رحيم حمد علي - عسل الحياة.. قصة قصيرة

ما بحياته ندم على شيء، الندم هو الخطأ الثاني الذي يرتكبه المرء خلال سني حياته، يعطي لكل شيء وقته، ولكل واحد حقه، ثمل من نشوة الحياة، يحب الناس، وحبه كبير لكل الاشياء التي حولهُ، هو كتاب مغلق على سره، في طفولته يحزن حين يجب ان يفرح، حتى من يضحك، يخاف شر الضحك، ربما في هذا الوقت لم يعتاد على السعادة.

عندما ادرك طبيعة الوجود والاشياء، قرر ان يكون مشهوراً، وهذا ما كان يردده في داخله في مرحلة النضوج، مشهوراً بالجاه والمال، ولكن ليس عظيماً، لأن الشهرة ليست دليل على عظمة اصحابها، هادئ صمتهُ عميق قبل ان ينطلق بالمشوار الذي ينتظره ليدون خطاه، يعرف متى يكون الوقت صحيحاً او خاطئاً ليفهم معنى وجوده، معتقداً ان على المرء ان يخلد الى نفسه ويفكر قبل ان ينطلق للحياة، يحتاج الى ذكاء الاخرين للأستفادة منه لتوظيفه في الاطار الذي يؤطر به مشاريعه التي في مخيلته.

اكمل الدراسة الثانوية والجامعية وتخصص في دراسة الماجستير في الهندسة النووية، الا انه لم يمارس اختصاصه كموظف، كان همهُ الوحيد السعي الجاد لتطبيق العدل والمساواة بين الناس وحب الوطن وحماية امنهِ، فأمن الوطن لا يتحقق الا على حساب العدل، عدم تقلده منصب وظيفي لتجسيد مؤهلاتهِ العلمية في مجال اختصاصه، لا يعتبره خسارة لكونه ينطلق دائماً حسب القول المأثور(ما قد يبدو لك خسارة قد يكون هو بالتحديد الشيء الذي سيصبح فيما بعد مسؤولاً عن اتمام اعظم انجازات حياتك).

يعتقد ان قدر سعادة وجمالية المرء في المال، فالاثرياء دائماً مقدرون بقدر ما يملكون، لهذا ترك مجالات الوظيفة واتجهه للتجارة حتى صار من اصحاب المال الذين هم من الوزن الثقيل، لكنهُ ليس من لصوص المال، شرفاء هذا الزمن، اثرياء النضال المزيف الذين اقتاتوا على موائد الأجنبي حتى صارت تلك الموائد دَين في أعناقهم، يمكن اعادة اثمانها الى اصحابها بمليارات الدولارات والصفقات السرية الباهظة الثمن وعلى رأسها دم الابرياء المتعلقين بأقدام الموت جميعاً في هذه الحياة. مأساتنا أيها العالم تكمن اننا نعيش بين قتله، يزايدون علينا في الدين وبذريعة تجريدنا من حريتنا، وآخرين يزايدون علينا في الوطنية، يهبون لنجدتنا بذريعة حمايتنا مقابل نهب خزينتنا، الا أن هؤلاء هم هشاشة الوجود الانساني، فبأي حق يمكن لهم هذا التصرف، وهل أن خزينة الوطن ملك لهم كي يمنحوها لغيرهم، ليس من حق أي أمرءٌ أن يمنح لغيره ما ليس له، ثم ان المال الذي يسرقونه لا يجلب لهم السعادة المنشودة، إنما يسمح لهم ان يعيشوا تعاستهم برفاهية، هؤلاء هم من جلبوا لنا الموت بتشكيلاته المختلفة وموضتهِ الجديدة، مرة بالرصاص، واخرى بالتفخيخ، والثالثة بقطع الرؤوس.

كان مولع بالعلم، ومعرفته له يتوصل اليها بأعتماد الملاحظة المنهجية المنظمة مستفيداً من كل التخصصات وبمجالات مختلفة بالاضافة الى تخصصه، وعلى مختلف مستويات العلم الثلاثة(الوصف، الفهم، التنبؤ) طموحهُ ان يكون مجتمعهُ مجتمعاً متحرراً مثقفاً ومسلحاً بالعلم والمعرفة، بعيداً عن ماضوية اللاوعي الجمعي ذات الخصائص التي يغلب فيها العقل الانفعالي على العقل المنطقي في سلوك الفرد والجماعة، وهذا هو السائد ليس في وطنهُ فحسب بل في اغلب بلدان العالم الثالث، حيث يُعطل العقل المنطقي في اوقات الازمات ويُستقطب الناس في مجموعتين متضادتين، الاولى جماعة الـ(نحن) والثانية جماعة الـ(هم) فتحدث الصراعات ويحصل منطق قانون الصحراء(أما غالب او مغلوب)، والنعرات الطائفية ما هي الا حصيلة ذلك الفعل.

يخلو مع نفسه، يفكر بمصير هذا المجتمع البائس ذات الجيل الكامل الذي ولد في حرب وعاش ولا يزال يعيش حروباً متنوعة علمته ثلاث أمور خطيرة (العالم العدائي، العنف هو الوسيلة للتعامل، والصراع هو ان أكون او لا اكون).

ساهم مساهمات جادة وبدعم مالي لوضع برامج تربوية للرقي، الا ان الجهات ذات العلاقة لن يروقها ذلك، لذلك عدل عنه، يعتبر الحب انزيم الحياة وعسلها الذي يطيل العمر ولا يمكن الاستغناء عنه، والحب معه دوار دائم، فهو رجل يعيش في عين الاعصار، مثله في ذلك ((انه من يفرط بالحب بدقيقة واحدة، بأمكانه ان يعيش حياة بدون معنى)). يجرفه الشوق المستبد لمن يحب فيعتريه السرور تارة والحزن أخرى، وبذلك فحبه اذكاء المسافات وليس سطو غير مشروع، كما يقولون، يمتلك ثقافة الجمال ومحملاً بأحاسيس جميلة من الاشتهاء ما يجعل عواطفه تلقي القبض على عواطف من يحب فتتركه في غيبوبة النشوة تحت تأثير الخدر العشقي لتتولد عنده نشوة الاشتهاء الملتبس وهذا ما يجعل الحب اول قضية على العشاق كسبها دون الوقوع في عزلة الموارب التي تجعل هذا الحب يعاكس رغباتهم وبالتالي يكونون دائمي الاهتزاز منه او ان يأتي متأخراً دائماً، وعلى قول احد المشاهير ((الحب هو عدم حصول المرء فوراً على ما يشتهيه)) وهذا ما يجعل لحظاته جميلة قبل الاعتراف به لكون المرء يعيش هذه الفترة وهذا الارتباك الذي ربما يطول او يقصر بالاضافة الى حالة الدوران الذي يتغير فيها نبضه اكثر من مرة لتلك اللحظة التي تقال فيها كلمة ((احبك)) وهذا ما اكده قول فيكتور هيجو((بعد الاعتراف الاول لا تعود كلمة احبك تعني شيئاً)).

هو كثير الاسفار وله مكاتب استشارية في معظم الدول الاوربية والاسيوية، في واحدة من أسفاره وهو في رحلة الى أوربا على متن الطائرة البوينغ(777) برحلتها عبر المحيطات جلست في المكان المجاور له فتاة في العقد الثالث من عمرها مسافرة الى احدى الدول الاوربية وكانت لا تعرف شيئاً عن تلك المدينة التي تقصدها، نادت المضيفة(على الجميع ارتداء حزام الامان)، مدت يدها لوضع حزامها في المكان المخصص له إلا انها لم تفلح، تناوله من يدها وربطه على خصرها، احمرت وجنتيها خجلاً، قدم نفسه لها وكذلك هي، من سياق حديثها عرف انها تنوي الى المدينة المتجه اليها هو.

قال:

– صدفة جميلة، لقد شاءت الاقدار ان نكون معاً، انا شخصياً أعتبر الصدفة خيار سري للأنسان امام كل خيار، لأن كل ما يفعله سيقدم حساباً لنفسه ولغيره، لكن ربما تكون هذه الصدفة كبيرة بنتائجها وعندما تموت تتركنا صغاراً!!!

قالت:

– وعلينا استغلال الفرص دون التفريط بها، ومن يفّرط بها يُعيه الانتظار!

وأردفت كذلك:

– ما ألاحظه عليك انك ثري؟

– فعلاً ! ولدي طائرة خاصة لرحلاتي لكني أثرت السفر هذه المرة بالخطوط العامة.

ردت قائلة:

– الثراء نفسه عندما يزيد عن حدهِ يصبح خطراً على صاحبه، والحياة لا تعطيك شيئاً ان لم تأخذ منك مقابله شيئاً آخر!!

اجابها:

– انا احب الحياة واحب ان انفق ثروتي في إغرائها، لأني أعلم علم اليقين أن مالي لا ينفعني بعد موتي، والان جميع الناس هم حولي، وعندما كنت مفلساً في السابق او ان اكون كذلك الان، سيبتعد عني أقرب الناس لي ولا يبقى معي إلا الوفي، والوفي الوحيد لأي انسان مهما كان مستواه المعاشي هي الزوجة، لأنها تدرك أن الفقير ثري بدهشته، اما الغني فهو فقير لفرط اعتياده على ما يصنع دهشة الآخرين.

– ما اجمل ما تقول، انت متعلم ومثقف!

– نعم، حاصل على ماجستير في الهندسة النووية.

تناولت مجلة واخذت تحملق بمحتوياتها، تتظاهر انها تقرأ، لكنها ليس كذلك، لقد ادهشها حديثه وشخصيته التي تبرهن على انه محنك في كل شيء، وهو رجل في العقد الخامس، تمنت ان تركع امامه كالجائع أمام اللقمة، احبته في جوعها حتى الشبع، قالت في داخلها((تمنيت لو احاصره والتقطه كعصفور، ما اجمله عندما يتحدث، بودي ان اكون معه دائماً، فبدونه لا شيء يساوي الحياة، انه من النوع الذي يترك لغيره ثروة ذكريات دون ان يترك مشاريع حياة)). صارت يجرفها الشوق اليه مدركةً ان الحب يحتاج ان يتجاوز ما هو متاح ليكون حياً لأنها في وادٍ وهو في القمة، ربما مرت نساء كثيرات في حياته، هي بحاجة اليه، لأنها وجدته رجل بمعنى الرجولة، تريد ان تصبح تحت جناحيه وتكون له لا لغيره. داعبت جفنيها اغفاءة، رأت كأنهما في غابة جميلة، عانقها، احست انه يرصع قبلة على انوثتها، امتلأت سعادة ، طوقها أكثر، وجدت نفسها في لحظة خرافية. انتبهت على صوت المضيفة ان الطائرة وصلت، فكت حزام الأمان وهو كذلك.

لم يتركها تذهب، لأنها لا تعرف معالم هذه المدينة، اتصل بمكتبه ان يحجز لها جناح في فندق المدينة الشهير، وعندما وصلت وجدته فندق عبارة عن مبنى في فخامة قصر عريق، مطوقاً بالحدائق المزدانة بالورود الجميلة، كل ما فيه فخم ورائع حد الدهشة، أندهشت لعالم لم تره سوى في الأفلام وهي تكتشف عوالم لا عهد لها بها، وجدت كل ما حولها جميل.

انتظرها في الصالة بعد ان غيرت ملابسها في المكان المخصص لها، جلسا في مطعم الفندق ذي الروعة التي تفوق روعة الفندق نفسه، صارت تنظر في عينيه، وجدته رجل لا تسع نشوته فخامة هذا المكان، هو كل الحياة، كان في الجو من السعادة ما اصابها بالخدر، تعذر عليها الكلام، لم تعرف ان من الناس من هم يعيشون في جنة عدن، وأنها الان تعيش حلماً خرافياً، مرت بيدها على وجهها علها تتأكد من انها فعلاً هاهنا، كان ثغرها في صمتها يقول((خذني ولبي النداء)). تركها بعد ان تناولا طعام العشاء وذهب الى مكتبه تاركاً لها رقم جهازه الخلوي، اخبرها ان تهاتفهُ وقت ما تشاء ان كانت بحاجة الى ذلك.

قالت له:

– اعتبر الخلوي رجل حياتي، وهو سلاح الناس الذي قد تكون فيه حياتهم او محنتهم.

تبسم ثم ودعها.

حضر مبكراً، اصطحبها في جولة بعد ان تناولا طعام الفطور، تناولا اطراف الحديث عن المهمة التي من اجلها جاءت الى هذه المدينة، كما تعرف على بعض التفاصيل من حياتها.

قالت:

– هذه اللحظات من اجمل وجودي كله في الحياة وساتوجها بذكريات لا تنسى!.

قال:

– الذكريات تعود كالامواج، انها الامواج العاتية للحياة، ولو انها عدم حصول المرء فوراً على ما يشتهيه.

تجولا في محلات فاخرة لمختلف التحف والهدايا . اردف قائلاً:

– انوي ان أهديك هدية فماذا تختارين!!؟

– شكراً جزيلاً.

– الهدايا الثمينة والجميلة في محلات فاخرة في امريكا وخاصة نيويورك، انا شخصياً قليل السفر الى امريكا ولا احب ان اقيم فيها مكاتب تجارية لكوني امقتها وامقت شعبها، فهي بوتقة تنصهر فيها كل الاجناس والاعراق، والفرد الامريكي الذي يدعي انه امريكي حتى لو جاء من جزيرة نائية، ما هو الا راع بقر لا يفكر بربٍ له سوى الدولار، غزوا بلادنا في نيسان الاسود الذي اختلط فيه ضجر الله بغضب الطبيعة فاطلقوا عليه الاحتلال، التي اضراره في نفوسنا تتسع يوماً بعد الآخر!؟.

سارا لحظة صمت وهي تفكر ماذا تهديه؟، ما هي الهدية التي تليق بمثل هذا الرجل؟، هل تهديه رجولته؟، فهو رجل فعلاً، ام ان تهديه انسانيته!، فهو انساني..

قال:

– اخطأتِ بعدم قبولكِ هديتي!!.

– لا تغضب، بالعكس، لم اقصد لأنك اغدقت علي الكثير..

سألها :

– هل يعجبكِ الوضع في العراق؟

– أبداً، وهو يسير نحو الاسوء!

– سببه المحاصصة وتبني المليشيات، ودعم دول الجوار لها، وافرازات الاحتلال المقيت، وضعف السلطات السياسية، وها هي الإخطار محدقة بنا من كل جانب..

قالت:

– صحيح بالاضافة الى ذلك هو النظام البرلماني، نحن دولة نامية تطبيق الديموقراطية فيها مشروط بثقافة المجتمع، لذلك نحتاج الى نظام رئاسي، لأن البرلمان المتمثل باعضائه، ما يتخذه من قرارات ربما تكون لها نتائج سيئة، والمواطن لا يجد من يحّملهُ المسؤولية لهذا القرار، وبالتالي لا يمكنهُ ان يحاسب احداً، واي معنى يبقى للمسؤولية اذا لم يتحملها شخص معين، وكيف يجوز لفئة البرلمان باتخاذ قرارٍ او قرارات لأعمال فرضتها مشيئة الكتل السياسية الممثلة لأشخاصها، فالأجدر ان يتخذ قرارات ذو فائدة مشروعة بعد دراستها دراسة مستفيضة عندئذ تُعتبر من المشروعات النافعة، في نظر كل الناس ان القانون الذي يُمرر من البرلمان وفيه اجحاف للمصلحة العامة ويُصوت عليه دون معارضة فهذا ان دل على شيء انما يدل على عدم ادراك مواطنيه… اين هي الحدود الفاصلة بين ما نسميه الواجب نحو الناس وبين ما نسميه الشرف والكرامة، صحيح ان البرلمان مؤسسة عصرية الا انه يخلق مناسبة تُتيح لمحترفي السياسة ان يُغرقوا الحياة السياسية في خضم حوادث صغيرة وتافهة. ان كل من يتهرب من تحمل مسؤولية عمل ما، ويبحث دائماً عمن يغطيه، ليس له من المسؤولية اكثر من الاسم، والامة التي يكون زُعماؤها من هذا الطراز لا تلبث ان تعاني أوخم النتائج، اذ ليس في البلاد كلها من يتقدم الصفوف ليضحي بنفسه في سبيل انقاذ الامة بخطوة جريئة، وهذا ناتج من الطريقة التي يُنتخب بها السادة ممثلي الشعب او الطريقة التي يحرزون بها مقاعدهم الغالية على قلوبهم، ثم ان اغلب الناس بل اكثرهم لا يتحلى بالوعي السياسي، وهؤلاء لا ينتظر منهم ان يحسنوا اختيار من ينوب عنهم لتمثيلهم والتعبير عن اراءهم والافصاح عن رغباتهم وأمانيهم، أليس من سخرية القدر ان يكون الفيصل من ليس له علم في القضايا السياسية او الاجتماعية او الاقتصادية الخطيرة، لهذا اقول انه لا يحق لدولة ما ان تفرض احترامها على الشعب وهي تعبث بالمصالح العامة.

رد عليها:

– اوافقكِ الرأي تماماً، ما أجملكِ عندما تتحدثين بمثل هذا!!

عندما سمعت كلامه راودها في هذه اللحظة خليط من المشاعر تجاوز قدرة القلب على فرزها.

قالت:

– سأكون بغيركَ شقيةً، كطائر في غير ارضهِ!!

ضحك وقال مازحاً:

– أنت الآن في غير أرضكِ.

لاحظت عليه نوع من الكآبة، رغم ابتسامة وثرائه، رأته غير سعيد، ارادت إن تسأله عن سبب ذلك لكنها تخلت عن مثل هذا السؤال يقيناً منها بعدم ازعاجهِ او ربما تسبب له الاحراج.

عرفت من خلال محادثتهِ انه متزوج ويسكن في دولة عربية غير العراق لكي يأمن على عائلته من سوء الاوضاع الامنية هناك.

قالت:

– أتحب زوجتك؟

– حد العبادة، وسأكون وفياً لها ما دمت حياً، رغم أني لا اتوقع ابداً الوفاء من النساء!.

– هل خنتها يوماً ما ؟

– كلا، ابداً!!. اشارت عليه انها تريد الوجهة التي جاءت من اجلها. طلب من مكتبه احضار سيارة خاصة توصلها، كانت بها رغبة جامحة ان تبقى بجانبه الى الابد الا انها وجدته مخلص لزوجته قالت في داخلها انه((عسل الحياة)). توادعا بعد ان شكرته على كل ما قدمه لها…


رحيم حمد علي- بغداد




* الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى