مصطفى الحاج حسين - (المبدع ذو الضفّتين).. مجموعة قصصية.

مقدمة الأديبة: بسمة الحاج يحيى..


للنخيل ظلالها، باسقات، شامخات تنافس الطيور المحلقة بالسماء،جذورها
تُسقى من نبع رقراق سلسبيل.. تُلقي ظلالها حيثما طاب السّمر و اللقاء.. ذلك هو الأديب : مصطفى الحاج حسين أو
...(المبدع ذو الضّفّتين) كما سمّاه بعض الكتاب والنقّاد. فقد لَانَ الحرفُ بين أصابعه، فكتب الشعر منذ نعومة أظافره ، متناولا بذلك قضايا متعدّدة ؛ فسلّط الأضواء على القضايا
الإجتماعية، كما اهتم بتفاصيل الحياة العامة ببلدته و لم يستثن الشأن السياسيي اثناء تناوله لكل ما يهم حياة الفرد، كما عطّر دواوينه الشعرية بأجمل القصائد التي ألهمها أحاسيسه الصادقة، فنكهة العشق الشرقي تفوح من خلال رسمه للكلمات و المعاني..
كما أبدع بكتابة القصة القصيرة
، و بهذا المجال فقد تميّزت كتاباته بالشفافية و المصداقية إذ استدعى شخوصا من أرض الواقع لتستمدّ الأحاديثُ شفافيَتَها من كاتب النص نفسه الذي عكست كتاباته الحياة المتداولة و اليومية و خاصة تلك التي عايشها بنفسه أو عاشها منذ طفولته القاسية وصولا إلى حيث برز في مجال الكتابة.
لذلك فقد اتسمت نصوصه بكشف صريح لهمومه خاصة منها ما يتعلق بالدراسة الّتي حُرم منها منذ سنواته الصغرى لمّا كان بالابتدائي، ممّا دفع فيه أملاً و إصراراً عظيمين لتثقيف نفسه بنفسه، فتعلّقت همّته بما وراء المعاهد و الجامعات من علوم، فنافس روّاد العلم و تفوّق عليهم و الطموح يحذوه لطلب المزيد و دون توقف.. نهل من العلم ما لذّ و طاب، لم تساوره القناعة و ما أصابه الغرور قطّ. بل كان كلما زادت معرفته زاد معها شغفه لطلب المزيد...و أجمل ما يؤثّث قصصه تلك الملامح الشفافة للأحداث و السّرد السّلس للمشاهد و ما تتخلّله من حوارات أكثر صدقا من الواقع حيث يتوغّل بأغوار النفس ليزيدها شفافية أثناء السرد..
الكاتب و الشاعر العصامي التكوين
هو من مواليد /1961/ و من سكان حلب ، انقطع عن الدراسة مبكراً، و اضطرّ للعمل بميادين عدة مكنته من الاختلاط بفئات متنوعة من الناس كما خولت له التعرف إلى قضايا المجتمع بمختلف أصنافها، ممّا اكسبه معرفة و فطنة لأنواع الفساد المستفحل بالعديد من المؤسسات الحكومية؛ من ذلك الفساد المالي و المحسوبية و عدم الجدية أو غياب الإخلاص بالعمل. و هذا ما أثار غيضه و زاد من شغفه للمطالعة أكثر للإرتقاء بنفسه و فكره عن ذي عالم. فسعى إلى أن يحول كل هذه الملامح على صفحات قصصه التي طوّع، أثناء سردها، قلمه فانسابت كتاباته بلهجة ساخرة، متهكمة على الشخوص الذين كان سخيّا معهم لدرجة منحهم أدوار البطولة، بل و مكنهم من دور الراوي حيث جاء السرد على ألسنتهم، فكانت قمة السخرية إذ يضع البطل في موقف لا يُحسد عليه فيعترف بنفسه عمّا يجول بفكره من حقد و أنانية أو نوايا تعفّنت بأعماقه.
الكاتب و الأديب مصطفى الحاج
حسين، رجل قلّما تجود به الساحة الأدبية، فبرغم القسوة التي غلبت على تفاصيل حياته من داخل الأسرة أو خارجها، فقد جعلت منه إنسانا مسالما، يرفض الظلم للغير و يدافع عن الفئات التي قست عليها الظروف كما قسى عليها المجتمع، فأوْلى هؤلاء حيزاً لا بأس به من مساحة ما نقله في كتاباته، فأقحم بقصصه ابطالاً واقعيّين قست عليهم الحياة و المجتمع على حد السواء.. و من هنا تأتي مجموعته القصصية هذه لتشهد ميلاد ملحمة
أبطالها شخصيات متواجدة بكل زمان و مكان ؛ هم الإخوة و الاقارب، هم الأصدقاء و الزملاء بالعمل، هم المسؤولون و العمال بمختلف القطاعات
المبدع و الكاتب ذو القلم الجريء، لم يدّخر تفصيلة واحدة ليغوص بأعماق الأحداث، فكتب بكل عفوية و شجاعة مميّزين.
و هذه المجموعة القصصية لا يخلو أغلبها من الرّمزيّة، فقد ترك الأديب مجالاً للقارئ ليكمل ما بين السّطور، فاسِحًا له مجال التأويل بحيث لا يصعب عليه، خلال قراءته للأحداث، أن يلحظ البعد الثاني لكل قضية قيْد الدّرس، خاصّة لما تكون البطلة امرأة أو مستضعفة و ينهش لحمها القريب قبل البعيد، أو لمّا يقف الجيران مكتوفي الأيدي، فحتما أنّ تلك الأرملة أو الثكلى بائسة الحال لن تكون، بمواصفاتها تلك والشبيهة جدا للمضطهدة و السّبيّة، إلا رمزا لدولة عربية استخف بها ربّ العائلة قبل ان يفسح المجال واسعاً
للأجوار كي يكملوا رسم عنفهم بجدارة فتكتمل المأساة.
هذه المجموعة القصصية هي نافذة
للآخر، للقارئ لكل من شعر بالظلم بأي مرحلة من مراحل حياته وخلال صيرورة البقاء من أجل الحياة، و لم يسعفه خياله و لا قلمه ليعبر عمّا يودّ كشفه علنًا.
فهذا الكتاب هو بمثابة صرخة عالية، آهة شاهقة التردد ليعود إليه صدى صوته من خلالها. هي نفحة يتنفس عبرها القارئ ليسمع أنينه لمّا يصير الألم لذاذة نكتبها لتُقْرَأ، لمّا يصير الشجن وليدا نحضنه و نطبق عليه فنحويه داخل أضلاعنا، نلفّه كما تلف الأم وليدها، نلفّ أحزاننا حتى تصير جزءً منّا، حتى تتشابه ملامحنا به، فنراها منعكسة بمرآة الحروف تتكاثف و تتراصّ، تتسع و تتمدّد، تتوغل بأعماق النفس ثم تسبح بفضاء الخيال لتكتشف أنك تقرأ للأستاذ (مصطفى الحاج حسين). فتعجب كيف أمكن له مسك كل تلك التفاصيل الصغيرة و التي ساهمت و إلى حد كبير في بناء شديد الارتفاع استدرج خلاله كل التفاصيل؛ ذوات، فواعل شخوص،
جميعها تحضر لتنسج كل المعاني، فيحضر السرد والخطاب منسجمين إلى حدّ الجمالية بلغة سلسة مستساغة، لكن لا تخلو من إبهار القارئ الذي يمسك بتلابيب الصورة والمشهدية حتى النهاية، فلا نقف معه كــقرّاء، على فواصل، إذ الكتابة فيض من التشويق، يأخذ بنا إلى ظلال الحدث، فلا نتوقف حتى نبلغ النهاية.. كالمياه تنساب الكلمات مسترسلة و الحبكة مكتملة الجمالية ، عذبة الخرير، فلا تشعر و أنت تقرأ للأستاذ (مصطفى) بالملل، بل هي تأخذك الى عمق الحدث و بكل نعومة الاسترسال.. قلم جريء و معطاء، بجرة يأخذنا إلى عوالم قصصية تشير إلينا بإحكام ربط حزام الأمان، لنسافر عبر الكلمة الحرة و الصادقة بأجواء يغلب عليها طابع الواقعية فتُجنّد الخيال فقط لخلق مسامرة بين هذا و ذاك، بين نفسك تراها بمواقف و حالك لو استفدت ممّا هو مغاير، لتحصل تلك الإضافة من خبرات الكاتب، فيحصل ما يسمى بالمساهمة خلال عمل تشاركي بين الكاتب و القارئ، تسهم بها في تطوير ذاتك، و إلا فما نفع المطالعة لو لم تضف للقارئ فيتمكن من تطوير فكره عبر تجارب الكاتب؟
قصص تحمل أكثر من دلالة بهذه
المجموعة.. نصوص تحملنا إلى ضفاف النهاية بمهارة ربّان يحمل أفكاره و تجاربه و بعض خصوصياته مرتسمة ببعض أركان النصوص.
قلم مشبع بالسخاء حدّ الاكتفاء، بل و يحملنا إلى ارتفاعات شاهقة من الجمالية و ارتفاعات أخرى تفسح مجال التأويلات المتاحة فيكتسي النص،على يد المبدع تأشيرة للسفر و التوغل داخل خبايا شخوص القصة.
مجموعته القصصية هذه، جاءت لتلخص مسير حياته و مسارها، فكان كاتبنا (مصطفى)"العقاد"، و هذه تسمية أطلقها عليه الأديب و الناقد الأستاذ (محمد بن يوسف كرزون)، الكاتب والناقد السوري الأصل، فكان أنموذجا حيّا للإنسان الذي عمل على تغيير الوضع السلبي بمحيطه وبمجتمعه ككل، لإيمانه بأن الكلمة و الأدب إن لم يغيرا الشعوب فلا جدوى من الكتابة أصلا.
فإن لم نستظل تحت أغصانها وارفة فلن تكون غابات كثيفة بما تحمله من معان و عبره ترفرف بأجمل الكلم و تهدينا رفيفا عذبا لكل معنى ينساب عند كل نسائمها المنكهة أدبيات؛ من قصص و شعر.
تلك هي الظلال، و تلك هي النخيل الباسقات تحملنا إلى عوالم قصصية ، ترفعنا إلى التحليق عبر مجموعة المبدع (ذو الضّفّتين) بقلم الأستاذ (مصطفى الحاج حسين). قراءة ممتعة.
بسمة الحاج يحيى
تونس .
قصص: مصطفى الحاج حسين.


/// المبدع ذو الضّفتين…
قرّرت أن أكتب قصة قصيرة. منذ سنوات وأنا أفكر في هذا المشروع، وكلّما هممّت أبعدتني مشاكل الحياة، وحين تعاودني الرّغبة في الكتابة، أجد أفكاري قد تغيّرت، أو تطوّرت، أوفقدتُ
إيماني بها. فأعود من جديد، إلى دوامة البحث عن موضوع . سأفاجئ الجّميع.. أصدقائي ومعارفي يعرفون أنّي شاعر فقط .. سيندهشون:
- كيف تحولت إلى كاتب قصة؟!.. هل اعترفت بفشلك في الشعر أخيراً؟
أنا لم أفشل في الشعر. أنا شاعر حتى العظم.. منذ بدايتي الشعرية أطلقت على نفسي لقب "ربّ الشّعر".
وأنا مطّلع ومتعمق في علم النفس، ولهذا لا أرى في ذلك غروراً أو نرجسية أو شيئاً من جنون العظمة، والمبدع الموضوعي لا يجد حرجاً في الإعلان عن نفسه إذ لابدّ لكلّ مبدع حقيقي من أن يعرف مقدار قيمة أعماله.. إنّه النّاقد الأول لنفسه.. وبما أنّي أعي كلّ هذا، فأنا ربّ الشعر.
ومن يشكّ في شاعريتي، عليه أن يقرأ قصائدي، عندي أكثر من ألف قصيدة.. كتاباتي غزيرة.. وهذا دليل كبير على أصالة موهبتي.
أكتب أكثر من.عشرة قصائد، حتى يتمكّن غيري من كتابة قصيدة قصيرة!
من أجل كلّ ذلك يحسدني أصدقائي.. ويحاولون بفعل الغيرة والحسد، أن يحطّوا من قيمة أشعاري، مدّعين أنّ الغزارة عدو للإبداع. إنهم يفقدوني رشدي في كلّ مرة أقرأ لهم فيها شعري.
صحيح أنهم يكتبون القصة والشعر
، لكنهم غير مثقفين.. جهلة.. وأنا غير معجب بما يكتبون..لكن، وحفاظاً على الصداقة، ولأنّهم معجبون بشعري،
أمتدح كتاباتهم السّخيفة بعض الشّيء.
أقول في نفسي:
- ماخسارتي لو جاملتهم..إنّهم مبتدئون
.. ثمّ مابهمني إن كانوا فاشلين؟؟ أنا سعيد لأنّ كتاباتهم تافهة، أرى نفسي ذا موهبة عظيمة، حين أقارن شعري بما يكتبون.. وأقول:
- لو أنّي انتقدتهم ، لعلمتهم كتابة الشعر
، ولربّما سبقوني.
في هذه المسألة أنا أناني.. نعم أناني ولا أخجل.. كلّ العباقرة أنانيون، ولا ألام إن أردت أن أكون شاعراً كبيراً وحدي.. أأحفر قبري بيدي؟! دعهم يتخبطون، عندها لن يجد الناس غيري يعترفون به ويمجدونه.
لسوف يحتلّ اسمي الصفحات الأولى
، في جميع الجرائد والمجلات، ولسوف أتفاوض مع إحدى دور النشر الواسعة الانتشار، وأتفق معها على نشر أعمالي الكاملة، من شعر وقصة ورواية، ومسرحية، ونقد أدبي، وسياسي،
ومسلسلات، وخواطر، وتأملات، والمقابلات التي أجريت معي.. وأخيراً كتاب ضخم من عشرة أجزاء، عن ذكرياتي وتجاربي الأدبية المتعددة. ولسوف تترجم جميع أعمالي الإبداعية
، إلى كافة لغات العالم الحيةوالمنقرضة
، ولابدّ لي أن أنال كلّ الجّوائز الأدبية العربية والعالمية، وستقام لي التّماثيل
.. وتوزّع على مداخل المدن، وفي السّاحات العامة، والحدائق والمدارس والجّامعات والمعاهد.. وستعلن الدولة عن جوائز قيمة ”باسمي” تشجيعاً للأدباء، في كلّ زمان ومكان، سأكون مدرسة لجيلي وللأجيال القادمة، لي مدرستي الخاصة، ومذهبي الخاص، ورؤاي.. سيعتبرني البعض أديب الفلاسفة، وآخرون مفكر الأدباء،وفي هذه الأحوال سأكون غنياً جداً.. وسيكف والدي عن لومي.. ولن يقول لي بعد اليوم:
- الشعر لا يطعم خبزاً.
وأيضاً سيضطر إتحاد الكتاب العرب لقبولي عضواً فعالاً.. وربما صرت في المستقبل أميناً عاماً له، أو رئيس تحرير مجلة، وحينها لن أستمر في مجاملة أصدقائي. لأنّ عملية النشر مسؤولية كببرة، وبطبيعة الحال لن أسمح بنشر أعمال تافهة.. سأكون حاسماً معهم، وسأكتب في زاوية “إلى القراء”:
- أيها الأصدقاء، أعمالكم غير صالحة للنشر، لضع المستوى.. سيشتموني كما شتمتُ محرر جريدة، اعتذر عن نشر قصائدي، لقد كنت محقاً في شتمه، لأنّ قصيدتي جميلة بالفعل، وأنا هنا لست منحازاً مع نفسي، ولكنٌ أصدقائي مخطئون إن شتموني، فما ذنبي إذا كانت أعمالهم تافهة، وفي ذات الصفحة، سأنشر قصيدة مطولة لنفسي، ليتعلموا كيف تكون الكتابة وسأنشر دراسة نقدية عميقة ومطولة عن قصيدتي، أكتبها أنا بنفسي، وأنشرها باسم مستعار، لأنّ نقاد هذه الأيام لا بعجبوني أيضاً.
ومع هذا، ورغم ثقتي المطلقة بموهبتي الشعرية، فأنا مصمم على كتابة القصة. عندي مواضيع كثيرة، وفي غاية الأهمية، تصلح لأروع القصص، ولن يقدر أحد سواي أن يكتب عنها.. لقد عشتها.. وخبرتها.. فأنا صاحب تجارب واسعة بكلّ المجالات، أختلف تماماً عن أصدقائي الكتّاب، ولا أتصوّر أن يكون أحداً منهم مثلي يملك مثل هذه التجارب الواسعة، فإذا كان الواحد من أصدقائي قد أحبّ مرّة أو مرتين، فأنا أحببت أكثر من خمسين مرّة.. وإن كانت له علاقة غرامية مع أنثى، فأنا لي عشرات العلاقات، وإن كان واحدهم توظّف مرّة أو أكثر في التّدريس، فأنا والحمد لله، توظّفت في عشرات الوظائف، وعلى كافة
المستويات، من المهن إلى العامل العادي، إلى الإدارة ثمّ التجارة الحرّة.
وإذا كانوا يحلمون بدخول السجن مرة واحدة، حتى يدّعون أنّهم أصحاب تجربة.. فأنا، والحمد لله، دخلته مرات عديدة.. لكنني لم أدخله بتهمة سياسية
، كنت حريصاً على أن لا أشوّه اسمي عند الحكومة.
لقد تصوّرت أن يقوم أحد من أصدقائي
كتّاب القصّة بالكتابة عن تجاربي، ولكن.. وفيما يبدو لي، فإنّ أصحاب المواهب الصّغيرة، يبحثون عن
المواضيع التي تناسب مقاساتهم.
خطر لي أن أباحث أحدهم، علّه يستفيد مما مرّ بي.. ولكنني أحجمت.. نعم.. لما لا أكتب عن نفسي بنفسي؟! .. وهل سيقدّر فعلي إن أسديت له هذه الخدمة؟.. لا.. بل وسيدّعي أنه مبتكر الموضوع، أو أنّه جرّبه بنفسه.
ألم يفعل أصدقائي الشعراء ذلك؟
.. أحدهم زارني وصادف أن كنت في حالة شعرية لا توصف.. وعلى الورقة البيضاء أمامي عنوان لقصيدة جديدة سطرته بانتظار الوحي.
دخل، فوقع بصره على الورقة، ولم يلبث أن غادرني لأرى بعد أيام، قصيدة له في إحدى المجلات، عنوانها” بانتظار
حبببتي أجلس القرفصاء”، الملطوش من عنواني” أنا وحبيبتي نجلس القرفصاء تحت المطر”.
لهذا لن إطلع أحداً من أصدقائي،
على مواضيعي الرائعة.. سأباغتهم بقصتي وهي مكتوبة، وكتابةالقصّة بالنسبة للشاعر سهلة للغاية، لا تحتاج إلى حالة ولا إلى انفعال.. كتابتها تستطاع في كلّ حين، لأن الشاعر موهوب من الدرجة الأولى، وكاتب القصة موهوب من الدرجة الثانية.. سيحتجّ القاصّون ويسخرون، لكن هذا لا يهم، فأنا هكذا أعتقد.
إذاً:
- كلّ شيء متوفر لديّ.. التّجربة، والثقافة والموهبة - ذات الدّرجة الأولى - فلم لا أكتب القصّة؟!.. فعن الثقافة لا أحد يجاريني فيها من أصدقائي، رغم أنّهم أساتذة وطلاب جامعة، وأنا لا أحمل وثيقة الإبتدائي، صحيح أنني أخطيء في النحو وقواعد الإملاء.. وصحيح أنني ألجأ، اليهم كي يصلحوا لي أخطائي، ويشكّلوا لي كتاباتي.. وصحيح أنّ خطي رديء للغاية. ولكن هذا لا يهم.. طالما أنّي أكتب أشياء جميلة.. أنا مثقف جداً..لأنني أقرأ كثيراً
..فإن كانوا يدرسون في الجامعةعشرة
كتب خلال سنة..فأنا أقرأ خمسين كتاباً خلال هذه السنة.. ورغم أنّي بعت كتبي مرّات عديدة لهم بسبب ديوني المتراكمة.. وبسبب تورّطي مع امرأة مطلّقة، وكان علينا التخلّص من الجّنين
، الذي بدأ يتكون في أحشائها.. بعتهم كتبي ودفعت ثمنها للطببب.. غير أنّي أستعير منهم الكتب بكثرة، ومع ذلك ما زلت أملك الكثير من الكتب الماركسيّة
.. لم أبعها بسبب رخص ثمنها، وبسبب
توفّرها في المكتبات في كلّ حين.
سأكتب القصّة.. وأعرف أنّهم سيحرجونني..وكم يحرجون المبدعين؟! سيقولون:
- طالما أنّك شاعر، وطالما أنّك تدّعي الموهبة من الدّرجة الأولى..لماذا تتنازل
وتكتب القصّة؟!.
سأقول لهؤلاء:
- العيب ليس فيّ.. العيب في الشّعر نفسه.. إنّه لا يستوعب تجربتي..إنّه فنّ التّجريد والصّورة والرّمز والإيحاء والتّكثيف وركزوا على التّكثيف.. وأنا مليء بالمواضيع والحوادث الحيّة والملحميّة.. أنا أريد أن أطرح مواضيع هامة وسهلة، والنّاس يفضّلون القصّة على الشّعر.. حتّى أنّ زوجتي تحبّ القصّة أكثر من الشّعر.. هكذا تقول لي، وهاذا مايحزّ في نفسي صراحة… لذلك قررت أن أكتب قصّة.. ولكنني حائر.. نعم حائر، حتّى الآن وأتساءل:
- ماذا سأكتب في قصّتي الأولى؟!.
حلب
/// خارج دائرة النّسيان...
ليس بوسعي أن أنسى ذلك اليوم، سنوات مضت ومازلت أذكر بألم جمّ تلك الحادثة المريرة، فاعذرني ياأبي إن رويتها اليوم، ليس بقصد التّشهير بك، فأنت تعلم أنّي سامحتك من كلّ قلبي، أنا لست حقوداً لا سيّما على من كان صاحب الفضل والإحسان عليّ.
حاولت كثيراً أن أمتنع عن كتابة قصّتي هذه، بل كتبتها مراراً ومزّقتها ودموعي لا تنقطع، وأنا أتّهم نفسي بالحقد عليك، وأخجل أن يطّلع الناس على مافعلته بي ذلك اليوم.
لكنّني لا أقدر على النّسيان، لقد كانت تجربة قاسية، أقسى مما تتصوّر، ربما تظنّ أنّني نسيت، خاصة وأنت ترى تعاملي معك حالياً، خالياً من أيّ كرهٍ أو حقد.. ولكن لعلّك أنت الذي نسي، لو كنت مكانك وفعلت ما فعلته معي، لكنت اعتذرت من ابني آلاف
المرات، بل لطوّقته وبكيت حتى أرغمه على مسامحتي.. فعلى الأباء أن يعتذروا أحياناً.
لذلك اعذرني إن رويت الحادثة، وأعدّت صورة الماضي، أنت لم تعتذر منّي مع أنّي أعلم أنّك ندمت، لأنّ مافعلته معي ليس من جوهر شخصيّتك، صحيح أنّك تبدو لنا نحن
أولادك حازماً قاسياً، لكنّك تملك بين جوانبك قلباً طيّباً.. أنا أعرف السّبب الذي دفعك لتقدّم بحقّي الشّكوى إلى النيّابة العامّة. إنّه ابن عمّك.. إنّك تنسى نفسك وتنساق مع آراء الآخرين
وأقاويلهم. فإذا جالست رجلاً متديّناً واظبت على الصّلاة والتّقوى، وتبدأ بالتشديد علينا، علّنا تقتدي
بك!، لكنّك سرعان ما تغيّر هذا وتنقطع عنه، إذا جالست رجل آخر، متزمّتاً قاسياً، فتفكّر بإخراج بناتك من المدرسة، لأنّ قناعة صاحبك تقتضي بأنّ البنت خلقت خادمة في البيت فقط.
هكذا أنت، تتأثّر بآراء الآخرين، إن صادقت جاهلاً كرهت العلم، وإن تعرّفت على بخيل بخلت علينا، وإن شاهدت ريفيّاً حننت إلى موطنك الأصلي مدينة " الباب "، وأخذت تفكّر ببيع المنزل والعودة إلى بلدتك الصّغيرة، مع أنّك رحلت إلى "حلب"
بحجّة أنّ مستقبل أولادك هنا أفضل . لذلك كلّه فأنا لا ألومك، بقدر ما أشفق عليك.
حدث ذلك كما تذكر، عندما قدّمت استقالتي من المخبز الآلي، وذهبت لأعمل معك في مهنة البناء، صنعتنا الأزلية.
"أبو سعيد" شريكك كان يحرّضك ضدّي، ولطالما نبّهتك لهذا، فكنت تنفيه، وتقول:
- لا أحد يقدر على التّدخل بيننا.
ولكنّك أردتني أن أعود طفلاً.. فلقد أهال "أبا سعيد" أن يراني أدخّن أمامك،
فأخذ ينتقدني وبدأت أنت تتحسّس، مع أنّك أنت الذي سمحت لي بالتّدخين منذ أكثر من عشر سنوات.
كان "أبو سعيد" يطمع أن يدمّر علاقتنا
ولا أدري ما هو قصده، لكنّني كنت أحسّ بهذا جيداً، وأنت لا تريد أن تسمعني، وبوماً بعد يوم، كنت تسمع صوت "أبي سعيد"، فصرت تنزعج منّي لأنّي مشغوف بالقراءة والكتابة... وأنت تعرف أنّي نشأت على هذه العادة، وكم كنت تسرّ يوم أنشر قصيدة في الجّريدة، فتتباهى بي أمام الآخرين، إذاً ما الذي غيّرك إن لم يكن "أبو سعيد"
؟!.. كان
رأيك مشابهاً لرأيه، أصبحت تناقشني كثيراً في خطورة استمراري في المطالعة، كما كان يناقشني"أبو سعيد":
- من يقرأ كثيراً يفقد بصره بالتّدريج.
- غداً عندما تتزوّج.. زوجتك لن تتحمّل جلوسك صامتاً قربها وأنت تقرأ.. المرأة بحاجة إلى رجل، رجل يروي شهوتها، فالنساء بسبع شهوات.
ولقد توقّع لي"أبو سعيد" أنّ زوجتي في المستقبل ستخونني لأنّني سوف أهملها وأهتمّ بالكتابة والقراءة.
وأنت يا أبي كنت تؤيده ، وأخذت تردّد كلامه وأنت تقول لي:
- "أبو سعيد" لا علاقة له بالموضوع.
ألا تذكر كيف أخذك وأمّي إلى المرأة المشعوذة، حتّى تستشفّ لكم مستقبلي ودفعت لها خمسمائة ليرة سوريةمقابل
أنّها بصقت لكم في كوب ماء، وصارت أمّي وشقيقاتي يضعن لي قطرة من هذا الكوب في الشاي والقهوة دون أن أعلم.
لم يقتصر أمرك مع "أبي سعيد" على هذا فقط، بل أردتما أن تجعلاني ولداً صغيراً لا شخصية له، صرت تدقّق على طريقة جلوسي أمامك، تنتقدني إن وضعت رجلاً على رجل، أشياء كثيرة صارت تزعجك منّي، رؤيتك لي بالقميص الدّاخلي.. حركتي.. كلامي، كلّ شيء.. ماعدتَ تثق بي وبرجولتي، وأنا ابن الخمسة وعشرين عاماً، نسيت َ أنّني كنتُ موظّفاً ورئيس ورديّة في المخبز، ومسؤولاً عن مائة وخمسين عاملاً وعاملة.. كلّ هذا لأنّني صرت أعمل معك ومع "أبي سعيد" شريكك، ماذا كنت تريدني أن أفعل؟، ألّا أقدّم استقالتي وأشاركهم في سرقة ونهب المخبز؟!.
أنت تعرف لم يكن أمامي إلّا الاستقالة
، وكان الأجدر بك أن تعتزّ بابنك الذي ضحى بوظيفته حتّى يحافظ على نظافته.
ما كنت أحسب أنّك ستستغلّني بالعمل
معك بهذه الطّريقة!.. تشغّلني عندك بأجرة أقلّ من أجرة أيّ عامل عندك، وأنا معمار ولست بالطيّان، وكنت أحياناً تمتنع عن دفع أجرتي وتؤجّلها، وأنت تعرف أنّي مدين لمصرف التّسليف الشّعبي، وإذا طالبتك، قلت لي عبارة
"أبي سعيد":
- الولد إن اشتغل عند أبيه، لا أجرة له.
عندما تركت الشّغل معك جنّ جنونك
..أهنتني، وطلبت منّي مغادرة المنزل، عند ذاك لم أعد أحتمل، فصرخت
بوجهك:
- ولكنّي أريد حقّي.. أجرتي.
قسوتَ عليّ وقلتَ أفظع الكلمات، فهدّدتك بقتل نفسي، وخرجت.
وعندما عدتُ أخبرني أخوتي بأنّك قدَّمتَ شكوى بحقّي إلى المخفر.. وأنّك دفعت لهم رشوة مقابل أن يضربوني ويهينوا كرامتي، لم أصدّق الخبر، ولم أتخيّل مطلقاً أنّك ممكن أن تفعل هذا!
.. لكنّي في الصّباح شعرت بك وأنت تفتح باب غرفتي (تتأكّد من وجودي)، تظاهرت أنا بالنوم، وخرجتَ أنت، فانتابني إحساس بأنّك ذاهب لإحضار
رجال الشّرطة، فلم أتحرّك من مكاني، أردت أن أحقق لك حلمك فتنفّذ فكرتك
تلك.
غفوتُ.. ولم أصح إلّا على الجّلبة، وإذا بي أرى الشّرطة حول سريري، انقضّوا عليّ كمجرمٍ خطيرٍ، وأخذ سمينهم يضربني، بينما كنتَ ياأبي تقف خلفهم تشاهد مايجري هالني الأمر واحتججتُ،ولكنّهم أسكتوني بضرباتهم
وسبابهم.. في تلك اللحظة غلى الدّم في عروقي، وشعرت نحوك بكرهٍ شديد.. كنتَ شامتاً بي، صرختُ في وجوههم:
- أنا أعرف أنّه أعطاكم رشوة كي تضربوني.
ازدادوا شراسة، وقال سمينهم:
- سنكسّر رأسك يا كلب.
قادوني في ملابس النوم إلى سيارتهم
،وأوثقوا يديّ ، أمام الجيران، وخوف أخوتي الصّغار، ودموع أمي وأخواتي اللواتي يشهقن خلف الباب، وصعدتَ أنتَ إلى جواري، كنت في السّيارة تدخن بصمت ولكنّك تتشفّى بي، كأنّي عدوٍ.. وفي المخفر، لم أنج من ضربات الضّابط، وهو يقول لي:
- وسكران أيضاً ياحقير.
- أنا لستُ سكراناً.. ولا أسكر.. وكنت نائماً.
صرختُ والألم يمزّق أعماقي، لكنّه كان قابضاً منك ثمن ظلمه لي، لذلك لم يكترث لكلامي، وأمر رجاله أن يأخدوني ليعملوا اللازم.
أدخلني المساعد إلى غرفة مليئة بالأسرة وراح يستجوبني.. اسمي.. عمري.. عملي.. سبب تركي وطيفتي.. ثم سبب خلافي معكَ.
وكان أحدهم يسجّل أقوالي، ثمّ أخذوني إلى "النظارة"..وطلبوا منك
أن تذهب للبيت لتحضر لي بطاقتي الشّخصية وثيابي.
بفضلك يا أبي الحنون أدخل لأول مرّة "النظارة" المعتمة، لم أجد بها رفيقاً
كنت بمفردي، شدّة الظّلام جعلتني لا أرى شيئاً، ومضت أكثر من ساعتين كدهر وأنا موقوف لا أتبيّنَ شيئاً من حولي، لم أشعر سوى بالرطوبة وروائح التّبول والعفونة. وقفت أبكي وأنا أشكُّ أنّني في حلم مزعج... وتذكّرت أشياء كثيرة:
- (ترى ماذا ستقول خطيبتي إن علمت بالأمر)؟؟!!
أقسمتُ ألّا أنسى لك هذا الموقف ماحييت ياأبي، عاهدت نفسي على نسيانك إلى الأبد، لن أعود إليك بعد خروجي، سأهجر البيت إلى أن تموت.. تذكرت أمّي وشقيقاتي، لا بدّ أنّهنّ يبكين، ولكن ماذا يستطعنَ؟! إنّهنَّ يرهبنك.. بكيتُ بحرقة وتمنّيت أن أموت.
سمعت حركة على الباب، ثمّ فتح الشّرطي ومن خلفه أنت، تناوله ثيابي وخذائي، فقلت لك:
- بسيطة يا أبي.
فهجم الشّرطي وصفعني بقوة.. وخرجتما، فتّشت جيوبي أريد علبة التّبغ، وكانت خيبتي كبيرة عندما لم أجدها، تيقّنت أنّك أخذتها لتحرمني حتى من التّدخين. ولم أجد في جيوبي ماكان فيها من نقود قليلة:
- (ياالله كم كنت قاسياً وفظيعاً!!).
و بعد أكثر من ساعة، في ذلك المكان المظلم والكريه، فتح الباب وناداني الشّرطيَّ، وضع الحديد في معصميّ وقادني إلى الشّارع، ياله من منظر مهين ومؤلم، سار بي ثلاثة من الشّرطة، فاقتحمتني نظرات الناس من حولي، والشّرطة يبحثون عن سيارة أجرة لينقلوني إلى القصر العدلي،
أخيراً أوقفوا سيارة وصعدنا، أشعل الشّرطيَّ الجالس إلى يميني سيكارة.. فقلت له:
- هل يمكنني أن أطلب منك واحدة؟
رمقني بنظرة ازدراء:
- لا ليس ممكناً.
لمتُ نفسي لأنّي طلبتُ من هذا الوحش سيكارة.. وبعد قليل قال لي آمراً:
- ادفع للسائق أجرة السّيارة. قلت مقهوراً:
- لا أحمل نقوداً.. والدي أفرغ لي جيوبي.
التفت نحوي الشّرطي الجالس قرب السّائق:
- وتريدنا أن ندفع الإجرة من جيوبنا يا كلب.
هربت منهم بنظراتي عبر نافذة السيارة، (الناس فرحون بحريّتهم).. وماهي إلّا دقائق حتى كنّا في القصر العدلي، ووجدناك. تنتظرنا، فأخذوا منك إجرة السّيارة.
سرنا إلى داخل القصر، أدخلوني إلى مكتب، بصمتُ على ورقة لا أدري ما كتب فيها، ونصحني الموظّف أن أقبل يدك وأطلب السّماح منك، ولا أدري كيف سمعتُ كلامه وانحنيت لأخذ يدك لأقبّلها، لكنّك سحبتها بعنفٍ ورفضت.
رفضتَ أن تسامحني فشعرتُ بالإهانة والنّدم، وحقدتُ عليكَ وعلى ذلك الموظف الأشيب.
بعد ذلك توجّه بي الرجال الثّلاثة، نحو قبوٍ.. مشينا في ممرّات عديدة، حتّى وصلّنا النظارة الكبيرة، التي تعجّ الموقوفين المختلفي الأعمار والأحجام
..أدخلوني بينهم.. كان بعضهم يدخّن، لكنّي أمسكت نفسي عن الطّلب خشية الصّدمة الثّانية.. كنتُ فقط أقترب من المدخّنين لأتنشّق الرائحة منهم.
كيف لك أن تلومني على كتابة هذه القصة بعد ياأبي؟! وأنا أتذكّر كلّ هذه الأمور، محال أن أنسى، فأرجو أن تغفر لي ذلك.
خطر لي أن أبيع خاتم خطوبتي، لأيّ واحد من هؤلاء الموقوفين، وأشتري من السّجان السّكائر والشّاي والصندويش.. تذكّرت "رغداء" خطيبتي، وموقفي منها، فقررت أن أفسخ الخطبة، لأنّي ماعدت قادراً على مواجهتها بعد أن أدخلتني هذا المكان، وقبل أن أحسم الموقف، نادى الشّرطي باسمي، فخرجت معه والقيد من جديد عاد إلى يديَّ.
أمام باب وكيل النّيابة، فكّ قيدي وأدخلني، وقفت أمام طاولة الوكيل صامتاً مطرق الرّأس، حدجني بنظرة متفحّصة، ثمّ عاد إلى أوراقه، شعرت بالحسد تجاهه، أحسست بالدّونية، أنا في نظره مجرم، عاق وتافه.
طالت وقفتي، وامتدّ انتظاري، الهدوء مخيّماً على المكان، فسعلتُ لأبدّد هذا الصّمت القاتل، وأنبهه إلى وجودي..
الكراسي كثيرة في الغرفة، فخمة وأنيقة، وأنا أقف متعباً وذليلاً، وهو كما يبدو لا يدخن فلا أثر لسيكارة أو منفضة.
رفع رأسه أخيراً عن أوراقه:
- حدّثتي يا "مصطفى".. كيف هدّدت والدك بالقتل؟
مادت الأرض تحتي، شعرت بضربة قويّة هوت على رأسي.. أيعقل هذا؟! أإلى هذا الحدّ بلغت قسوتك ياأبي؟! تتهمني بالقتل؟!؟! وانفجرت دمعتي بالكلام:
- سيدي.. أنا لم أهدّده بالقتل.. صدّقني.
تطلّع إليّ.. تفرّسني بشدّة.. وقال:
- لكنّ والدك يدّعي عليك، والتّهديد بالقتل أفظع من الشّروع به.
ماذا أقول له يا أبي؟! ماذا أقول؟!:
- أبي يكذب.
صعب عليّ هذا القول ياأبي.. صعب عليّ.. لا يجوز لي أن أقول عنك كاذب. قلت بصوتٍ مختنق:
- سيّدي.. اسأل أمّي وأخواتي.. لم أهدده.
قاطعني:
- الشّكوى من الوالد بحقّ ابنه لا تتطلّب شهوداً.. والدك صادق حتماً.
وصرخت:
- سيّدي.. هذا لا يمكن، يحدث أن يكون هناك آباء قساة، بكلّ سهولة يظلمون أولادهم، ووالدي منهم.. بل وفي مقدّمتهم، أقسم أن يقدّم الرّشوة للشرطة حتى يضربوني.. ويكتبوا المحضر كما يريد.. وها هو قد فعل.. أنا يا سيدي لست جاهلاً حتى أقدم على مثل هذه الحماقة.. أهدّده بالقتل!!!.. لا يا سيدي.. أنا شاعر.. مثقّف، وإن كنت لا تصدّق خذ هذه الورقة المقصوصة من جريدة " البعث "، والتي وجدتها لحسن الحظ في جيبي، وأنا أفتّشه
عن علبة الدخان، في المخفر.
تناول المحقق من يدي الأقصوصة،
وأخذ يقرأها وينظر إلى الصورةالمرفقة
معها، ونظر إليّ، إنّها صورتي دون أدنى شك.
كنت أراقب تعابير وجهه، شعرت أنّ ملامح القسوة قد تلاشت وحلّت محلّها ملامح إنسانية دافئة رقيقة. بعد أن فرغ من القراءة، نظر نحوي.. فأحسست بالأمان.. إنّه إنسان طيب، لا بدّ أنّه سيتفهّم وضعي.
ولأوّل مرّة يشير إليّ بيده، ويطلب منّي الجلوس، ففعلت لقد كنت منهكاً تماماً. قال:
- أنا آسف يا أستاذ "مصطفى"... أنت شاعر فعلاً.. كنت أظنّك مجرماً عاقاً لأبيك.
فأخذت أسرد عليه حكايتي، وهو يهزّ لي رأسه، حدّثته عن كلّ شيء... فأخذ ينصحني بمسايرتك ومجاملتك كما يفعل هو مع والده الشّديد الصّعوبة في التّعامل، وأقسم أنّه كان عازماً على إيقافي شهراً كاملاً.. لكنّه غيّر رأيه، وسوف يفرج عنّي.
عندما خرجت.. كان المطر يهطل بغزارة، ولحسن حظّي كانت السّرايا تقع قرب قلعة حلب، أي هي قريبة من مركز المدينة، السّوق التّجاري العظيم، فانطلقتُ إلى سوق الذّهب. وهناك بعت خاتم الخطبة، واشتريت على الفور علبة سكائر، وبعد أن أحرقت عدّة سكائر بشغف وجنون، دخلتومطعماً
وأسكتُّ عواء معدتي الخاوية.
عدتُ إلى البيت لا من أجلك، بل من أجلِ أمّي وشقيقاتي..
وليت الأمور وقفت عند هذا الحد، ظلّت المحاكمة بيني وبينك تلاحقني لأكثر من سنة، وكنت ترفض أن تسقط حقّكَ، وترفض أن تعترف أمام القاضي بأنّي لم أهدّدك بالقتل.. ولم أتخلّص من هذه الورطة، إلّا عن طريق محام كان صديقي وهكذا أنقذني من سجنٍ كان محالة سوف أدخله.
حلب
/// - خيرو.. والجهات الأربع...
سأريكم ما أنا فاعل يا أولاد الكلب، وقسماً بالله لسوف أدفنكم أحياء.. منذ اليوم ستعرفون من أنا، وعندها ستندمون على أفعالكم السّيئة معي.
أنا (خيرو الأشرم).. الذي كنتم تعاملونه بتكبر وأحتقر، وتمنعون أولادكم عن مصاحبته، فإن كنتم تتعوذون من الشّيطان إن رأيتم خلقتي، فسأجعلكم تتلون آية الكرسي، لو مررتم بالقرب مني.
لقد خرجت من السجن لأرسلكم إليه.. الواحد تلو الآخر.. أخبرت ضابط الأمن بأنكم تتعاطون السياسة.. فطلب منّي التّعامل معه، ووعدني أن يدفعوا لي راتباً، إذا حملت له معلومات عنكم.
جاء اليوم الذي حلمت به طويلاً
.. لم أعد أحسب حساباً لأحد منكم.. سأرافق العاهرات في عزّ النهار إلى بيتي، وأطرد أمي لبيت الجيران، لأتمتع بصاحبتي، ولن أخشى التبليغ عني، لأنني منذ اليوم، صرت واحداً من الحكومة.
يا أولاد الحرام لن يجد الواحد منكم وسيلة للدفاع عن نفسه، لأنهم لن يصدقوه سلفاً، مهما كانت صفحته بيضاء.. ولن يعرف أحد مكانه، ولن يجرؤ أيّ محام فيدافع عنه.
سأبدأ بكَ يا "أبو قاسم" الزّفت، ياصاحب الرأس الكبيرة، والأنف الأفطس، يأعلمكَ كيف تديّن جميع أهل الحارة من دوني، سأغلق متجرك، وسأبلغهم بأنك تشتم الحكومة، وأشهد عيكَ أنا.
وأنت يا "أبو حميد" أيها الخنزير الأشقر.. سأعلمك رفض خطبتي لابنتك "حميدة"، وكيف تقول لأمي التي أتمنى من كلّ قلبي، أن يقصف الله عمرها، ويريحني منها ومن دعائها عليّ، وعلى اليوم الأسود الذي حملتني به.. سأقتلها ذات يوم مع جميع أولادها، حتى وإن كانوا أخوتي، أخوتي.. ههههها.. مرحباً أخوتي.. أنا أخوتي جيبي.. طز بأخوتي
.. سأجعلهم يتبعون أباهم، ذلك العجوز الخرف، الذي تقول أمي عنه، بأنه مات بسببي، يوم داهم الشرطة بيتنا، في منتصف الليل، لأنني أقدمت على سرقة "تلفزيون" ملون، من دار جارنا
" أبو مروان"، ما ذنبي إن كان والدي جباناً يخاف من الشرطة؟! أنا لم أقتله، قتله جبنه، والأب الجبان لا بشرف ابنه القبضاي مثلي.. أقول:
- مازلت أذكر يا أبا(حميد)، قولك لأمي:
- أنا أعطيكِ البنت يا أم'خيرو" لأنَّ المرحوم "أبو خيرو" كان أكثر من أخ لي.. ولكن بشرط أن يترك "خيرو" المشاكل، فلا يعود إلى المشروبات والمخدرات، أو لعب القمار، ومرافقة العاهرات والسّرقة.. والأهم من ذلك كلّه، أن يتعلّم صنعة محترمة تطعمه خبزاً حلالاً، هذا شرطي الوحيد.. ومن حقي أن أطمأن على مستقبل ابنتي "حميدة"، وإذا كان يرغب "خيرو" بها، عليه أن يقبل بذلك، وحميدة له.
الله، الله.. تكرمت عليّ بابنتك "حميدة"
، اسمع ياغبي أنا رجل.. أفعل ما أشاء، والرجل لا يعيبه إلّا جيبه، هل فهمت
؟! ماذا حسبت نفسك يا "أبو حميدة" النذل، أمسكتني من يدي التي توجعني
؟! وأردت فرض شروطك عليّ!!، ليكن بمعلومك أنني لم أعد أريد ابنتك "حميدة"، وغداً عندما تزوجها، ستعود إليك منذ الصباح الباكر، حاملة لك العار.. لأنني مزّقت بكارتها، ولسوف تندم أيها التيس، حين لا ينفعك الندم.
سأخبر عنكَ لأنك تسبّ الحكومة، كلما سحبت نمرة بانصيب خاسرة.. وعندها تصبح ابنتك "حميدة" عاهرتي إلى الأبد، وأنت داخل السجن.
أما أنت يا أستاذي المبجّل "ساجد العمري"، هل تظن بأني نسيت فلقاتك الحارقة؟! مازلت أذكر كيف كنتُ أذبح "الجرابيع" وأدهن يديّ وقدميّ بدمائها حتى لا تؤثر بها "الست مروش" كما كنت تسمّي عصاتك الغليظة، والموجعة، لقد كنت لا تعلمني بل تضربني فقط، بينما كان ابنك "عامر" لايضرب، وهو أكثر كسلاً مني.
أنت تستحق الإعدام أيها "الجربوع" المخبأ خلف النظارة، لذلك سأخبر عنك، وأنقل لهم شتائمك عن الدولة، في كلّ حديث يدور في الحارة، عن الرواتب والأسعار.. سأذكر لهم عباراتك كاملة (كان الأستاذ من قبل مضروباً بحصوة كبيرة.. أما اليوم، صارت الصدقة تجوز عليه.).
وأنت يا "أبو سليم" يا الذي رفض أن يعلمني الخياطة، لأنني ولد شقيّ، أقوم بتقطيع الأقمشة في غيابك
.. سوف أخبر عنك.
وأنت يا "حسن" يا من تكبرت على رفيق طفولتك حين دخلت الجامعة.. سأبلغ عنك.
وأنتم.. أنتم جميعاً.. سأبلغ عنكم.. كلكم أعداء الحكومة، وسأخبر عن نسائكم وعن أطفالكم، وسأبلغ عن الحارة بكاملها، بل عن المدينة بأسرها، وعنك يا من تقرأ هذه القصة سأبلغ عنك.. قسماً بالله.. وهذه "مسكة" على شواربي التي ترعب النسر، سأسوق المدينة بسكانها وعماراتها وشوارعها إلى اليجن، ولن أرحم أحداً.. لن أرحم أحداً.. سأشعل النيران بسوريا.
حلب ١٩٨٧


/// إجراءات..

أعلنت وزارة الترببة مسابقة لتعيين مدرّسين للّغة العربية، فسارع "تحسين" وقدّم أوراقه.. لقد مضى على تخرّجه سنتان وهو دون عمل.
كان عليه أن يخضع لفحص المقابلة في العاصمة، وحينما عاد كان متفائلاً، لأنّ اللجنة الفاحصة سرّت من أجوبته، ومما ضاعف من سروره، إعجابها بقصيدته التي ألقاها على مسامعهم.. ذلك أنّ "تحسين" شاعر مشهود له في مهرجانات الجامعة.
بعد أيام جاء شابان إلى الحارة، وسألا
عن "تحسين" وسلوكه الشّخصي وعائلته واتجاهاته السياسية.
فأسرع السٌمان "أبو علي" وكعادته في
المبالغة، أضف إلى كرهه ل "تحسين"، قال:
- أستاذ "تحسين".. لحظة من فضلك.
توقف "تحسين" عن السّير، بينما كان
"أبو علي" يخرج مسرعاً من دكانه:
- أهلاً.
- سألوا عنّك اليوم.
- سألوا عنّي.. من هم؟!.
- رجال المخابرات.
امتقع وجه "تحسين" واضطرب صوته
، واتّسعت في عينيه الصّغيرتين إشارة استفهام كبيرة:
- المخابرات سألوا عنّي؟!.. لماذا؟!!
ولمّا أدرك السّمان أنّه سيطر على "تحسين" الذي يعامله باستعلاء دائماً، ولا يشتري من دكانه، قال بتلذذ:
- سألوا عن اتجاهك السّياسي!!!.
انبثق الذّعر كعاصفةٍ في أعماقِ "تحسين" ارتجف كيانه، لم يعد يتمالك نفسه، فحوّل الكتب التي يحملها إلى يده اليسرى، وقال بصوتٍ مرتعش:
- وماذا قلت لهم يا "أبو علي"، أرجوك طمئني، شغلت بالي؟؟.
وجاء درو "أبو علي" ليبالغ ويكذب
كعادته دوماً:
- والله يا أستاذ "تحسين"، قلت بحقك كلاماً جميلاً، أخ لا يقول عن أخيه مثل هذا الكلام.. نحن أخوة يا رجل، حتّى وإن كنت لا تشتري من عندي.. ماذا تريدني أن أقول؟ أمن الممكن أن أتفوّه بكلمة تؤذيك، وتقودك إلى السّجن؟!.
غارت الأرض من تحت قدميّ"تحسين"
، وردد مستنكراً:
- السّجن؟!.. ماذا تقول يا "أبو علي"؟!..
هل أنا مجرم؟!.. أنا لا علاقة لي
بالسياسة.
ضحك "أبو علي" بخبث، وسدّد نظرته
التي يعتقد بأنّها ذكية:
- أنتم الأساتذة لا أحد يقدر عليكم، كلكم تدّعون البعد عن السّياسة، لم أسمع من يعترف بعلاقته بها، مع أنّه قد يكون من أكبر السّياسيّن.
ثمّ كرر ضحكته الخبيثة:
- معلوم أستاذ "تحسين"، هذه سياسة وليست لعبة.
لام نفسه بشدّة لأنّه لم يكن يشتري
من دكان "أبو علي":
- أبو علي.. أنا فعلاً لا علاقة لي بالسياسة.
- الله أعلم.. وعلى كلّ حال خذ احتياطاتك، الحذر واجب.
وانتبه "أبو علي" على زبون يقف أمام الدّكان، فانصرف دون استئذان.
دخل المنزل. نادته أمّه ليشاركهم العشاء:
- لا أريد.
ودخل غرفته، أغلق الباب، استلقى
على السّرير، أشعل سبجارة، وراح يفكّر:
- لماذا يسألون عنّي؟.. ما الأمر!!!.. ما علاقتي بالسياسة؟!.. وأنا لم أتدخل بها
إطلاقاً!!.. وما قال "أبو علي" عنّي؟!..
كلّ أهل الحارة يعدّونه مخبراً، اللعة عليّ يوم قررت عدم الشّراء من عنده.. هل هناك شبهة تدور حولي؟؟!!.. آه ... نعم.. نعم.. أصدقائي هم السّبب، لا حديث لهم سوى السّياسة.. عدم توفر فرص للعمل.. استحالة الزواج في ظلّ هذه الظروف المعيشيّة.. غلاء الأسعار.. فقدان المواد التّموينيّة.. الحرّية.. الدّيموقراطية.. تكافؤ الفرص... رجوتهم كثيراً أن يتركونا من هذه الأحاديث، التي لا تجلب لنا إلاّ الدّمار.. هل
أخطأت؟!.. وتفوّهت بكلمة تمسّ الدّولة
؟!. ولكنّي حذر في هذه الأمور.. لا أثق بأيّ مخلوق على وجه الأرض،فأصارحه بحقيقةمشاعري نحو السلطة، لم أفقد أعصابي مرّة واحدة، دائماً أنا يقظ، منتبه، حريص إلى أبعد الحدود.. ترى هل يكون "جمال" مخبراً؟؟!!.. يجرجرنا بالكلام ويبلّغ عنّا؟!.. يجب أن أحذره، بل ينبغي أن أحذّر أصدقائي منه، بل عليّ أن أبتعد عنهم، فما نفعي من صداقتهم؟؟!!.
نهض ينادي شقيقته، طلب إليها أن تعدّ الشّاي، عاد إلى السّرير، يدخّن مفكّراً:
- لكنّ المشكلة الآن ليست بأصدقائي، بل باللذين يسألون عنّي.. ماذا لو جاؤوا وأخذوني؟!.. ثمّ ماذا لو عذّبوني؟؟!!.. أنا لا أحتمل الضّرب.. منذ طفولتي وأنا أخافه، كنت أدرس فقط خوفاً من عصا الأستاذ.. وخرطوم أبي.. سأعترف بكلّ شيء قبل أن يضربوني، سأقول الأحاديث التي دارت بين أصدقائي، لن أتستّر على أحد،كلّ واحد منهم مسؤول
عن كلامه.. أنا لا علاقة لي بالسياسة..
منذ شاهدت جارنا أبا "محمد" مكبّلاً قررت نسيانها.. ماذا جنى جارنا غير
الدّمار؟!.
تنبّه إلى رنين جرس المنزل، فانقطعت
خواطره ، ووثب قلبه خارجاً:
- جاؤوا ليأخذوني..
قرأ على روحه سورة الفاتحة.. انكمش على نفسه.. تراجع.. التصق بالجدار.. بحثت عيناه عن مخبأ.. قفز عن السّرير.. الهلع يسيطر عليه.. اقترب من الباب بحذر شديد، تصاعدت دقات قلبه، مع انبعاث الرنين مرّة أخرى:
- رباه أنقذني أرجوك.. بحقّ نبيك "محمّد".. أنا لا علاقة لي بالسياسة.
عينه القلقة على العين السّحرية، أبصر شقيقه الصغير، تنفّس الصعداء، حمد الله كثيراً، فتح الباب وعاد:
- من أين جائتني هذه المصيبة؟!.. خائف أنا، طالما أنّهم سألوا عنّي، فهم لا بدّ سيداهمون البيت، عليّ أن أتوقّع ذلك عاجلاً أم آجلاً، وبنبغي أن أرتب كلّ شيء، أقوالي، أفكاري، شخصيّتي، بجب أن أكون قوياً أمامهم، متماسكاً.. والواجب أن أبلّغ أهلي حتّى لا يفاجأوا.
نهض وغادر غرفته، جلس بجوار أبيه، الذي يشبهه إلى حدٍ كبير، لولا فرق السّن.
قالت الأم، التي لا تختلف عن
"حسين" وزوجها في القصر والبدانة:
- هل أحضر لك العشاء؟.
- لست جائعاً.. لا أشعر برغبة..
سأل الأب بصوته الأجش:
- مابك اليوم، لماذا تحبس نفسك في الغرفة؟.
- عندي خبر سيء، أودّ نقله لكم.
الأم:
- خير إن شاء الله؟؟؟!.
قاطعها الأب بانفعال:
- دعينا نسمع.
حاول أن يكون هادئاً، كي لا تكون المفاجأة كبيرة، واختفت بسرعةأصوات
أخواته وحركاتهم:
- اليوم سأل عنّي رجال المخابرات، في الحارة.
- المخابرات؟؟؟!!!.
هكذا انفلتت هذه الكلمة من الجميع.
- سألوا عنّي السّمان "أبو علي".
سألت الأم وقد بدأ الخوف يسيطر عليها:
- وماذا يريدون منك؟!.
- يسألون عن اتجاهي السياسي.
- وما هو اتجاهك السياسي؟.. هل أنت مختلف عنهم؟!.
- أنا يا ماما لا اتجاه لي.. أنا حيادي.
قال الأب، وفي صوته بعض الاضطراب
، وهو يحاول جاهداً أن يخفيه:
- جاء اليوم الذي كنت أخشاه.
- بابا أنا لم أفعل شيئاً، يمكن أن يحاسبوني عليه.
- يكفي أنّك حيادي، هذا أهم مأخذ عليك.
- أرجوكم ليس هذا وقت اللوم، عليكم أن تتوقعوا حضورهم إلى هنا.
ذعر الجميع، وصاحت الأم بحرقة:
- يارب من أين جاءت هذه المصيبة؟!.
عاد إلى غرفته، مخلفاً أمّه وأخواته
يشهقن في البكاء، بينما كان أبوه غارقاً في صمته.
جلس على حافة السّرير، أشعل سيجارة وأخذ نفثاً عميقاً، وفجأة اصطدمت عيناه برفوف الكتب، وفكّر:
- المكتبة..إنها تشكّل خطراً عليّ،صحيح
هي لا تحتوي كتباً سياسية، لكن ما يدريني كيف تفسّر الأمور؟.. ينبغي اخفاء المكتبة، ولكن أين؟الكتب كثيرة
، واخفاؤها في البيت مستحيل، وإيداعها عند الجيران غير ممكن، وعند الأصدقاء ضرب من الجنون،فأنا لم أعد
أثق بأي صديق كان، ومن المحتمل أن يكون بيتنا مراقباً، بل ذلك في حكم المؤكد، فما أدراني..قد يكون "أبو علي"
مكلّفاً بمراقبتي؟.. ليس أمامي إلاّ حلّ واحد، نعم واحد لا غير.. وهو احراق
المكتبة.. فالكتب غير مهمّة، مهما كان ثمنها سلامتي هي الأهم.. فيما بعد، إن خرجت من هذه الأزمة، سأبكي على كتبي كثيراً.
وبسرعة.. ودون تردد، نهض " تحسين"
وحمل بعض الكتب، واتّجه إلى الحمّام، أوقد الطّباخ، وأخذ يمزّق الأوراق ويدسّها للنار، إلى أن أحرق جميع مالديه من كتب، لم يبق عنده سوى كتب الدّبلوم الذي يدرسه، وأحرق أيضاً كلّ مالديه من أوراق ورسائلخاصة، وصور تجمعه مع أصدقائه، ودفاتر
كثيرة، تحتوي على قسم عظيم من قصائده، التي كتبها على مراحل عديدة
، وحين سألته أمّه عن سبب احراق مكتبته، قال دون أن يلتفت إلبها:
- قد تكون خطرة في نظرهم.
وبينما كان يهمّ بالدخول إلى غرفته
، رنّ جرس المنزل، وأسرع الجميع مذعورين إلى العين السّحرية، من يكون في هذا الوقت المتأخر من الليل
؟؟!!.
- إنّه رجل!!!.
قالها بصوت مرتعش، خائف.
وعندما رنّ الجرس مرّة أخرى... اقتربت الأم بجزع، لتنادي من وراء الباب:
- مَن.. مَن ؟؟؟ !!؟؟!!....
أجاب القادم:
- أنا.. أنا جاركم في الطابق الرابع.
سألته، والكلمات تخرج بصعوبة من حلقها الجاف:
- ماذا تريد يا أخي؟؟!! .
- بسبب حمّامكم.. الدّخان أعمانا وخنقنا.
قالت الأم بعد أن استردت أنفاسها، وكلّ من معها من أفراد الأسرة، بما فيهم " تحسين ":
- حاضر يا أخي... لقد أطفئنا الحمام، قبل قليل.
كلّ ذلك والأب قابع في الصالون، يسترق السّمع بانتباه شديد، والعرق البارد يتسرّب من جميع أنحاء جسمه.
عاشت الأسرة تحت كابوس الخوف
والذّعر الشديدين، فما من حركة تصدر
، إلا سمحت الأم لنفسها بالبكاء،متوقعة
قدومهم لآخذ "تحسين" فلذة كبدها.
وبعد أن غرق البيت في الظّلام، وسبحان كلّ واحد في خوفه منفرداً.. فكّر تحسين:
- لم يبق عندي أثر يدلّهم على شيء، قوالي جاهزة، إنٌي جاهز.
وبرقت في ذهنه فكرة جهنّميّة:
- سأكتب بعض القصائد في مدح الرئيس ، سأمجّده.. وأسمّيه عظيم الأمة.. وصانع الانتصارات، وسيّد العرب والمقاومة، وأضع القصائد هذه ضمن دفتر أشعاري، وعندما سيطّلع عليها المحقّق، سيعتذر منّي، ويدرك مدى فداحة الخطأ المرتكب بحقّي، ويعاقب
" أبو علي" على كذبه، وشهادة الزّور التي كادت تقضي عليٌ.
نهض من سريره، أشعل الضّوء، أحضر دفتراً وقلماً، وكتب:
(- في المساء..
يد الرئيس تهدهد أجنحة الشّمس
وبراحة كفّه المباركة
يزيل الغبار عن جبهتها
يسقيها من حليب روحه
ويطهّر بدنها اللدن
من صناببر نوره
يد الرئيس بيضاء
تكفّن شهداءنا
تزيل الدّم عن أحلامهم
وتثري عويل اليتامى
في الشتاء يد الرئيس تقبض على الغيوم
وتمطر فوقنا
زخات من وعود
فتبعث في حقولنا قامات من صمود
ليس فيها إلاّ الرّعود
فتزهر على جباهنا
آيات السّجود
فويل.. ثمّ ويل
لمن بانت على سحنته
علامات الجحود.).
وبعد ساعتين صاغ عدداً من القصائد
، ووضع تحت كلّ قصيدة تاريخاً قديماً
، لكي يوهم المحقق بأنه من محبي الرئيس، حتى أنه نوع بالأقلام لتنطلي الحيلة.. وراح يحاول النّوم.
وفجأة بدرت لذهنه فكرة، جعلته ينهض مسرعاَ من نومه، امتدت يده لتتناول القلم والدفتر، وسارع ليكتب بعض الأغاني عن سيادة الرئيس، سينافق حتى يقنع المحقق بأنه مواطن صالح، لا يفكر بخيانة الوطن، وهو من محبي ومعجبي الرئيس الفذ، عظيم أمّة العرب، والقائد الخالد:
( عَمْ تكبر سوريّة عم تكبر
بسواعد أسدها عم تعمر
الله يبارك بصموده
النصر ع جبينه مقدّر).
وكتب أيضاً:
(دامْ عزْكْ دامْ
يا أسد الشام
يا محقّق العدل
ومحلِْي الأيّام).
وهكذا تسرّبت الطمأنينة إلى نفسه بعض الشيء، فأسرع إلى سريره علّه يستطيع النوم، ولم تمض دقائق على غفوته، حتّى استيقظ مذعوراً، فقد شاهد حلماً غريباً وحين حاول أن يتذكّره، وجد نفسه لا يذكر سوى وجه السّمان "أبو علي"، وابتسامته المقيتة، حاول أن يعود للنوم فلم يفلح، إلى أن بزغ الصّباح.
خرج من المنزل، وما إن لمحه السّمان
"أبو علي"، حتى ناداه:
- أستاذ "تحسين" لحظة من فضلك.
وما إن توقف، وشاهد السمان خارجاً
من دكانه، ترتسم على وجهه الابتسامة ذاتها التي رآها في المنام، حتى غذّ السّير ، غير عابئ بصراخ السّمان خلفه.
كان هدفه من التجوّل أمراً واحداً فقط
،أن يثبت لنفسه بأنّه مازال طليقاً، تناهى إلى سمعه وقع أقدام مستعجلة، خلفه،فشعر بالضيق والخوف، في البدء
لم يجرؤ على الالتفات، ثمّ تشجّع، فتراءى له السمان يمشي خلفه، فأسرع في سيره، وعلى بعد خطوات، وجد منعطفاً نحو اليمين فسلكه،والمذهل أنّه
خيّل إليه أنّ السّمان يتعقّبه،
فتيقّن أنٌه يراقبه، فعبر بسرعة أوّل منعطف صادفه، وأخذ يركض.
ركض أول الأمر بحياء، ثمّ التفت، فظنّ "أبو علي" راكضاً خلفه، فأسّرع في ركضه، دخل أزقة لم يعرفها... وحين أحسّ أنّ سترته تعيق ركضه، خلعها ورماها وراءه، أدار رأسه، فتوهّم أشخاصاً يشاركون السّمان ملاحقته، فزاد من سرعته، راح يلهث، وكلّما أدار رأسه، اعتقد أن عدد المطاردين
يتضاعف.
فجأة.. علت الأصوات خلفه، ومن حوله ارتبك أكثر، حين انضمّ إلى الأصوات،
صوت فرامل سيارة... وحاول أن ينتبه
، أن ينقذ نفسه، أن بتفادى الصّدمة، أن بتوقف، يتراجع، ينجو... لكنّ الوقت فات... فقد أصبح كتلة لحم، تحت العجلات.
بعد أيام ...أعلنت نتائج مسابقة وزارة التربية ، وكان الخبر مثار ألم فظيع لأهله وأصدقائه، حين عرفوا أنٌ ترتيب " تحسين"، كان الأوّل على زملائه.
حلب
/// اصطياد..
انتبه إلى نظراتها المرسلة إليه، نظرات
حارّة فيهن مناداة وصخب، تلفّت حوله
استطلع وجوه الرّكاب، فتيقّن أنّ نظراتها لا تقصد سواه.. فأخذ يبادلها النظرات من مكانه.
كانت جالسة على المقعد، لا تفصله
عنها سوى بضعة مقاعد، وشعر بأنّها تبتسم له، فأراد أن يردّ على ابتسامتها، حتّى يجعلها تفهم أنّه فهم مغزى نظراتها وابتساماتها، وأراد أن يتقدّم نحوها، لكنّ الزّحام الشّديد منعه من التّحرك، رجال ونساء وأطفال وأمتعة، تقف متراصة في طريقه.. فقرّر أن ينتظر الفرصة السّانحة، حتّى يهرع إلى كرسيها، ويقف بالقرب منها يتبادل النّظرات معها عن كثب، ويطلب منها النّزول.
تلمّس جيبه، وقال في سرّهِ:
- النقود تكفي.. أستطيع أن أدعوها إلى أيّ مكان تختاره.
وعاد ليتمعّن بها من جديد، فوجدها كببرة عليه، فهو يصلح أن يكون من سنّ أولادها:
- لو كانت أصغر من هذا السّن، لكنتُ أخذتها إلى السّينما، وهناك عندما تنطفئ الأنوار يبدأ عملي.
هكذا كان يفكّر، وفجأة داهمه إحساس بأنّه يعرف هذه المرأة!!.. فوجهها ليس غريباً عليه.. وأخذ يتذكّر.
ولكن فكرة انبثقت في رأسه، جعلته ينسى حكاية شكلها المألوف:
- نعم.. ماذا لو أخذتها إلى العمارة، التي أعمل بها مع والدي؟.. أغافل الحارس، وأتسلّل بحذر برفقتها إلى الملجأ.
لا.. لا.. المكان غير مناسب، فالملجأ مليء بالأحجار والأتربة، والأفظع من كلّ هذا، أنّ العمال لا يقضون حاجاتهم إلاّ في هذا المكان،
البعيد عن الأنطار.
إذاً.. أين ينبغي عليه أن يأخذ هذه المرأة، التي لم تحوّل نطراتها عنه،
طوال الطريق؟.
هل يعرض على الحارس "حسن" أن يسمح له بغرفته بعض الوقت؟..
"فحسن" يملك فراشاً على الأقل، وإن كان هذا الفراش حقيراً ووسخاً، سيحتمل روائح الغرفة الكريهة بعض الوقت، وإلاّ إلى أين سيذهبان؟.. لا مكان آخر يمكنه أخذها إليه.
- فكرة أن أذهب معها إلى بيتها
مرفوضة بالتأكيد، لأنّي أخاف من مكائد جنس حوّاء، فربما كان لهذه المرأة هدف آخر من اصطحابها لي.. لن أذهب معها إن عرضت عليّ، حتّى وإن اضطررتُ لتركها، فإن شاءت ذهبت معي، وإلاّ فهي حرّة.
وتساءل إن كان "حسن" يقبل أن يعطيه غرفته بعض الوقت؟.. أليس من
الجائز أن يخبر والده، ويسبب له فضيحة ليست في الخاطر؟.
- سأقنعه.. سأدفع له نقوداً، وإن أراد، فلا مانع عندي أن يشاركني عليها، ماذا
سأخسر؟.. إن سمحت له، بمشاركتي!!
.. هل هي زوجتي لأغار عليها؟.. هي مجرد عاهرة لا أكثر، ولكن.. سأشترط عليه، أن لا يلمسها قبلي، لأنّي أنا الذي اصطدتها، في البداية سأتمسّك بموقفي
حتى إن وجدته مصمّماً، على أن يسبقني، وهو سيفعل بالتأكيد، لأنّه أكبر منّي في العمر، وهو خنزير وأنا أعرفه حق المعرفة، أقول إن صمّم، فلن يكون بوسعي أن أفعل معه شيئاً
لأنّي اليوم بحاجته، ثمّ ماذا يضير إن كنتُ صاحب الدور الثاني؟!.. المهم لن أدع هذه الصّيدة تفلت منّي.
وتذكر "سامح" ابن عمه، الذي لا تعجبه فوضى "رضوان"، فقال:
- فالتنعم أنت يا سامح في دراستك، التي جعلتك لا تعرف من الدنيا شيئاً غيرها، فهنيئاً لك بكتبك، أمّا أنا فهنيئاً لي بهذه المرأة، التي أشبعتني نظرات وابتسامات.
وكان كلّما أكّد بوجهها، تضاعف شعوره بأنّها ليست غريبة عنه، ولكنّه لا يذكر أين ومتى رآها؟!.
وتوقفت الحافلة، عند موقف "باب الحديد"، وعلى الفور نهضت المرأة تريد النزول، فأسرع "رضوان"ليهبط من الباب الثاني، قبل أن يفقدها.
قفز فوق الرصيف، تلفّت حوله يبحث عنها، فوجدها على بعد خطوات
تقف وتنظر إليه.. تحرّك نحوها، شاعراً اضطراب شديد، فهو لأوّل مرة في
حياته، يتعرّض لمثل هذا الموقف.
وصل إليها وهو يرتعش، لذلك كان ينظر إلى الأرض، لأنّه شعر بعدم قدرته على
النّظر في عينيها عن كثب..وفجأة كلّمته:
- إلى أين كنت ذاهباً؟.
رفع رأسه قليلاً، هذا الصّوت ليس غريباً عليه!!.. وكانت دهشته كبيرة، غير متوقعة!!.. فصرخ مذعوراً، دون أن ينتبه، وقد اعتلى وجهه الخوف والشحوب:
- أنتِ؟!.. غير معقول!.
- ومن كنتٌ تطنني طوال الطّريق؟!.
رد بتلعثم وارتباك شديدين:
- ظننتكِ.. ظننتكِ..
وتحجّر لسانه.. واختنقت عباراته
.. فما كان منه.. سوى أن يطلق ساقيه للهروب.. ركض.. تلفّت.. ارتطم بالمارة..
وأمْه مندهشة مّما أصاب ابنها"رضوان"
تنادي خلفه:
- تعال يا بني.. ساعدني بشراء الخضار.

حلب 1990م


/// القصيدة الميّتة...

لم أكتب من شهرين، ليس من عادتي
ذلك. كان لا يمرّ اسبوع، دون أن أكتب قصيدة أو أثنتين.. ولكن لا عجب، فما يحدث يبعدني عن الحياة كلها، يخيّل إليّ أنّ قدوم الموت خير منقذ لي.. مشاكل كثيرة.. في كلّ جانب من حياتي، تتطاول مشكلة وتكبر.. هل الموت هو الخلاص، يبدو لي ذلك، وبخاصة حين أرى أهلي الذين ترشحهم آمالي لمساعدتي، يشكلون
عصابة على زوجتي، وحين تشكو أصبّرها وأواسيها:
- اصبري ياهيفاء.. تعرفين أنني لا أستطيع أن أتحداهم.
- ولكن إلى متى؟.. بعد أن أجن!؟.
- وماذا تريدينني أن أفعل، هل تريدين أن نطرد من الببت، وتعرفين أنّ لا مال لديّ؟!.
- ومتى سيصبح عندك مالاً؟.. وأحوالك تزداد سوءاً؟.
أبتلع غصتي بصمتٍ:
- لا ذنب لي ياهيفاء، حظّي سيء، ألا ترين أنّ الفشل يتربّص لي وراء كلّ مشروع.
- أنتَ طوال عمرك ستبقى فاشلاً.. لأنّكَ لا تسمع كلامي.
- اسكتي يا هيفاء.. اسكتي.. كيف أسمع كلامك؟!.. أترين أن أبقى أجيراً عند الناس؟.
- على الأقل أفضل، من كلّ مشاريعك ومخطّطاتك.
وهنا أكاد أفقد صوابي.. وأصرخ:
- مابها مشاريعي؟!.. إنها ليست فاشلة، اسألي أيّ غبيّ في العالم، هل يفضّل أن يبقى أجيراً، أم يفتح دكاناً على حسابه
؟.. ليس ذنبي أنا إذا الدكان لم تنطلق
.. حولتها من عملٍ إلى آخر، صرت "مسبّع كارات"، تصليح غازات، بيع أدوات كهربائية، دهانات استدنت من التجار، دينت الزبائن.. وصرت أعوي
وراءهم، ولا أحد يدفع لي.. والتجار يطالبونني بمالهم.
حتى بيع الخضار لم أنسه.. وماذا كانت النتيجة؟.. خسارة كبيرة خلال أسبوع واحد.
ويستمر الحديث، وغصّة ملء الحياة تُنشب أظفارها في حنجرتي، ومرارة تكبر في حلقي. حينها تنسحب هيفاء من الحديث.. فأشعل سيجارة وأطلب كأس شاي.
فجأة تعود هيفاء للكلام.. وكأنها سكتت لتستريح:
- هنا شطارتك فقط.. شاي ودخان وقراءة كتب.
أشتم الشاي والكتب:
- أنتِ تعرفين من قبل الزواج حبّي للشاي، وتعرفين أنّي شاعر، وهل هناك شاعر لا يقرأ ؟!، يكفي أنّ قراءاتي تكاد تنعدم، ويكفي أنني منذ أكثر من شهرين لم أكتب أية قصيدة.
- حمّلني السبب أيضاً.
- نعم أنت السبب.. عشرة أشهر ونحن متزوجان، ماذا كتبت؟؟!!..ثلاث قصائد
؟.. كنت أكتب أكثر من خمس قصائد في الشهر الواحد.
وهنا يلذ لهيفاء أن تعيد أسطوانة السخرية:
- وماذا استفدنا من شعرك؟؟.. أعرض كلّ قصائدك للبيع.. لن يدفعوا لك قرشاً واحداً.
وأعود لأصرخ:
- هيفاء.. لم أعد أحتمل، إذهبي وأحضري إبريق الشاي.
تذهب هيفاء، وأبقى وحدي، في غرفتي اليتيمة،المفروشة بسرير وأريكة
وخزانة وماكينة خياطة لهيفاء..
ومسجلة صغيرة. وأسأل نفسي:
- هل أخطأت في زواجي من هيفاء ياترى؟. أكانت "ناديا" أفضل؟.
وأتذكر "ناديا"، أمدّ يدي للدرج، أستخرج جريدة، فيها قصيدة لها، مع صورتها.. أتأملها ملياً، وأقرأ القصيدة بتلذذ. وأغوص في الذكريات:
- نادي.. أحبّكِ، كتبتُ عنكِ أكثر من مائة قصيدة، لقد خلّدتكِ، أصبحتِ " ماتيلدا" أو "إلزا".
وتبقى'ناديا" صامتة.
- ناديا.. أحبّكِ.. أرجوكِ تكلمي.
ترفع رأسها، أبصر في عينيها قرارها النهائي:
- شادي.. أنتَ تعلم أنّي مهندسة، وأنتَ عامل، وأهلي..
فأضع يدي على فمها، أرجوكِ فهمت..
نفترق، وجرحٌ بمسافة الأرض يفترشني
- ستندمين يا ناديا.. لن يكتب عنكِ سواي.
وأحتسي الشاي وأنا أفكر:
- هل أحبّ هيفاء حقاً؟.
نعم.. ويجب عليّ أن أحبّها.. لقد رفضت الكثيرين من أجلي، منذ طفولتها وهي تحبني، وظلّت تنتظر حتّى طلبتها.. هيفاء جميلة، أجمل من نادية... وأكثر طولاً، لكن لو كانت تكتب الشعر، أو تحبه على أقل تقدير.
وتنام هيفاء.. أعرف أنها تضيق بنور
المصباح..ولكنّ رغبة شديدة في الكتابة
تتملّكني.. هل سأفلح؟.. بتّ أخجل من
أصدقائي، كلّما سألوني:
- هل من جديد؟!.
لكن مشكلة من نوع آخر، تنبثق من داخلي، صرت أخاف الكتابة.. إنّي حزين ولو كتبت قصيدة، فسيأتي ناقد ويقول:
- لماذا هذا الحزن والتشاؤم؟!.. أكتب عن الفرح، والأمل، والوطن.
ولكن أين الفرح؟.. لا أستطيع أن أكتب إلّا عن تجربتي.. وسيأتي آخر يقول:
- هذه قصيدة غنائية، فلماذا لا تتحوّل إلى الكتابة الواقعية؟!.
ما أكثر توجيهات النقاد واقتراحاتهم؟..
هذا يطالب بالواقعية.. وهذا بالغنائيّة.. وهذا بالبنيويّة.. وآخر بالسّرْياليّة، وهذا
يريد البساطة، والثاني يريد التّصوير، وسواه يطالب بالتّرميز، ولا يخلو الأمر ممن يطالب باستخدام الأسطورة، هذا يقول:
- لماذا تهجر شعر التفعيلة؟!.
كلّهم متناقضون.. والكلّ يطالب ويتّهم.
- أكتب قصيدة طويلة.. فهي تساعدك على سبر أغوارك، القصيرة سهلة.
- أكتب بحساسيّة الثمانينات
- تحدّث عن الجزئيات.
- لا.. بل عن الكلّيات.
- ضع الجمهور في حسبانك
.
- ارتفع عن الجمهور.
- لا.. تتخلّ عن القافية.
- لا.. تقع في المباشرة.
- أكتب مثلي تكن شاعراً.
- لا تخالفني تنل النجاح.
كيف لي أن أكتب؟.. وكلّ هذه الأمور
تدور في رأسي؟!.
هيفاء.. تتقلّب على السّرير، ترفع رأسها بعض الشيء.. تفتح عينيها قليلاً
.. وتسأل:
- هل انتهيت من الكتابة؟
- لم أكتب بعد.
- شادي.. أرجوك أن تطفئ النور.. ألن تذهب إلى الدكان باكراً؟.
- حسناً لن أكتب بعد اليوم.
ينطفئ المصباح، تنطفئ رغبتي في
الكتابة.. ونشتعل أنا وهيفاء.. وتلوح لي
ناديا.. فأذهب.. وأذهب بعيداً..ولا أصل.
حلب 1989 م


/// مرآة القلب..

وقفت أمام مرآتها، أخذت تصفّف شعرها الخرنوبي بعناية. فجأة توقّفت يدها البضّة عن الحركة، تسمّر المشط السّابح في نعومة الشّعر، حدّقت ملياً، قرّبت خصلة الشّعر من عينيها، أمعنت أكثر، تفرّست، حتى تأكّدت من بدءِ غزو المشيب لشعرها، صُعقت، تراجعت،
وندّت عنها صرخة ذعرٍ حادّة:
- (لا.. لا.. لا يمكن، لا يعقل.. لا أصدّق..
أنا لم أكبر بعد.. ما زلتُ شابةٌ.. أنتِ تمزحينَ، مؤكد أنّكِ ترغبينَ بمداعبتي.. المستقبل ما زالَ ينتظرني، لم يتجاوزني قطار الصّبا.. أعرفكِ.. أنتِ مهووسة بمثلِ هذه الألاعيب.. ولكنّكِ اليوم ثقيلة دم.. غليظة.. تافهة.. و
سخيفة.. الجّمال بعض من أسراري.. لن يسمح للتجاعيد أن تحطّ على وجهي
.. ماهكذا يكون المزاح.. سخيف قولكِ هذا.. أنا لا أصدّقكِ.. ولا أحبّ طريقتك هذه.. خاصة عند الصباح، كثيرون يتمنّون أن أردّ على تحيّاتهم.. مازال (مصطفى) يحبني ويكتب عنّي الشعر والقصص.. منذ فترة كتب عنّي قصة (حبّ أعمى)، وهو الآن بصدد تحويلها إلى مسلسلٍ ( تلفزيوني)، أسمعتِ؟.. مسلسل تلفزيوني عن حبّه الأعمى لي
.. ولكنني أصدّه بقوةٍ.. لأنّني كلّما صددتهُ كتب الأجمل والأكثر عنّي.. بل أنا أصدّهم جميعاً.. أجعلهم يتزاحمونَ
.. قلتُ لكِ ألف مرّة، لا أحتملَ خفّة دمكِ لحظة استيقاظي.. وأنتِ تعرفينَ أنّي أنهضُ معتكرة المزاج.. لا أقدرحتى
على تبادل التّحيّة.. فلمَ تحاولينَ إغاظتي وإثارة حنقي؟!.
هل حقاً نحن صديقتان؟! إذاً لماذا تزفّين الخبر لي بفرحةٍ؟!.. نعم.. نعم.. لنفترض أنّكِ فعلاً تقولينَ الحقّ، لنفترض أنّكِ لا تمزحينَ.. ولكن لماذا تزفّينه بهذه الفرحة؟! ولمَ تبدينَ قاسية
؟! كان بإمكانكِ تخفيف الصّدمة عنّي، بإمكانكِ أن تداري، أن تنتظري، لتجدي فرصة مناسبة، أنتِ لم تأبهي لمشاعري، لم تكترثي بما سيحلّ بي،أتسمّين قولكِ
صراحة؟! اللعنة على الصّراحة حينَ تكون قاتلةً.. أعرفُ.. أعرفُ أنّكِ لا تقصدينَ ذبحي، ولكنّني ذبحت يا صديقتي، أنتِ هكذا دائماً، تقولينَ ما تعرفينَ دونَ لفّ أو دوران.. آهٍ أيّتها الصّديقة، أنا لستُ عاتبةٌ عليكِ، لا ذنبَ لكِ، على أيّ حال.. كنتُ سأعرف الحقيقة عاجلاً أم آجلاً، كنتُ سأكتشفُ الأمر بنفسي، لأنَّ إحساساً قويّاً كانَ ينمو بداخلي ويصرخ، كلّ يومٍ عشرات المرّات، بل أكثر.. أكثر بكثيرٍ، ولكن لا.. يجب أن أفعلَ شيئاً.. أيّ شيءٍ لكي أوقف زحف الخطر عنّي، ربَّما أقبل أوّل عرضٍ من أوّلَ رجلٍ سأصادفه في صباحي.. لا.. هذا مستحيل.. أينَ كبرياؤكِ يا "ندى"؟! عليكِ أن تظلّي عصيّة على الجّميع.).

مصطفى الحاج حسين.
حلب

=======================
* فهرس: المبدع ذو الضفتين.

1 - مقدمة : بسمة الحاج عمر
2 - المبدع ذو الضفتين
3 - خارج دائرة النسيان
4 - خيرو والجهات الأربعة
5 - إجراءات
6 - اصطياد
7 - القصيدة الميّتة
8 - مرآة قلب


--------------------------------------------
مصطفى الحاج حسين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى