د. أحمد الحطاب - المنظومة التربوية -ملف- الجزء الرابع (39---40)

39- المعرفة : من المنبع إلى المدرسة

هذه المقالة طويلة شيئا ما حيث تتألَّف من أربعة أجزاء. في الجزء الأول، سأبيِّن من أين تأتي المعرفة المدرسية وكيف تصل إلى هذه المدرسة. في الجزء الثاني، سأركِّز على الوضع الذي تتخذه المعرفة بعد وصولها إلى المدرسة. في الجزء الثالث، سأتحدث عن المُتعلِّمِ عندما يكون وجها لوجهٍ مع المعرفة المُدرَّسة savoir enseigné. في الجزء الرابع، سأتحدَّث عن مصير المعرفة المدرَّسة عند نهاية المسار الدراسي للمتعلِّم.

الجزء الأول : من أين تأتي المعرفة المدرسية وكيف تصل إليها؟

المعرفة يتِمُّ إنتاجُها عن طريق التفكير la pensée والتَّجريب expérimentation، لكن معظمها يتمُّ إنتاجُه في مختبرات ومراكز البحث. وهذا النوع من المعرفة يعرَّفُ ب"المعرفة الخبيرة" أو "المعرفة المُعمَّقة" savoir savant ou savoir approfondi.

المدرسة تأخذ ما هي في حاجة إليه من معرفة من ما أنتجته مختبرات ومراكز البحث، لكن بعد مرور المعرفة الخبيرة من عدة مَصافٍ (جَمع مِصفاة) filtres ديداكتيكية didactique، مفاهيمية conceptuel، لغوية linguistique وإبيستيمولوجية épistémologique بهدفِ تبسيطِها وإعادة تشكيلِها، وبالأخص، تكييفها مع نموِّ قدرة التَّعرُّف développement cognitif عند المتعلِّمين أو مع بنياتهم التَّعرُّفية structures cognitives التي تتغيَّر مع عُمر هؤلاء المتعلّمين.

من هذا المنطلق، يبدو واضحا أن المدرسةَ لا تُنتِج المعرفة وإنما تستهلكُها. إنها إذن تنقل معرفةً جاهزة للاستعمال، أو بعبارة أخرى، "معرفة جاهزة للاستهلاك"، المُستمدَّة من المعرفة الخبيرة أو المعمَّقة. وهو ما يُعرف، في الوسط المدرسي، بالمعرفة المدرسية savoir scolaire التي هي، في الحقيقة، "المعرفة الجاهزة للتدريس" savoir à enseigner والتي يتمُّ تقديمُها على شكل برامج دراسية programmes scolaires في الوثائق الرسمية. من هذه البرامج التعليمية، يستخرج المدرِّسُ ما يًسمَّى ب"المعرفة المُدرَّسة" savoir enseigné التي تعتمدُ عليها الممارسة التعليمية في الأقسام.

هذان النوعان من المعرفة، "المعرفة الخبيرة" و"المعرفة المدرسية" يختلفان من حيث الطبيعة والموضوع. سأبيِّن فيما يلي أوجُهَ الاختلاف بينهما.

النوع الأول، أي المعرفة الخبيرة، فهو نتبجةٌ لبحث مُنظَّم، منطقي ومنهجي. بحثٌ يُفسِّر، يؤوِّل، يوضِّح… الأوضاعَ والأشياءَ والظواهرَ فيزيائية كانت أم بيولوجية، اجتماغية، طبيعية، ثقافية… علما أن نهجَ إنتاج هذه المعرفة، في مختبرات ومراكز البحث، ليس خطِّيا linéaire كما يُعتَقَد في الوسط المدرسي، أي أن هذا النَّهجَ يسير على ما يُرام، أو بعبارة أخرى، لا تعترضه أيةُ صعوبات لا فكرية ولا منهجية ولا إبيستيمولوجية… بل بالعكس، إنه إنتاجٌ تطلَّب وقتا وأخذا ورداً بين الفرضيات والأفكار والتَّجارب وإعادات النظر والتناقضات والمعتقدات… إنه إذن إنتاج يتطلَّبُ اللجوءَ إلى أساليب فكرية متعدِّدة الأبعاد.

أما النوع الثاني، أي المعرفة المدرسية، فإنه ناتِجٌ عن صياغات formulations وتحويلات transformations وإعادة صياغة reformulation المعرفة الخبيرة علما أن هذه الصياغات والتَّحويلات وإعادة الصياغة تتمُّ ، كما سبق الذكرُ، تحت رقابة المتخصصين في الديداكتيك والإبستبمولوجيا والمتخصصين في إعداد البرامج التعليمية… والمعرفة المدرسية هي المعرفة المتداولة داخلَ الأقسام والمسخَّرة للقيام بأنشطة التعليم والتعلُّم.

وفي هذا الصدد، تجدر الإشارةُ إلى أن المناولات manipulations والتَّجارب expériences المًقامة داخلَ الأقسام لا تمتُّ بصلةٍ لتلك التي يقوم بها الباحثون داخل وخارج مختبرات ومراكز البحث. فهذه المناولات والتَّجارب المقامة داخلَ الأقسام ليست، لا أقل ولا أكثر، إلا وسائل بيداغوجية وديداكتيكية، الهدفُ منها هو تسهيل امتلاك وإعادة بناء المعارف من طرف المتعلِّمين.

فهذان النوعان من المعرفة ليس لهما نفسُ الأهداف ولكلٍّ منهما إطارُه الخاص. المعرفة الخبيرة تأتي بحلول لمشكلات تفرض نفسَها على الباحثين أو يطرحها هؤلاء الباحثون أنفسُهم لإيجاد حلولٍ لها.

الجزء الثاني : الوضع الذي تتَّخِذه المعرفةُ بعد وصولها إلى المدرسة

هناك ملاحظةٌ أساسية تجب الإشارةُ إليها : المعرفة المدرسية، كما سبق الذكر، تنقسِم إلى نوعين : "المعرفة الجاهزة للتدريس" و"المعرفة المدرَّسة". وبعبارة أخرى، عندما تمر المعرفة الخبيرة من المصافي المُشار إليها أعلاه، فإنها تتَّخذُ شكلَ "المعرفة الجاهزة للتدريس" اى مُقدَّمة على شكل برامج تعليمية. فالمدرِّسُ هو الذي يحوِّل "المعرفة الجاهزة للتدريس" إلى "معرفة مدرَّسة" أو قابلة أن تُدرَّس، أي المعرفة التي ينقلها فعليا المدرِّسُ إلى المتعلّمين من خلال ألممارسة التعليمية-التعلُّمية. والمعرفة المُدرَّسة هي التي تحتوي عليها الكتب المدرسية manuels scolaires الموجَّهة للمتعلمين.

وللمرورُ من المعرفة الخبيرة إلى المعرفة المدرَّسة، فإن الأولى تمَّ إخراجُها من إطار إنتاجِها بمعنى أن المدرسةَ لا تقول للمتعلمين أي شيءٍ عن سبب البحث فيها، كما لا شيءَ يُقال عن مَن أنتجها أو عن ظروف إنتاجها (الاجتتاعية، الاقتصادية، التاريخية، السياسية، الإيديولوجية…) أو عن الصعوبات التي كانت قد واجهت هذا الإنتاج أثناء مراحل البحث…

أما المعرفة المُدرَّسة، فهي معرفةٌ تمَّ تجريدُها من كل الحيثيات السالفة الذكر وبالخصوص من كونها منبثقة من المعرفة الخبيرة. ليس هناك ولو متعلِّم واحد يعرف من أين أتت المعرفة المبلَّغة له. المعرفة المُدرَّسة، بعزلِها عن إطارِها الحقيقي، تصبح معرفةً تلقائية spontanée، مُمأسسة institutionnalisée، مُعيَّرة standardisée ونهائية définitive إن لم نقُل مِثالية idéale ومُنعزلة عن الزمان والمكان indépendante du temps et de l'espace.

وللمزيد من التَّوضيح، يمكن القول بأن المعرفةَ المُدرَّسةَ، بحُكم رتابة الممارسة التَّعليمية وبحُكم الانحرافات الإبستيمولوجية التي تُداوِلها بعضُ المراجع المدرسية، قد تصبح عبارةً عن حقائق مُطلقة عِوض أن تكون مجرَّدَ تفسيرات وتأويلات تتغيَّرُ مع تغيير الزمان والمكان.

وما هو أخطرُُ هو أن تتحوَّلَ المعرفة المُدرَّسة إلى معرفةٍ مُشَيَّئةٍ savoir chosifié، أي معرفة تتعرَّضُ للتشييء chosification بمعنى أن تصبحَ أشياء ملموسة choses concrètes لها وجود ومستقلَّة autonomes. وهو الشيء الذي يحثُّ المُتعلمين على اللجوء إلى الحِفظ والاستظهار لدرجة أن المعرفةَ المُدرَّسة لم يعد لها أي ارتباط لا بالإطار (اجتماعي، ثقافي، اقتصادي، تاريخي، سياسي، إيديولوجي…) الذي نشأت فيه ولا بالمعطيات الإبستيمولوجية.

إن هذا الوضعَ الإبستيمولوجي والسوسيولوجي الذي توجَد عليه المعرفة المُدرَّسة له انعكاسات على الصورة التي تُروَّجُ، بصفة عامَّةً، عن المُدرِّسين. فالمعرفةُ التي شُيِّئَت وأُعطِيَ لها طابعُ الحقيقة، تقود إلى اعتبار المدرِّسين، من طرَف أنفسِهم ومن طرف المتعلِّمين والوسط المدرسي وحتى الوسط الاجتماعي، كمالِكبن لهذه المعرفة. بينما المُدرِّسون أنفُسُهم، للمرورِ من "المعرفة الجاهزة للتدربس" إلى "المعرفة المُدرسة"، علبهم اللجوءُ إلى المراجع المدرسية، إلى الموسوعات، إلى الخِزانات، إلى المراجع المتخصِّصة، إلى المعاجم، إلى المجلات، إلى المواقع الإلكترونية...

المدرسة، من خلال المتخصصين في إعداد البرامج الدراسية programmes scolaires، مسئولة، إلى حدٍّ كبيرٍ، عن الانحرافات التي تتعرَّضُ لها المعرفة أثناء انتقالها من أوساط البحث إلى الوسط المدرسي. فإنها تتبنَّى البُكمَ عن أصلِ المعرفة التي تنقلها للمتعلِّمين. كما تتبنَّى البُكمَ عن ظروفِ إنتاجِها علما أن هذا البُكمَ مع تقادّمِ البرامج التعليمية، يزيد الوضعَ تعقيدا.

وبالتالي، لا يجب أن نستغربَ إذا أخذَ المدرِّسُ والمادة المُدرَّسة حيِّزاً كبيراً في الممارسة التعليمية وذلك على حسابِ الاعتبارات التي لها علاقة بنموِّ شخصية المتعلِّمين وبجودة تعلُّماتِهم.

وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى أن المتعلِّمَ يوضَعُ في مغالطاتٍ تجعلُه غير قادرٍ على أخذ مسافةٍ بالنسبة للمعرفة التي تُنقَلُ إليه، وذلك بحُكم تقديمِها له كحقائق غير قابلة للنِّقاش. وحينما أقول "أخذ مسافة"، فالأمرُ يتعلَّق باللجوء إلى الفكر النقدي. فالوضع الذي تُقدَّمُ به المعرفةُ للمتعلِّمين وموقف المدرِّس من هذا الوضع، يحولان دون تنمية ذلك الفكر النقدي.

و في هذا الصَّدد، هناك فرق كبيرُ بين قولِ : فلانٌ "أ" وجدَ "الحلَّ" (اسمٌ معرفةٌ) لمشكلةّ "ب" وقول : فلانُ وجدَ "حلاًّ" (اسمٌ نكِرةٌ) لمشكلة "ب".

في الحالة الأولى، هناك إيحاءٌ بأن فلانَ "أ" هو بمثابة البطل الذي وجد الحلَّ الوحيدَ للمشكلة "ب". ما ينتُجُ عن هذا الوضع هو أن المعرفةَ التي هي الحلُّ للمشكلة المذكورة، في نظر المتعلّمين وحيدة وحقيقة مطلقة.

في الحالة الثانية، فلان "أ" وجد حلاًّ من بين الحلول الممكنة. قد يكون من الممكن أن فلان "أ" أو باحثٌا آخر توصُّل إلى حلٍّ للمشكلة "ب"، مغايرٍ للحلِّ الأول. وهو ما يُتيحُ للمتعلمين اللجوءَ للفكر النقدي للمقارنة بين طرقتين لإنتاج المعرفة لحلِّ المشكلات.

في الممارسة التعليمية، ما يُقدَّمُ للمتعلِّمين من معارف لا يُتيح لهم تنميةَ فكرهم النقدي ما دام تبليغُ هذه المعارف يتم في ظرف شبيه بظرف المشكلة التي لها "الحل الوحيد"، علما أن مشكلةً واحدةً، في عالم البحث، غالبا ما تكون لها عدَّة حلول.

وما يثير الاستغرابَ هو أن مثلَ هذه المغالطات تحدثُ كذلك في ممارسةِ تدريس العلوم الذي، من المفترض، أن يكونَ دعامةً ومُحفِّزاً لتنمية وتطويرِ الفكر النقدي عند المتعلِّمين.

الجزء الثالث : المُتعلِّمُ وجها لوجهٍ مع المعرفة المُدرَّسة savoir enseigné

أولا، لنبدأَ بلَفتِ الانتباه إلى أن المتعلِّمَ، بحٌكم تفاعُلِه الاجتماعي اللغوي sociolinguistique مع الوسط المُحيط به، لم ينتظر جلوسَه على مقعد المدرسةِ ليبنِيَ فكرةً une idée أو تمثُّلا représentation أو صورةً image… حول الأشياء والأوضاع والظواهر التي يصادِفها في حياته االيومية. و بعبارةٍ أخرى، المتعلِّم له نظرتُه الخاصة لتمثُّلِ هذه الأشياء وألأوضاع والظواهر.

فعند دخوله إلى المدرسة، يكون قد كوَّنَ خلفيةً (معارف) خاصة به. خلفبة، بدون شك، غير منظمة، يطغى عليها التَّنمبطُ والأفكار المٌسبقة والاعتقدات… لكنها خلفيةْ تُمكِّنه من التَّعامل مع العالم أو الواقع المحيط به.

وهنا، لا بدَّ من التَّذكيرِ أن سرَّ وجود المدرسة هو فعلا تمكينُ المتعلِّم من كيفيةِ تنظيمِ وترتيبِ المعارف وكيف بإمكانِه أن يستفيدَ من هذا التَّنظيمِ لبناء شخصيتِه وتفسيرِ العالم المحيط به بطريقةٍ عقلانية، منهجية ودقيقة. فدورُ المدرسةِ هو تمكين المتعلِّم من تعلُّم كيف يفكِّر، كيف يسوغُ، كيف يُخمِّن… وبصفةٍ عامة، كيف يستعمل قدراتِه الفكرية. كيف ينتقِل من السذاجةَ naïveté إلى النقد، كيف يُؤسِّسُ علاقتَه بالعالم المحيط به على مقاربةٍ عقلانية وليس تلقائية، كيف يتخلَّصُ من الأحكام المسبقة ومن التَّنميط…، أي أن المدرسةَ تساهم، إلى حدٍّ كبير، في التنشئة الاجتماعية للمتعلِّمين.

فما بالُك بمدرسةٍ تتجاهل تمثُّلات المتعلِّم التِّلقائمة وأكثر من ذلك، تُشَيِّيءُ المعرفةَ chosifie le savoir، تٌمَأسِسُها l'institutionnalise، تعيِّرُها standardise إلى حدِّ جعلِها مثاليةً؟

إنها، بكل بساطةٍ، مدرسةٌ يتركَّز وجودُها على التَّعليم بمعناه الضيق المتمثِّل في تبليغ المعارف مُهَمِّشةً، في نفس الوقتِ، التَّعلُّمَ الذي لا يمكن عزلُه عن التَّربية (بمعنى بناء شخصية المتعلِّم).

فبانخراط المدرسةِ في هذه النظرة vision للمعرغة، فإنها تحكُم على نفسِها بنفسِها بتركيز جهودِها على تبليغ هذه المعرفة إلى المتعلّمين كما تتصوَّرُها هي. في هذه الحالة، لن تترُكَ المدرسةُ للمتعلِّم فرصةً أو حيِّزاً لممارسة نشاطِه الفكري في ظل هذه الرؤية للمعرفة. وإن تركت له هذا الحيِّزَ، فإنه حيِّزٌ ضيِّق ومحدود قد تكون له انعكاسات سلبية على علاقة المتعلِّم بعملِية التعليم والتَّعلُّم. من بين هذه الانعكاسات السلبية، أذكرُ، على سبيل المثال، ما يلي :

-لن يكونَ المتعلِّم مسئولاً عن تعلُّمِه الذاتي لأنه مضطرٌّ للخضوعِ لهيمنة المُدرِّسِ والمادة المُدرَّسة،

-يتحتَّمُ على المتعلِّم أن يخصعَ لتعليمٍ ليس من اختبارِه، أي تعليم فُرِضَ عليه،

-قد يجد المتعلِّم نفسَه في وضعية سذاجةٍ لأن المعرفة المُقدَّمة إليه تُعتَبَرُ كاملة ونِهائية، وبالتالي، ليس له دورٌ في نقدها أو تأويلها أو إعطاء رأيِه حولها،

-قد يجد المتعلِّم نفسَه خاضِعا لتعليم بمثابة إخبارٍ عوض أن يكونَ دعامةً للثتقيف والتَّعلُّم والتربية (الإخبارُ عبارة عن تقاسم معلومة وهو شيء مختلفٌ اختلافا جذريا عن التثقيف والتَّعلُّم والتربية)،

-قد يتحوَّل المتعلِّم إلى مجرَّدِ مستهلكٍ للمعرفة، غير نشيط ومٍطواع، وبالتالي، سيبقى متقوقِعاً في وضعه ك"تلميذ" وليس "متعلِّم"،

-عوض أن يبنيَ المتعلِّم المعرفةَ أو يُعيدُ بناءَها لامتلاكِها، فإنه مضطر لابتلاعِها وتسجيلِها مع قدرتِه على استظارِها بأمانةٍ (اللجوء إلى الببغائبة)،

-قد يتحوَّل المتعلِّم إلى مجرد وعاءٍ تتراكم وتتزاحم وتتجمَّع فيه المعارف،

-قد يجد نفسَه مضطرا للتعامل مع معرفةٍ لا تسائِلُ أو تكاد رغبتَه في التعلُّم والفهم،

-يمكن أن يجدَ نفسَه رهِيناً بالمعرفة (الحقيقة) التي تنقلُها المدرسةُ وهو ما يُعاكس ميولَه للتَّحرُّرِ واستقلالية التَّعلُّم،

-قد يجد المتعلِّم نفسَه في وضعٍ غير آمنٍ ناتجٍ عن تخوُّفه من أن لا يكونَ قادرا بما فيه الكفاية على ابتلاع معرفة (حقيقة) المدرسة وهو الشيء الذي قد يراه عرقلةً لحظوظ نجاحه،

-قد يتكوَّن عند المتعلِّم نوعٌ من النفور أو الاشمئزاز إزاء معرفةٍ صالحة أكثر فأكثر لاستمرار مدرسةٍ هي مجرد ناقلة للمعرفة عوض أن تركِّزَ جهودَها لتعلُّمٍ له معنى…

الجزء الرابع : المتعلِّمُ و المعرفة عند نهاية المسار الدراسي

كما سبقت الإشارةُ إلى ذلك، إذا كان المتعلِّم يخضع لتعليم تحت الإكراه وإذا كانت المعرفة مفروضةً عليه وإذا لم يكن مُحَفَّزاً وإذا لم تستهدف المعرفةُ رغبتَه في التعلُّم والفهم…، جزءٌ كبيرٌ من المعارف التي تلقاها معرَّضٌ للتَّبخُّر السريع بعد اجتياز حاجز الامتحانات.

وهذا التَّبخُّر السريع ليس مفاجِئاً بل إنه منتظرٌ لأن العلاقةَ التي كانت تربِط المتعلِّمَ بالمعرفة لا تسمحُ باستغلال المعرفة في مكانٍ آخر خارجَ المدرسة أو خارج الوسط المدرسي. كون المعرفة تكتسي طابعاً مدرسياً محضا un caractère scolaire pur (معرفةٌ تصوغُها المدرسةُ، أولا وقبل كل شيءٍ، من أجل أغراضِها الخاصة)، فإن العلاقةَ السابقةَ الذكر تتلاءَمُ مع الوظيفة التي تقوم بها المدرسةُ ألاَ وهي مَلْءُ الأدمغَةِ وشحنُها بالمعارف الجافة.

في هذه الحالة، على المتعلِّم أن يبذلَ جهوداً كبيرةً ليصونَ ويحتفِظَ بهذين الملء والشَّحنِ إلى غاية حلول الامتحانات لاجئا من أجل ذلك إلى التلويكِ والحِفظِ المتكرِّرين.

ما تُؤاخذ عليه المدرسةُ ليس اللجوءُ إلى الذاكرة في حد ذاتها ولكن استعمال هذه الذاكرة بكيفية غير مُمَنهجة، غير منظَّمة إن لم نقل استعمالا فيه نوع من الإكراه (الأمورُ التي تحتفظ بها الذاكرة هي التي تمَّ استبطانُها بذكاءٍ وبمنهجيةٍ لضمِّها إلى البِنيات المفاهيمية structures conceptuelles).

بسبَبِ هذه الاعتبارات وبعد اجتياز الامتحانات، تصبح المعرفة المخزَّنة تحت الإكراه قصيرةَ الأمد أو سريعةَ الزوال. وهذا شيءٌ طبيعي ما دام المتعلِّم توقَّف عن بذلِ الجهود التي كان يبذلها تحت الضغط.

فعندما يغادر المتعلِّم المدرسةَ، فإنه يجد نفسَه، في أول وهلةٍ، أمام عالمٍ أوضاعُه وظروفُه… لم تكن في حُسبانِ هذه المدرسة. لأن المعارف، وخصوصا، المهارات والكفاءات التي يتداولها الوسط الاجتماعي و وسائل الإعلام والمقاولة والإدارة… لا وجودَ لها في الوسط المدرسي.

في الوسط الاجتماعي، تكون المعرفة شائعةً وغالبا ما تكون مُنمَّطة إن لم تكن فاقدة للعقلاتية. في وسائل الإعلام، تُقدَّمُ المعارف على شكل أخبارٍ بينما المقاولة والإدارة لا تشتغلان لا بالكيمياء ولا بالفيزياء ولا بالبيولوجيا ولا بالآداب ولا بالنحو ولا بالفلسفة…

بالنسبة للمقاولة، الكلمات الأساسية هي التدبير والنجاعة والمردودية والعلاقة بالزُّبناء والابتكار… بالنسبة للإدارة، الكلمات الأساسية هي الحكامة والتسيير والتقنين والتنظيم والقرب وجودة الخدمات…

أما المعارف المدرسية، فهي على مسافةٍ كبيرة من هذه الاعتبارات. بل تكتفي بما هي عليه، أي أنه لا امتدادَ لها أو تكاد خارجَ المؤسسة التَّعلمية.

فما الفائدةُ من المعادلات الكيميائية équations chimiques والقوانين الفيزيائية lois de la physique والتشريحات anatomies النباتية والحيوانية خارجَ المدرسة...؟ بكل تأكيد أنها تساعد على فهم العديد من الظواهر الطبيعية، البيئية، البيولوجية، الاجتماعية phénomènes naturels, environnementaux, biologiques, sociaux… فما هو إذن نفعُها بالنسبة للمتعلِّم في حياته الاجتماعية اليومية؟ علما أننا على درايةٍ بأن تفسيرات كل هده الأشياء تتطوَّرُ بسرعة فائقة.

إذن، هل يجب التَّركيزُ على محتويات التعليم أو على ما يمكن أن يُفرزَه هذا الأخيرُ من كفاءات ومهارات وقُدرات وموهِبة وميولات ومبادرات...؟

فهل يجب إجبارُ دماغ المتعلِّم من أجل شحنِه بالمعارف أو هل يجب أن يتعلَّمَ كيف يجد المكانَ المناسبَ لاستعمال هذه المعارف خارج دماغه؟

ليس من المبالغ فيه أن نقولَ إن المتعلِّمَ، عندما يغادر المدرسةَ، فإنه يُغادرها منمَّطٌا ومطبوعاً بمُحافَظِيَتِها conservatisme وتقليدانِيَتِها traditionalisme. إذا لم :

-تُعِدِ المدرسةُ النظرَ في علاقة المتعلِّم بالمعرفة،

-تربطْ هذه المدرسة، بصفة عامة، التَّعلُّمَ بالحياة، وبصفة خاصة، بالحياة الاجتماعية والمهنية،

-تضع حدا لعزل المعرفة عن إطارِها الحقيقي (معرف منعزلة)، أي المعارف المُشَيَّئة connaissances chosifiées والمثالية idéales (المتعلِّم نفسُه، عندما يتمثَّل بتلقائيةٍ شيئاما، فإنه يربط تمثُّلاتِه بإطارٍ مُعيَّن وهو ما يجعل هذه التَّمثُّلات صلبة، أي صعبة التغيير)...،

إن استمرت المدرسةُ على نظرتِها هذه للمعرفة، فإنها ستغرق أكثر فأكثر في مِثاليتِها وفي انعزالِها عن المجتمع الذي أنشأها. بل ستتخصَّصُ في إنتاج نوعٍ جديدٍ من الأمِّيين بمعنى أن المتعلِّمين يمتلكون معارف لكنهم لا يعرفون ماذا يفعلون بها خارج تقليدانية المدرسة!

أكثر من أي وقتٍ مضى، على المدرسة أن تُعيدَ النظرَ في مهمَّتها؟ في وظيفتِها، في دورِها، في ما تصبو إليه من سمُوِّ غاياتِها، في احترافها… وذلك في إطار رؤيةٍ جديدةٍ تجعلها تبتعِدُ عن اعتبار نفسِها موسوعةً شاسعَةَ الأطراف حيث تتزاحمُ معارفٌ لا لونَ لها ولا رائحةَ لها ولا طعمَ لها.

المعرفة تكون دائما مرتبطةً بإطار ما un certain contexte : علمي، اجتماعي، تاريخي، ثقافي، سياسي، فلسفي، حضاري، إثني… الذهاب إلى المدرسةِ لا يجب، على الإطلاق، أن يكونَ مرادِفاً لابتلاع معارف لا غدَ ولا أفقَ لها. بل يجب أن يكونَ مرادِفا لامتلاك معارفَ مُتَمَوضعةً في إطارٍ يقودُ إلى إفرازِ مهاراتٍ وسلوكاتٍ وقِيَمٍ تربويةٍ.

فإذا ذهبَ الطفلُ إلى المدرسةِ، فلِيتغيَّرَ ويصبحَ شخصاً آخر مغايرا لذلك الذي كان. متعلِّمٌ دخل المدرسةَ كشخصٍ بريء، ساذج، مُصدِّقُ لكل شيء وتلقائي، لكنه، عندما يغادِرُها، يجب أن يكونَ متفتِّحاً، متحرِّراً، قادرا على التَّكيُّف مع الظروف ويتمتَّع باستقلالية في اتخاذ القرارات والمبادرات… المعرفةُ المستنيرة (المعرفة المُدرَّسة المُثمَّنة valorisées) وحدها قادرةٌ على هذا التَّحوُّل الهائل والمرغوب فيه.

و في نهاية المطاف، هناك أسئلةٌ لها علاقة وطيدة بموضوع هذه المقالة والتي أعتبرُها أساسية، أي ذات أهمِّية قصوى ومصيرية يجب على الأقل طرحُها :

-هل المُدرِّسون أنفُسُهم يعرفون، حقيقَةً، لماذا يُبلِّغون المعرفةَ للمتعلِّمين؟ وقبل تبليغِها، هل هم مُتمكِّنون من ما تختصُّ به من اعتبارات إبستيمولوجية، سوسيولوجية و فلسفية؟

-هل الأطفالُ والمُراهقون والشبان يعرفون لماذا يذهبون إلى المدرسة (غير ذلك، إنه إحباطٌ مرادِفٌ للدُّغمائية dogmatisme بمعنى أن هذه المدرسةَ تعرف ما تقوم به بينما المُتعلمون المتردِّدون عليها لا يعرفون شيئا)؟

-فهل تمَّ إخبارُ المتعلِّمين بماهيةِ المدرسة والتعليم والتَّعلُّم والتربية، فبالأحرى لماذا المدرسةُ تنقلُ لهم المعارف (غير ذلك، إنه إحباطٌ آخر يُضاف إلى الإحباطِ الأول بمعنى أن المتعلِّمين هم المُسخَّرون للتعليم (للمدرسة) وليس العكس)؟

***

40- نموذج من ما تُنتجه المنظومةُ التربويةُ المغربيةُ

بعد إطلاعي على رسالة مُحرَّرة باللغة الفرنسية، على ما يبدو، هي عبارة عن طلب توظيف موجَّهٍ لمدير مؤسسة تعليمية خصوصية علما أن صاحبَ هذا الطلب يُفيد بأنه حاملٌ لدبلومٍ في الأدب الفرنسي، اختصاص اللسانيات linguistique، وقفتُ مشدوها ومُحيَّرا لما ورد من أخطاء في تركيب الجُمل وأخطاء إملائية fautes d'orthographe ونحوية fautes grammaticales.

وفضلا عن هذه الملاحظات، فإن علامات الترقيم أو الوقف ponctuation من نقطٍ points وفاصلات virgules تكاد تكون غير موجودة بحيث أن الرسالةَ عبارة عن جملٍ متجاورة لا يعرف القارئ متى تبتدئ ومتى تنتهي. ناهيك عن الخلط بين معاني الكلمات…

الغريب في هذه الرسالة، هو أن صاحبَها يدَّعي أنه حاصلٌ على دبلوم في اختصاص اللسانيات. وأغرب من الغرابة، هو أن اختصاصَ اللسانيات يهتمُّ بجميع أوجُه اللغات، بما في ذلك التدقيق الإملائي orthographe والنحو grammaire.

لو أنض بعضُ الأدباء الفرنسيين لا يزالوا موجودين على قيد الحياة من مثل Voltaire و Victor Hugo و Alphonse de Lamartine و Jean-Jacques Rousseau... واطلعوا على هذه الرسالة، لبادروا بالانتحار لِما أصاب لغةَ أقلامهم من تعذيب و وجع وتحريف. أما الكُتّاب المغاربة الناطقون بالفرنسية من طينة الطاهر بنجلون وعبد اللطيف اللعبي وفؤاد العروي وادريس الشرايبي وعبد الكبير الخطيب...، فسيندمون على اليوم الذي اختاروا فيه امتهان الكتابةَ والتأليف بالفرنسية.

إنا لا ألوم بتاتا صاحبَ هذا الطلب لأنه، حسب أسلوب الرسالة، يبدو واثقاً من نفسِه ومن تكوينه ومن القيمة المضافة التي ستستفيد منها المؤسسة التعليمية الخصوصية بعد التَّوظيف، من خلال تدريس اللغة الفرنسية.

اللوم موجَّهٌ للمنظومة التربوية التي أصبحت فاشلةً في التمييز بين الصواب والخطأ وبين الجميل والرديء وبين التكوين والتهريج… اللومُ موجَّهٌ للمنظومة التربوية التي أصبحت يُدرِّس بأقسامها مَن هبَّ ودبَّ. بل إن العديدَ من المدرسين اختاروا مهنةَ التَّدريس للإفلات من البطالة ولضمان راتب شهري.

وأخطر من هذا وذاك، أن الذين علّموا وكوّنوا صاحبَ الرسالة، هم أنفسهم يعتقدون أن ما يلقِّنونه للمتعلمين على صواب. وهذا هو ما سيحدث، فعلا، عندما يتمُّ توظيفُه لتدريس اللغة الفرنسية.

فعوض أن يكونَ صاحبُ الرسالة عاملا من عوامل الرفع من مستوى التعليم، فسيساهم في ردائته وانحطاطه وهكذا... إلى أن تصبح المنظومة التربوية هي نفسُها ناقلةً بدون عناء للرداءة والتهريج والخشونة...

أما إذا قمنا بتحليل لمحتوى الرسالة، فحدث ولا حرج : أغلاط بالجملة، إملائية ونحوية، أسلوت ركيك، أسلوب ينقصه الأدب واللياقة، كلمات مستعملة في غير محلها، خلط بين الأدب الفرنسي واللسانيات...

وعندما يتمُّ توظيف صاحبِ الرسالة، فكم سيكون عدد ضحاياه؟ وإذا عرفنا أن هذا النموذجَ من المدرسين يوجد بكثرة ليس فقط في التَّعليم الخصوصي، بل كذلك، في التَّعليم العمومي، وليس فقط في مجال تدريس اللغات، لكن في جميع التَّخصُّصات، فعدَدُ ضحايا هذا النوع من المدرسين سيصبح أضعافا مضاعفة. عندها، تصبح الرداءة إرثا أو مكوِّنا مترسِّخا في المدرسة الوطنية تتناقله أجيال المدرسين والمتعلمين في منظومة تربوية أصابها الضياع ونخرَ أعضاءها الفساد البيداغوجي والتربوي.

بالفعل، إن منظومتَنا التربوية أصِيبت بمرضٍ مزمنٍ maladie chronique اسمُه اللامبالاة والإهمال.

اللامبالاة ترجمةٌ صارخة لعدم وجود إرادة سياسية قوية تجعل من هذه المنظومة أولوية الأولويات، مرتبطٌ بها، ارتباطا راسخا، مستقبل ومصير البلاد.

الإهمال ترجمةٌ صارخة للمقولة المتداولة في الأوساط السياسية التي مفادُها "ومن بعديَ الطوفان".

لكن، عندما تلتقي اللامبالاة بالإهمال، وبالأخص، الإهمال السياسي، فالكارثة هي تركُ المنظومة التَّربوية تسير لحالها، كما هي، حاملةً معها كل المشاكل المتراكِمة والأعطاب والثغرات والإخفاقات والنواقص… إلى درجة أنها أصبحت تقاوم كل الإصلاحات. لماذا؟

لأن منظومتَنا التربوية لا يمكن، على الإطلاق، أن يقومَ بإصلاحِها سياسيون فاسدون حتى النخاع. سياسيون يختلط في فكرهم وفي تربيتهم الوصولُ إلى السلطة بالانتهازية وقضاء المصالح الشخصية.

لو كانت وأصبحت منظومتُنا التربوية هاجسا يشغل بالَ السياسيين وأحزابهم، لانتهينا منذ زمان من إصلاح هذه المنظومة وتفرَّغنا، فقط وحصريا، للانشغال بتحسين مردوديتِها وجودة أدائها.

فكيف لمنظومتِنا التربوية أن يتمَّ إصلاحُها، وأسمى وأرقى ما تقوم به من مهام وما تِّقدمُه من خدمات للأجيال المتوافدة عليها، وعلى رأسها، مهمة التنشئة الاجتماعية وخدمات التعليم والتعلُّم، أصبح سلعةً تباع وتّباعُ وتُشترى.

فإذا كانت منظومتُنا التربوية ضحيةً للامبالاة ولإهمال السياسيين، فإنها اليوم وفي نفس الوقت، تعاني من الداخل. بمعنى أن الذين حوَّلوا خدماتِ المنظومة التَّربوية، المجانية دستوريا وقانونيا، إلى سلعة تُباع وتُشترى موجودون بداخلها. وهذا يعني موتُ الضمير المهني. وموتُ الضمير المهني يعني موت الأخلاق والأخلاقيات ومعهما موت كل القيم الإنسانية التي، من شأنها، مساعدة المنظومة التَّربوية على أداء مهامها في جوٍّ تطبعُه الاستقامة intégrité والنزاهة probité.

قد يقول قائلٌ إن هذا النوعَ من المفسدين قليل بالمقارنة مع الأغلبية الساحقة المستقيمة. نعم، هذا صحيح. لكن لا ننسى أن "حُوتَ وَحْدَ كَتْخَنّزْ الشواري". بمعنى أن فسادَ المفسدين، إذا اقترن بالطَّمع avidité والجشع cupidité، لا شيءَ يوقفه. بل ينتشر كالنار في الهشيم.

فلا غرابةَ أن تصبحَ المنظومة التَّربوية وما، من المفروض، أن تقدِّمَه للمجتمع من خدمات مجانية، مصدرا لكسب المال. ولا غرابة أن تتدهورَ وتتراجعَ سمعةُ المدرسة العمومية. ولا غرابة أن تقاومَ منظومتُنا التربوية كل الإصلاحات. لماذا؟ لأن مَن هم، من المفروض، أن يكونوا في المقدِّمة لإنجاح هذه الإصلاحات، هم الذين يُفسدونها جزئيا من الداخل. ولا غرابةَ أن تُنتِجَ منظومتُنا التَّربوية من أمثال صاحب الرسالة المشار إليه أعلاه!!!

كل هذه الغرابات تؤدي إلى مزيدٍ من الغرابات الأخرى التي يمكن اختزالُها في المثل المغربي : "مُولْ لْمْلِيحْ باع وراحْ"، أي أن المنظومة التَّربوية الجيِّدة التركيب والأخلاق والقيم راحت، إن لم نقل انتهت! إلى أين نسير؟

***

41- القرآن الكريم شاملُ ومشمولٌ برعاية الله

قبل الدخول في تفاصيل هذه المقالة، أريد أن أثيرَ الانتباهَ أن كتابَ الله المنزَّل على رسولِه محمد (ص)، خاتم الرُّسُل والأنبياء، ليس كأي كتاب، بحكم أنه كتاب هداية ورُشد وإرشاد وعبرة وموعظة وهدى وتوجيه…، وبالتالي، فقراءتُه يجب أن تتمَّ بتأنٍّ وتبصُّرٍ وتدبُّر. فما معنى أن نقرأَ كتابَ اللهِ بتأنٍّ وتبصُّرٍ وتدبُّر؟

يقول سبحانه وتعالى في كتابِه الكريم : "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (ص، 29). في هذه الآية الكريمة، يقول اللهُ، جلَّ جلالُه، إنه أنزل القرآن على نبيِّه ورسولِه محمد ليُبلِّغَه للناس من أجل تدبُّر آياتِه، أي إدراكُ وفهمُ كلماته وألفاظه وحروفه وجُمَله، والوقوف على ما وَرَدَ فيه من تنبيهات ونصائح وإشارات وأخذ العِبرة من ما يتضمَّنه من قيمٍ إنسانية سامية ومن قَصَص الماضي.

وهنا، لا بدَّ من التذكير أن حِفظَ القرآن بدون فهمٍ وإدراكِ محتواه، وإن كان هذا الحِفظُ شيئا مرغوبا فيه، فتدبُّر آياته أفضل من هذا الحِفظ، وخصوصا، أن القرآنَ الكريم، في عصرنا هذا، أصبح في متناول مَن يرغب في قرائتِه، من خلال مختلف وسائل التواصل الاجتماعي وموضوعا رهن إشارة القُراء عبر سيلٍ هائلٍ من التطبيقات العنكبوتية كتابةً، تفسيرا وتجويدا وترجمةً.

قد يقول قائلٌ : حِفظُ القرآن، عن ظهر قلب، وسيلة من وسائل الحِفاظ عليه في الصدور وتجنُّب الزيادةَ فيه أو النُّقصان منه. أقول وأعيد : القرآن الكريم، كما أسلفتُ، موضوعٌ رهنَ إشارة الجميع، بما في ذلك غير المسلمين، علما أن كتابَ الله مترجمٌ إلى العديد من اللغات وله مَن يحفظُه من كل تغيير وتحريف وتزوير. يقول سبحانه وتعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر، 9). ويقول كذلك، جلَّ عُلاه : "لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت، 42).

ولهذا، فإن تدبُّرَ آيات القرآن الكريم أفضل من حفظه عن ظهر قلب بدون فهم محتواه وحِكمه. وتدبُّر آيات القرآن قد يسهِّل حفظَ ما تيسَّر منه، علما أن الفرقَ شاسع بين الحافظ عن ظهر قلب، الذي لا يستطيع أن يعملَ بما لم يفهمه والمُتدبِّر الذي يفهم ويعمل بما فهِمه. وتدبُّر القرآن الكريم، أصلا، مطلوبُ ليُطبِّقَ الناسُ ما استشفوه منه من نصائح وإرشادات وهداية ونور واستقامة… في حياتِهم اليومية. لماذا؟

لأن كتابَ الله، كما سبق الذكرُ، ليس كأي كتاب، بحكم أنه كتاب هداية ورُشد وإرشاد وعبرة وموعظة وهُدى وتوجيه… لجميع الناس، بغض النظر عن أجناسهم ومعتقداتهم واختلاف ألسنتهم ولون بشرتهم مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ" (يونس، 57). وموعظةٌ، في هذه الآية، تعني القرآن الكريم الذي، إذا تدبَّر الناسُ آياتِه، يُشفي ما في الصدور، أي تكون نتيجةُ هذا التَّدبُّر بمثابة راحةٍ نفسيةٍ وطمأنينة وسكينة.

ثم لماذا أقول القرآن الكريم شامل؟ لأنه كلٌّ متكامل مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : …مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ… (الانعام، 38). وهو الذي يقول كذلك : "وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأعراف، 52). الآية الأولى تبيِّن أن اللهَ، سبحانه وتعالى، وضَّحَ في كتابه الكريم كلَّ ما يحتاجه عبادُه لاتِّباع صراطه المستقيم وكلَّ ما ينفعهم من خيرٍ واستفامةٍ وعدلٍ وقيمٍ للتعايش داخلَ المجتمعات. والدليل على ذلك، أن اللهَ، سبحانه وتعالى، استعملَ في هذه الآية كلمةَ "شيء"، أي كل شيءٍ له علاقة بما يريده من خيرٍ لعباده. في الآية الثانية، يقول سبحانه وتعالى، إنه فصَّلَ آيات القرآن الكريم، أي ليُبيَّن فيها، أو من خلالِها، كيف يُميِّزُ الناسُ بين الحق والباطل والطيب والخبيث والعدل والظلم…

ولهذا، فالقرآن الكريم هو، في الحقيقة، بمثابة ما نسمِّيه، في لغة العصر، خُطَّةً تنيرُ الطريقَ لمن أراد أن يستقيمَ وأن ينفعَ نفسَه وينفعَ الآخرين. وبما أن اللهَ يريد الخيرَ لعباده أجمعين، فقرآنه منزَّلٌ على نبيِّه ورسوله محمد (ص) ليُبلِّغَه للناس جميعا مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(سبإ، 28).

والناس الذين ينفعون أنفسَهم وينفعون الآخرين، هم الناس الذين يعملون بما نصَّ عليه القرآن الكريم من قيمٍ إنسانية، اجتماعية وأخلاقية ضماناً لتعايشهم وتساكنهم في أمن وأمان. والطريق المستقيم، المنصوص عليه في القرآن الكريم، يلمسُه القاريء المُتمعِّن والمتدبِّر من أول آية فيه إلى آخر آية منه. ولهذا، يجب الاقتداءُ به من ألفه إلى يائه، أي أن آياته مرتبطةٌ فيما بينها.

وما دام القرآنُ الكريمُ كتابَ هداية وإصلاح ورُشدٍ وحكمة وموعظة...، يجب العمل به في شموليتِه. بل إنه، إن صحَّ القولُ وكما سبق الذكرُ، خطّةٌ إلاهية لإسعاد البشر. فهو إذن منزَّلٌ للبشرية كافَّةً (للناس جميعا) لتوجيهها نحو ما فيه نفعٌ وخيرٌ لها، أفراداً وجماعات. ومُنزَّل كذلك ليُخرجَ البشريةَ من الظلمات إلى النور، أي من ظلام الجهل إلى نور العلم والمعرفة.

وحين أقول "يجب العملُ به في شموليته"، فالأمرُ يتعلَّق بتبنِّيه كاملا. بمعنى أنه لا يجب أن يُختارَ منه الآياتِ التي تستجيب لرغبات أو لأهواء بعض الناس… كما يفعل السلفيون المتطرفون الذين لا يختارون من كتاب الله إلا ما يخدم مصالحَهم وما يُمكِّنهم من فرضِ أنفسِهم على الآخرين.

ولهذا، كلما تمعَّن القاريءُ وتدبَّر آياتِ القرآن الكريم، كلما وقف على خباياه و دُرَرِه إنسانيا، تربويا، أخلاقيا واجتماعيا وحتى اقتصاديا.

والوصول لهذه الخبايا والدُّرر لن يتأتَّى بالتفسير الحرفي لآياته الكريمة. مَن أراد أن يُدركَ كنهَه، عليه أن يكون متفقها في العلم (العلم بمعناه الواسع) واللغة والبلاغة. وأن يتعامل مع هذا القرآن برمَّته، أي ككل متكامل وأن يكون عارفا بأسباب نزوله وظروف هذا النزول الاجتماعية منها والاقتصادية والثقافية. لماذا؟

لأن المعرفةَ تكون دائما مرتبطةً بالزمان والمكان اللذان تُنْتَجُ فيهما. ولهذا، تُعطى أهميةٌ كبرى لأسباب النزول لأنها تساعد على إدراك مقاصد الآيات الكريمة وما تحملُه من توجيهات ونصائح وإرشاد للناس تنفعَهم في حياتهم الروحية والمادية.

فتأويل القرآن الكريم لا يمكن أن يعتمد فقط على التفسير الحرفي لكلماته وجُمله لأن الكثيرَ من آياته الكريمة نزلت في ظروفُ معيَّنة. ولهذا، فالتفسير الموضوعي لا يمكن أن يتمَّ في معزل عن هذه الظروف.

والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى، في العديد من الآيات، يوجه كلامَه لأولي "الألباب"، أي للناس العقلاء، المتبصِّرين والحكماء، القادرين على التأويل للوصول إلى المعاني السامية لهذا الكتاب العظيم. وعبارة "أولي الألباب" تعني هنا دعوة من الله سبحانه وتعالى لعباده لقراءة القرآن الكريم قراءةً عقلانية، تأمُّلية وتفكُّرية.

***
============


*****


*****


*****





-------------------------
39- المعرفة : من المنبع إلى المدرسة
40- نموذج من ما تُنتجه المنظومةُ التربويةُ المغربيةُ
41- القرآن الكريم شاملُ ومشمولٌ برعاية الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى