختباء في تشابُك الأوراق الخضراء، والتَّسلِّي بالفُصوص المُسكّرة. الأهمّ أنّ رَبط الحبل يكون في فرعها المُمتد الواطئ قليلا. في البداية أرخُوا الحبل، لدرجة وصول الحلقة الملفوفة لرقبة الواقف على الأرض. يتمايل ويُجرِّب القُعود، فتشُكُّه رقبته المشبوحَة. يضحكون، ويتبادلون الدُّخول في الحلقة وإحكامها على رقبة ممدودة بلهفَة. لم يشفِ غليلهم ذلك. فكَّروا في تقصير الحبل، بأن يكون بطول قالب طوب يقف عليه صاحب ضربة البداية، ثم التَّدرُّج: قالبان، ثلاثة.. واحد منهم تذَكَّر فيلم “عمر المُختار”، لحظة أن رَكَلُوا الدِّكّة من تحته. هُم كذلك ركَلوا الطوب من تحت صاحبهم المشنوق، لكنّ يديه كانت حُرَّتين تعفقان الحبل وتتعَلَّقان به. لا تسمحان للعُقْدة أن تَحُزَّ الرّقَبة. يتدخلون في أقرب وقت ويعيدون وضع القوالب تحت القدمين الضَّاربتين في الهواء. اتَّفقُوا أنّ تقييد اليدين آخِر مرحلة.. لابد أن نُجرّب. نُقيِّد اليدين ونلحَق في الوقت المناسب. ماشي. أنا! قال الولد المُبتكر وقرّرَ أن يُجرّب بشرط ألا يُقيّدوا يديه. ضبطوا له طول الحبل، قبل أن يرفسوا القوالب الثلاثة من تحته. قُوَّته كُلها هربتْ وتجمَّعتْ في يديه. كان يضحك، ويرفع جسده ويُخفِضه طالعًا نازلًا بالحبل. أحسَّ برُوحه تُشفَط مع ابتعادهم قليلا. في القُربِ كانوا دائما في مرمَى العين، أقدامهم على استعداد لزحزَحة قالب أو اثنين تحت القدم التائهة. عيناه تُناديهم، جُحوظُهما يتَّسع. الوجه كله في طريقه للتَّقلُّص. اليدان تشُدَّان الحبل بارتعاش. أيها الأوغاد اقترِبوا. يضحكون ويشيرون ناحيته. هل تخونُه يداه؟ مُجرد التّفكير أن رقبته يمكن أن تحتمل ثِقل جسده أمر مرعب. لن يستمر في اللعبة. ضَرَبه الرُّعب. صرخَ بوجه مخنوق مُحتقِن: الطُّوب يا أولاد الكلب! أخيرا يتدخلون، ويستقِرُّ واقفا لاهِثًا. يحلفُ لهم أنّهم أنذَال. وبعد أن يهدأ؛ يحكي لهم عن غيامات العينين وارتعاش اليدين على الحبل. يقول إنّه رأى أباه المَيِّت وجَدّه، وهُما يمُدَّان أيديهما لإنزاله، إلا أن عشرات الأيدي الممدودة لجماهير غريبة، بوجوه مطموسة، حالَتْ دون ذلك. في اللحظة الكاشِفة، حين أوشَكتْ العينان على البياض، واليدان على الارتخاء، رأى وُجوهًا يعرفها.. كانت تنكشِفُ واحدًا وراء الآخَر. هذا فُلان وفُلان وفُلان.. لو طالت اللّحظة لرآهم كُلّهم.

استمعوا له يحكي. بعضهم خاف، وآخرون انتَشُوا وسخنتْ دماؤهم. سيضعون جَدوَلًا كي يمرَّ الدّور عليهم جميعًا. تراهَنوا على مَنْ يبقَى لأطول وقت ممكن. وفي كل مرّة، بعد أن ينزل المشنوق دائِخًا غائِمًا، يحكي ما أحسَّه ورآه، في لحظات هي الحافَّة ذاتها، هي الشَّعْرة الفاصلة الرَّهيفة. حكايات كثيرة كانت تَتَوالد في الرّؤوس مع الوهَج المُغوِي.. فهذا ولد يرى مشانق كثيرة تتَدلَّى من سقف الفصل، تتأرجَح فيها أجساد العِيال بوجوه مُزرقَّة، وذلك يُمسِك رَشّاشًا يكنسُ به مدينة كاملة، لتبقى شوارعها خالية.. كلّ هذا لم يكن يُساوي شيئًا مع ذلك الأناني الذي غامَرَ لوحدِه. أغواهُم بأنّ التَّجربة أجمل كثيرا بهذا الشكل، حكىَ لهم حكايات مختلفة عن حوادث وأطياف ووجوه تمنح نفسها له وهو بمفرده. فقط على اللاعب أن يأخذ باله من وضع الطُّوب جيدًا. نظروا إليه، ذابُوا في الكلام.. وَهَج مختلف وأكثر إغواء، يشتعل في القلوب التي تأكل نفسها.

امتَدَّ التَّسلُّل المنفرد في الظَّهيرات والمساءات، وليالي الصيف المُقمرة. النّار تسرح في هَشيم الأدمغة. يذهب واحد أو اثنان أو ثلاثة.. التّوتة موجودة ومُتاحة للجميع. الحبل أصبح حِبالا كثيرة تتَوزَّع على الفُروع الخضراء الكثيرة. وحين رأى الآباء والأجداد ما يحصل؛ نهَرُوا العِيال بلا حَسْم، إلى أن أخذوا الأمر باعتياد وتعنيف مُبتسِم لهؤلاء العفاريت الصّغار.

هل يستمر الأمر هكذا؟ سقطَ واحد واثنان في التّرعة، مع طقطقة فُروع التّوت تحت الثِقل المُتزايد كلّ يوم. كاد الحبل أن يشنُقَ أحدهم للنّهاية، لولا تدَخُّل رجُل يمُرُّ بالصُّدفَة على الجِسر. وحدَه الولد الذي لا يَملّ من السؤال يُفكّر في مجرى الأمور، ويحلُم بلُعبة جديدة تُزيل أثَر هذه العدوَى الرَّهيبة، التي شاهَتْ مع هذا العدد الكبير من الحِبال. لقد خاصَمَهم ولم يعُد يلعب. عاد لألعابه القديمة، وجاء بأُخرى جديدة لم يعرفوها، التَفُّوا حوله يستوضحون ويُجرّبون. كان يغيظه أن بعضهم لم ينسوا التّوتة والحِبال. وما زالوا يلعبون هناك.

***

حسام المقدم



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى