عواد علي - عبدالرزاق الحسني مؤرخ السياسة والوزارات والعقائد في العراق

عملاق عاش بين الوثائق والأحداث ثم ألقى بأهم أعماله في أعماق دجلة


قبل وفاته ببضعة أشهر سنة 1997 زارته صحفية عراقية في بيته ببغداد لإجراء حوار صحفي معه، ففوجئت به راقدا على فراش رث وقد نالت منه الشيخوخة، وداهمته أمراضها حتى أنه بالكاد يستطيع تحريك يده، ولم يكن حينها يمتلك ثمن الدواء. وحين تطلعت إلى أرجاء الغرفة وجدتها بائسة تخلو من أبسط مقومات الحياة، وجدرانها مشققة يخترقها البرد والحر.

هكذا كانت حال شيخ المؤرخين العراقيين عبدالرزاق الحسني في آخر أيامه، وهو في الرابعة والتسعين من عمره، يعاني من أمراض عديدة لازمته أكثر من عشرين عاماً. ولم تشفع له عشرات المؤلفات عن تاريخ العراق الحديث، خاصة التاريخ السياسي، والعقائد والأديان التي ناهزت الثلاثين وطبعت أكثر من طبعة، ولا شهادة الدكتوراه الفخرية في التاريخ التي منحتها له كلية الآداب بجامعة بغداد عام 1992، ولا الوسام الذهبي الذي حصل عليه من الاتحاد العام للكتاب والمؤلفين في العراق عام 1996، ولا غيرها من الأوسمة والشهادات.

وحين توفي سار في موكب جنازته الوزراء وكبار موظفي الدولة والشخصيات الإعلامية والأدبية، بينما لم يجد أحدهم يطرق بابه أو يمد له يد العون حتى لحظة احتضاره، ولولا عناية الله ورعاية ابنته أحلام التي تكفلت بمعيشته البسيطة وعلاجه وعلاج أمها الفاقدة لبصرها لمات جوعا خلال سنوات الحصار البشع.

أيام سوق العطارين

ولد الحسني في سوق العطارين ببغداد سنة 1903 داخل أسرة تمتهن “العطارة”، وتهتم بالأدب، ويكتب بعض أفرادها الشعر. وتعلم مبادئ القراءة والخط في جامع الخفاقين، والتحق بمدرسة أهلية اسمها “مكتب الترقي الجعفري” وشرع في تعلم اللغة التركية والفرنسية إلى جانب اللغة العربية، ثم درس في دار المعلمين.

بعد تخرجه سنة 1924عمل في الصحافة مديرا لإدارة جريدة “المفيد” ومندوبا متجولا لها. وقد طاف بهذه الصفة العراق من شماله الى جنوبه، وكتب رحلته الشهيرة “رحلة في العراق، أو خاطرات الحسني” التي طبعت ثلاث طبعات. ولما ألغت الحكومة امتياز هذه الجريدة أصدر جريدة أدبية تاريخية أسبوعية باسم “الفضيلة” سنة 1925.

كبار المستشرقين والباحثين في القرن العشرين يذكرون كيف أنهم كاتبوا وراسلوا عبدالرزاق الحسني مثل لويس ماسينيون، وجاك بيرك وكراتشوفسكي والأمير شكيب أرسلان، وزكي باشا، وأحمد تيمور باشا، وإسعاف النشاشيبي، وأمين الريحاني، والأب أنستاس ماري الكرملي، وسلامة موسى، وعباس العقاد، ومحمد كرد علي

أصدر في مدينة الحلة جريدة أخرى باسم “الفيحاء”، وحين توقفت عن الصدور التجأ إلى الوظيفة الحكومية، فعيّن معاونا لمحاسب وزارة المالية، فمديرا لحسابات مديرية البريد والبرق العامة. لكنه اعتقل إثر اشتراكه في ثورة مايس التحررية سنة 1941، وكان السكرتير الشخصي لرشيد عالي الكيلاني فأرسله إلى سوريا ولبنان وفلسطين ومصر لحث المجاهدين وتعبئة الرأي العام العربي لإسناد الثورة. واستطاع أن يحقق نجاحا في بيروت عندما اجتمع بقنصل العراق العام الذي دخل في مفاوضات مع لجنة الهدنة الفرنسية الإيطالية لتزويد العراق بالسلاح اللازم لتسيير الثورة.

الكتابة في المعتقل

بقي في معتقل “الفاو” في أقصى جنوب العراق، ثم في معتقلي العمارة وبغداد أربع سنوات كتب خلالها بعض مؤلفاته، وبعد إطلاق سراحه انتدب للعمل عام 1949 في ديوان مجلس الوزراء. وحول عمله هذا يروي الحسني أن رئيس الوزراء آنذاك نوري السعيد استدعاه وقال له بالحرف الواحد “علمت أنك تفسد ضمائر بعض الموظفين، وتحصل على الوثائق الحكومية لتستعين بها في مؤلفاتك، وأنا أريد أن أنقلك إلى مجلس الوزراء لتطّلع على ما كنت تتمناه من وثائق ومستندات”.

في ديوان مجلس الوزراء عُهد إليه تنظيم سجلات خاصة بتاريخ الدولة. وقد أعجبته هذه الوظيفة، التي قضى فيها 14 سنة، لأنه أفاد منها كثيرا في الحصول على المصادر الأولية لمواد كتابه “تاريخ الوزارات العراقية”. وفي أثناء عمله فيها حصل على وسام الرافدين من الدرجة الثالثة ومن النوع المدني لمناسبة تتويج الملك فيصل الثاني سنة 1952. وفي سنة 1964 نقلت خدماته إلى وزارة التربية، ولمّا لم يكن شغوفا بالتعليم فقد جمّد عمله وأحال نفسه على التقاعد لينصرف إلى مراجعة بحوثه وكتبه في ضوء الوثائق والمصادر الحديثة.

الثورة واليزديون والصابئة

من أبرز مؤلفات الحسني “تاريخ الوزارات العراقية” (عشرة أجزاء)، “تاريخ العراق السياسي” (ثلاثة أجزاء)، “الثورة العراقية الكبرى 1920”، “العراق بين دوري الاحتلال والانتداب”، “العراق في ظل المعاهدات”، “اليزيديون في حاضرهم وماضيهم”، “البابيون والبهائيون في حاضرهم وماضيهم”، “الصابئة في حاضرهم وماضيهم”، “الخوارج في الإسلام”، و”تاريخ الأحزاب السياسية في العراق”.

يرى بعض الباحثين أن الحسني مؤرخ يمتاز بخصال فريدة يندر أن تجتمع في غيره من المؤرخين، فهو نزيه وصادق فيما كتب، لم يداهن ولم يجامل، وبقي قلمه نظيفاً طوال أكثر من 50 سنة قضاها في البحث والتأليف، رغم صعوبة ما خاض فيه من أحداث كان بعض رجالها ما زال حيا يمتلك قوة تحرج المؤرخ.

كتابه "تاريخ الوزارات العراقية" يقرر الحسني إلقاء نسخه كلها في نهر دجلة لعدم وجود راغب في شرائه، ليموت فقيرا مع أن جنازته سار فيها الوزراء وكبار موظفي الدولة بينما لم يطرق أحدهم بابه أو يمد له يد العون وهو في أشد حالات عوزه

وقد صرّح الحسني بهذه الحقيقة في قوله “إن تدوين أحداث العراق السياسية الحديثة من الصعوبة بمكان، فإن معظم أرباب العلاقة ما زال في قيد الحياة، لكن تمرّسنا في الحياة الكتابية خلال ثلاثين عاما شجعنا على المضي في هذا السبيل الوعر على الرغم مما تعرضنا له من مضايقات، وما تكبدناه من خسارات. ولم أبتغ من إقحام نفسي في حلبة هذا الجهاد المتعب إلا الإسهام في خدمة البلاد من ناحية تدوين تاريخها الحديث تدوينا بعيدا عن الغرض والمحاباة”.
قام منهج الحسني في التأليف على مراجعة الأصول وتدقيق المراجع، ومقابلة الوثائق مع أصولها، والاتصال بأصحاب العلاقة وصانعي الأحداث آنذاك، ومن ثمة تكوين فكرة صحيحة عن الظروف والمناسبات. أما لماذا لم يوثّق الفترة التي أعقبت انتهاء العهد الملكي 1958، فأغلب الظن أن الظروف السياسية المضطربة آنذاك لم تكن تسمح بالكتابة الموضوعية، لا سيما أن المدرسة التاريخية الأكاديمية قد بدأت تشق طريقها وتتحمل مسؤوليتها في الكتابة والتوثيق.

لكن خصلة الصدق لا تنطبق كثيرا على بعض كتبه عن الأديان والعقائد، لذلك تعرض إلى مؤاخذات صادمة، من أشدها تبنيه الصور النمطية التي كانت شائعة في المجتمع العراقي عن المندائيين الصابئة والإيزيديين. بل إنه تعرض إلى المحاكمة إثر دعوى رفعها عليه الكنزبرا الشيخ دخيل بن الشيخ عيدان الرئيس الروحاني لطائفة المندائيين عندما أصدر كتابه “الصابئة في حاضرهم وماضيهم” سنة 1931، متهما إياه بأنه تقوّل عليهم بما ليس حقيقة، ووصفهم بما ليس له أيّ أصل أو ثوابت في ديانتهم العريقة، ومن ذلك أنهم، كما جاء في الكتاب، “عبدة أجرام وكواكب ونجوم وشهب”، فحكمت المحكمة ضده استناداً إلى نصوص من كتاب المندائيين المقدس “الكنزا ربا” التي تؤكد أنهم “موحدون يعبدون الحي الأزلي”. وقد صحح الحسني معلوماته في كتابه اللاحق “الصابئون قديما وحاضرا” الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1957.

الحسني يصدر جريدة باسم "الفيحاء" في مدينة الحلة، قبل أن يعتقل إثر اشتراكه في ثورة مايس التحررية سنة 1941، إذ كان السكرتير الشخصي لرشيد عالي الكيلاني الذي أرسله إلى سوريا ولبنان وفلسطين ومصر لحث المجاهدين وتعبئة الرأي العام العربي لإسناد الثورة

الثورة العراقية الكبرى

يُعد كتابه “الثورة العراقية الكبرى” سجلا للأحداث التي تقدمت ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني وما لابستها ثم انتهت إليها، وهو أدق دراسة تاريخية كتبت حتى الآن عن العوامل والأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى نشوب هذه الثورة في 1920 وعن ميادينها الحربية وحكوماتها المحلية وصحافتها الوطنية، وعن الخسائر التي مني بها الطرفان المتحاربان، وغير ذلك من المعلومات والإحصاءات الدقيقة. وقد طبع هذا الكتاب ثماني طبعات آخرها ضمن سلسلة مؤلفاته التي صدرت في بغداد بإشراف أسرته.

كاتب الحسني عددا من كبار الاستشراق مثل: هـ. رير، ف. كرنكو، ي. شخت، دنلوب، جب، لويس ماسينيون، جاك بيرك، كراتشوفسكي، غفوروف، ف. كوتلوف، وغيرهم. كما كانت له مراسلات مع جمع من العلماء والشخصيات العربية، منهم: الأمير شكيب أرسلان، زكي باشا، أحمد تيمور باشا، إسعاف النشاشيبي، أمين الريحاني، الأب أنستاس ماري الكرملي، سلامة موسى، عباس العقاد، ومحمد كرد علي. وتولى كتابة مذكرات رئيسي الوزراء العراقيين: علي جودة الأيوبي، وناجي شوكت، وأشرف على إعداد مذكرات الوزراء: عبد العزيز القصاب، طه الهاشمي، وتحسين العسكري.

شكا الحسيني في مذكراته من عدم إقبال القراء على اقتناء الكتب التاريخية، مقارنة بالكتب الأدبية (الشعرية والروائية)، وضرب مثلا على ذلك قائلاً “طبعت رسالة في تاريخ الصحافة العراقية بألف نسخة وضعتها في المكتبة العصرية سنة كاملة، ولما جئت إلى المكتبة أحاسب صاحبها وجدت أنه لم يصرف من الكتاب غير ثماني نسخ فقط، فاضطررت إلى حرق نصف الكمية، وأعدت عرض الكتاب للبيع سنة أخرى فلم يُبتع منه غير ثلاث نسخ، فحرقت منه 250 نسخة ثانية. أما كتاب “تاريخ الوزارات العراقية” فقد شاهدني الكثير من الأدباء وجمهور من الناس أرمي كل النسخ في نهر دجلة لعدم وجود راغب في الشراء”.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى