مصطفى الحاج حسين - مجموعة قصص (قهقهات الشيطان)

مقدمة: (القاص مصطفى الحاج، كما عرفته)..
بقلم الشاعر: (أحمد دوغان)..

(مصطفى الحاج حسين)، عرفته من خلال اللقاءات اليوميّة، أثناء مروري أمام نادي الضباط يومياً للذهاب إلى البريد بحثاً عن رسالة جديدة أو بريد ثقافي. وكنتُ أجدُ في (برّاكته) شيئاً من الراحة.
هذه البرّاكة التي أصبحت محطّةً للأدباء، يقلّبون فيها الصحف السورية والعربية، وكلٌّ يبحث عن ليلاه، ومرّةً ثانية التقيتُهُ في أمسية أدبيّة في معهد السكرتارية التابع لجامعة حلب.
المرّة الثالثة التي قرأتُ فيها (مصطفى الحاج حسين)، اسماً يفوز في جائزة سعاد الصبّاح في مجال القصّة القصيرة عام 1994.
وُلِدَ ( مصطفى الحاج حسين ) في مدينة (الباب) التابعة لمحافظة حلب 8 شباط عام 1961، أُدخِلَ المدرسة الابتدائيّة، إلاّ أنّه لم يكمل هذه المرحلة وإنّما هام في مدرسة الحياة، لذلك ينطبق عليه المثل الشعبي:
(إن لم تعلّمه العلاّم، تعلّمه الأيّام) وقد علّمته الشيء الكثير.
إذاً، (فمصطفى) لم يَنَلْ من الشهادات ما يزين به صدر الألقاب، لكنّه أكبّ على القراءة والكتابة، حتّى استطاعَ أن يمارس الكتابة الإبداعية. وليس هذا عجباً، فقبله الكثير من الأدباء، وأذكر على سبيل المثال الأديب المصري شاعر البؤس (عبد الحميد الديب)، ومن حلب الأدباء: (مصطفى البدوي، وسعيد رجّو، ونيروز مالك...) وكان لأديبنا ما أراد.
فقد نال أكثر من جائزة أدبيّة في مجال القصّة محلّيّاً وعربيّاً، أذكر من تلك الجوائز:
•جائزة اتحاد الكتّاب العرب بحلب 1993، 199.
•جائزة المركز الثقافي العربي بحلب عام 199.
•جائزة سعاد الصبّاح للإبداع الكويت 1994.
ولطالما نحن بصدد الجوائز الأدبية، فقد فاز (مصطفى الحاج حسين) في إحدى هذه الجوائز العربية، ولمّا اشترطت لجنة الجائزة أن يكون المتقدّم للجائزة من حَمَلة الشهادات فقد حُرِمَ (مصطفى) من هذه الجائزة. ولمّا كانت الحياة مدرسة (مصطفى الحاج حسين)، فقد وهبه الله السّخرية ليوظّفها في قصصه دون تكلّف، وإن امتدَّ الرقيب الاجتماعي إلى هذه الموهبة ليقول لصاحبها:
ألا يكفيكَ أن تكتب قصّة؟ وأعود إلى المثل الشعبي لأواجه به (مصطفى الحاج حسين)، وأقول له:
(أنتَ مسبّع الكارات)، ولا فخر.. ويبدو أنّ المهن التي زاولتَها غير كافية، فانتظر مزيداً من الانكسارات عبر المهن التي تنتظر، بدءاً من البناء إلى التطريز الألكتروني.
أمّا الأدب عامّة، والقصُّ خاصّة، فإنّ (مصطفى الحاج حسين) قد قبل أن ينتسب إلى هذا الجنس الأدبي مشاغباً خفيفَ الظّل، مع أنّه صاحب قصّة (إقلاق راحة) وقصّة (تل مكسور)، وقصّة (اغتيال طفولة). لذلك لا يفرح الشيطان كثيراً عندما يقهقه في وجه (مصطفى الحاج حسين)، لأنّ القصّة لديه انتصار للبسطاء.. لهويّة الإنسان، بعيداً عن شظايا الإنسان الآلي
أو إنسان الذّرّة.
فالقصّة التي يكتبها (مصطفى الحاج حسين) هي من لحم ودم وروح هذا الجنس الأدبيّ.
أعتقد أنّني في هذه الكلمات لم أصادر رأياً، وإنّما عزمتُ على قراءة المجموعة بطريقتي الخاصّة، ولكلّ قارئ رأيه.. لذلك أقول: إنّها دعوةٌ للقراءة.
أحمد دوغان .
حلب 1997 م
* قهقهات الشّيطان..
صراخ أمي وأختي (مريم)، جعلني أدرك أنّ أبي مات.
أسرعت إليه، سرقت نظرة نحوه من النافذة ثم دخلت.. كانت أمي قد أسبلت جفنيه، وكان وجهه المحروق بأشعة الشّمس ممتقعاً، شديد الزّرقة، أسبوع وهو يعاني سكرات الموت، من يوم أن أصيب بالفالج، أنبأنا الطبيب بقرب موته، ولكنني لم أصدق، لا يعقل أن يموت أبي، هذا الرجل الجبار، إنّ صوته كفيل بأن يرعب ملك الموت (عزرائيل)، انحنيت فوقه، أردت أن ألثم جبينه البارد، ولكنني اكتشفت أنّ عينيّ عاجزتان عن ذرف الدمع، هالني هذا الإكتشاف.. لقد مات أبي.. وينبغي ان أبكي، على الأقل مجاملة، أمام أمي وأختي وزوجة عمي وابنتها، حسدتهنّ على دموعهنّ المرأة دائما جاهزة للبكاء
.. يا لسعادتها!!!.
مات أبي، تلك هي الحقيقة، وعليّ أن أسلم بها، وتيقنت أنّ الموت شيء رهيب، أقوى من أبي، النساء الأربع يبكينه.. ولا بدّ أنهنّ ينتظرن مني فعل ما يليق بهذه المناسبة، ابتهلت إلى الله أن يمنّ عليّ بدمعة واحدة، لعنت الشيطان الرجيم في سرّي، صممت أذنيّ عن سماع صراخه:
ـ لقد أصبحت حرّاَ طليقا.
ـ ابتعد.. أيها الشيطان القذر، فأنا أحبّ أبي، رغم كل شيء، لقد سامحته.
لكنّ الماكر يهمس لي:
ـ هل تصدق بكاء أمك وأختك، على أبيك؟؟.. أم تصدق بكاء زوجة عمك و سميرة ابنتها، إنهنّ يتظاهرن بالبكاء، وهذا الدمع ليس إلآ حيلة نسائية، لقد كان أبوك قاسياً عليكم جميعاً، فكيف يبكين عليه بصدق؟؟!!.
ـ ابتعد عنّي يا خبيث، إنّ الذي تتحدّث عنه، هو أبي، لقد أفنى عمره تحت أشعة الشمس اللاهبة، من أجلي وأجل العائلة، أنا من دونه لا أساوي شيئا، لقد أصبحت يتيماً، لا معين ولا سند.
تحولت دارنا إلى مناحة بشكل سريع
توافد الجيران على بكاء وصراخ النسوة الأربع، ووصل الخبر إلى الأقارب، فبدؤوا بالتوافد، وها هي العجوز (أم صطوف) تنهضني عن صدر أبي، وقفت حائراً.. ثمّ أسرعت إلى غرفتي، وعلى الفور، بللت إصبعي بلعابي، ثمّ دهنت جفنيّ.
ما أشدّ حاجتي للبكاء، حقدت على عيوني، لأنها لا تسعفني بالدمع، في هذه اللحظات الحرجة، ماذا سيقول الناس عنّي؟!.. لم يذرف دمعة على أبيه!!! ولكن أنّى لي بالدمع؟!.. لقد تأمرت عليّ عينايّ.. الشيطان هو السبب، ما يفتأ يوسوس:
ـ فليشبع موتاً... فليشبع.
حاولت أن أخنق صوته، أن أهرب منه، بسملت، قرأت الفاتحة على روح والدي، لكنه كان لي بالمرصاد، راح يدغدغ أعماقي، وها أنا أبتسم..إبتسامة عريضة
رباه ما هذا؟؟!! أيعقل.. أن أبتسم؟!.. أبتسم بينما ينوح الناس.. ويندبون أبي!! صفعت خدّي بقوة.. شددت شعري بعنف.. لتدمع عينايّ، ولكن دون جدوى!! لقد كنت أبتسم، وسمعت أعماقي تدندن أغنية، لا تتناسب مع ما أنا فيه.. كرهت نفسي.. ألهذا الحدّ أنا حاقد وسافل؟! البكاء في الخارج بلغ أوجه، النادبات كثرن، وأنا مغلق على نفسي الباب، لا أجرؤ على الخروج.. زوج عمتي يصرخ في النسوة، أن يرحمن الميت من البكاء والندب، فالبكاء يعذب روحه الطاهرة، وعاد الشيطان يسألني:
ـ وهل تعتقد انّ روح أبيك طاهرة؟؟.. وقهقه الوغد.
ـ نعم.. إنها طاهرة، لقد عاش شريفاً.. وشريفاً مات.. لم يطعمنا إلآ من عرق جبينه.
همس:
ـ هل نسيت أنه سبب حرمانك من المدرسة؟.. وأنه أجبرك على العمل في مهنة لا تطيقها؟.. هل نسيت كيف كان يضربكم أنت وأخوتك وأمك؟؟.. هل.. وهل؟!.
حاولت أن أجيب هذه المرّة بهدوء.. عساه ينصرف:
ـ مع هذا أيها الشيطان المحترم، يبقى هذا الميت أبي، كان يقسو عليّ حتى يصنع مني رجلاً ، هكذا كان يقول لي، أراد أن يعلمني مهنة شريفة.. ثم إنه لم يكن يبخل علينا بشيء، صحيح أنه عصبيّ المزاج، يده والضرب، ولكنه بالمقابل كان حنوناً.. ويحبنا، إنه من النوع الذي لا يظهر عواطفه حتى لا نطمع.. أنا أفهم أبي جيداً.. وبخاصة في الفترة الأخيرة، حيث صار يشتري لنا الطّبخة على مزاجي..قال لأمي:
ـ اطبخي.. ما يطلبه ويحبه (رضوان).
ألا يكفي هذا التنازل؟؟.. وفوق ذلك.. كان يفكر أن يزوجني (سميرة) ابنة عمي ، إنّ موضوع موافقته على زواجي من (سميرة، شيء عظيم وكبير بالنسبة إليّ.. إذاَ ابتعد عني أيها الشيطان.. فأنا خجلان من نفسي
دعني أذرف دمعة واحدة أمام الناس بسلام.
جاءني خبط شديد على الباب.. وأصوات تنادي:
ـ (رضوان).. افتح يا (رضوان).
أيقظني هذا الصوت، إنها أم (حسن) عمتي الغالية، تهتف مرّة أخرى:
ـ أنا خائفة على الولد... اكسروا الباب.
وجدت نفسي مضطراً لفتح الباب، قمعت ابتسامتي.. ورسمت علامات الحزن والأسى، فإذا ب (سامح) ابن عمي، يطالعني بوجهه الأصفر.. شعرت بالإبتسامة توشك أن تتسرب إلى شفتيّ، فأسرعت لأرمي رأسي على صدره الضيق، حتى أداري سوأتي اللعينة، ضمني إلى صدره بحنان، وأخذ ينتحب بشدة، يبكي الجميع ألآيّ، ألآ ما أشد خجلي وتعاستي.. ليتني كنت الميت بدل أبي.
خارج الدار، كان الجميع من رجال العائلة، والجيران.. مجتمعين، شاهدت المغسل، ثمّ التابوت، فاقشعر جسدي لمنظرها البارد، وتخيلت والدي ملقى على المغسل، وهم يصبون فوقه الماء، وتذكرت أنه لا يطيق الماء الساخن، فخطرت في ذهني فكرة خبيثة:
ـ ماذا سيفعل أبي.. لو سكبوا عليه ماء ساخناً؟.. هل سيزعق في وجه أمي.. مثل كلّ مرّة؟.. هل سيضربها ويلعن أباها؟؟.
جعلتني هذه الفكرة أبتسم من جديد.. اقترب جارنا (أبو فجر) مني، أخذ يدي بأسى:
ـ العمر لك يا بني... العمر لك..
وكادت تفلت مني قهقهة عنيفة، حينما فكرت أن أردّ عليه، لكني أحجمت بسرعة، اللعنة عليك يا (أبا فجر)، دعني وشأني أسرعت بالهرب، عيون الناس تطاردني، عبارات الأسى والشفقة والتعزية تثقبني، وأنا هارب من النظرات التي لا ترحم، والتي إن استمرت لكشفت حقيقتي، وربما بصقوا عليّ لو رأوا ابتسامتي، ربما ضربوني، وداسوني، الهرب.. الهرب أفضل وسيلة، ولكن إلى أين؟!.. إلى المقبرة.. وهناك.. سأنتظر مجيئهم حاملين والدي على الأكتاف.
في الجبانة... جلست بمفردي، أنتظر قرب قبر جدي (الحاج رضوان)، في البدء تلفت حولي، ولمّا أدركت أني وحيد، في هذا المكان الموحش، أزحت عن وجهي اللثام ، وصرخت:
ـ السلام عليكم يا جدي... أنا حفيدك (رضوان) جئت لأزفّ إليك بشرى، ابنك (محمد) توفي، وهاهم يجهزونه.. ليدفنوه قربك، هكذا أوصى قبل موته، مع أنه كان لا يحبك، كان دائما يردد:
ـ الله لا يرحمه..ولا يسامحه، والمقصود
أنت يا جدي، أتدري لماذا؟.. لأنك ظلمته..لكنه ياجدي بدوره ظلمني، أنت قسوت عليه، وهو مثلك تماما، حرمني من المدرسة وأجبرني على الشغل، في الصنعة التي فرضتها أنت عليه، لقد انتقم منك بي.
حدثنا عنك كثيرا، كيف كسرت يد جدتي (عيوش)، يوم تأخرت عند والدها المريض، وكيف صارت تحمل عمتي الصغيرة بأسنانها مثل الجروة، لقد تعذب أبي معك كثيراً، لذلك عذبنا أنا وأخوتي وأمي، أنت سبب البلاء كله يا جدي، فلا تطلب مني ان أحبك.
أنت بخيل... إلى درجة لا تصدق، أبي على الأقل لم يكن يبخل علينا بشيء.
كان أبي لا يشبع الطعام.. في حضورك، مع أنه يعمل معك طوال النهار، في حمل الأحجار، حتى إنّ جدتي (عيوش)، كانت تكمل أكلها في المطبخ
بعيداً عنك، ومن أجل المال بعت عماتي الثلاث، فماذا تنتظر منّا نحن أحفادك
؟؟.. من حسن الحظ، أنّك متّ قبل أن نراك، رغم أني كنت أشتهي أن يكون لي جد كباقي الأولاد.
ومن بعيد... لمحت جمعاً غفيراً، يتوجه إليّ.. صمت وانقبض قلبي، حين أبصرت النعش محمولاً على الأكتاف، قفزت إلى ذهني صورة أبي محشوراً في التابوت ، شعرت نحوه بالأسى والحزن، نظرت إلى القبر المحفور قربي، كان منظره مقرفاً ومخيفاً، كيف سيدخل ابي هذا القبر الضيق؟!.. لماذا لا نطلي جدرانه الرطبة بالإسمنت؟.. إنّ الاستلقاء فيه على هذا النحو غير مريح.
في تلك اللحظة... دمعت عينايّ، شعرت بالغبطة.. والرّاحة.. تعمدت ألآ أمسح دموعي، حتى تصل إليّ الجنازة، لكن للأسف ما زالت الجنازة بعيدة، وهاهي دموعي تجفّ على خديّ.
حلب
* إغتيال طفولة..
استيقظتُ على ركلةٍ قويَّةٍ، وقبل أن
أفتح عينيّ النّاعستين، انهمرت دموع الوجع منهما، أحسست أنّ خاصرتي قد انشقّت، وقد هالني أن أبصر أبي، فوق رأسي وعيناه تقدحان شرراً، نهضت مسرعاً، يسبقني صراخي وعويلي، فأنا لم أدّر بعد، لماذا يوقظني بهذه الطّريقة
؟!.
ـ ساعة.. وأنا أناديكَ.. فلا تردّ يا ابن الكلب!.
أنا أعرف أبي، إنّه قاسٍ، بل هو أشدّ قسوة وفظاعة من الشّيخ (حمزة) نفسه، ومن مدير المدرسة (الأعور)، فكثيراً ما كان يضربني وشقيقتي (مريم)، لأتفه الأسباب، حتّى أمّي، لم تكن تسلم من ضربه وشتائمه.
ـ إلى متى ستبقى(فلتاناً) مثل الحمار
لا عمل.. ولا صنعة؟!.
شهقتُ بعمقٍ، تنشَّقتُ مخاطي، بينما راحت عينايّ تستوضحان وجهَ أمّي، المنهمكة بإحضار الفطور، عن معنى مايقوله أبي، قرأت أمي تساؤلاتي.. فاقتربت منّي:
ـ ستذهب لتشتغلَ مع أبيكَ.. صار عمركَ عشر سنوات.
وكدّت أصرخ:
ـ أنا لا أقدر على حمل الحجارة، ولا أحبّ صنعة العمارة.
غير أنّ نظرات أبي الحادّة، أرغمتني على الصّمت، فبقيت مطرق الرّأس، أشهق بين اللحظة والأخرى.
قال أبي بقسوة:
ـ تحرّك.. اغسل يديك ووجهك.. وتعالَ تناول لقمة قبل أن نذهب.
خرجتُ من الغرفة ساخطاً، شعرتُ بكره نحو أبي، وصنعة البناء، فهي متعبة، تعرّفتُ عليها، عندما كنتُ أذهبُ إليه أحياناً، فأرى ما يعانيه، الذين يشتغلون بهذه المهنة.. من تعبٍ.
تبعتني أمّي إلى المطبخ، وما كدّتُ أسمع وقع خطاها، حتى التفتُّ نحوها صارخاً:
ـ أنا لا أريد الشّغل.. في العمارة.
فردّت بصوت يكاد يكون همساً، بينما كانت تضع إصبعها على فمها:
ـ لو لايّ.. لأخذكَ من سنتين معه إلى الشّغل.. الآن لم يعد يسمع كلامي.
ـ لكنّني لا أقدر على حمل الأحجار، وأسطلة الطّين.
قلتُ بحنق شديد. قالت أمّي:
ـ وماذا أفعل؟.. أنت تعرف أباكَ.. لا يتناقش.
وقبل أن أردّ على أمّي.. انبعث صوت أبي صارخاً، من الغرفة:
ـ ألم تنتهِ من التّغسيل يا أفندي؟!.. تأخّرنا.. صار الظّهر.
أسرعتُ إليه.. متظاهراً بتجفيف وجهي
.. وخلال دقائق، ازدردتُ عدٌة لقيمات.
ونهضتُ خلفه، حزيناً.. يائساً.. بي رغبة للبكاء، سرت خلفه، أراقب حركات (شرواله) المهترئ، وسترته (الكاكيّة) الممزٌقة، تأمّلتُ (جمدانته) السّوداء العتيقة.. تمنّيتُ في تلك اللحظة، ألَّا يكونَ هذا الرّجل أبي، كلّ شيءٍ فيهِ كريهٍ، حتّى شكله، عمّي (قدّور) أجمل من والدي، والأهمّ من هذا كلّه، أنّه لا يرتد (شروالاً)،
ولا يرغم ابنه (سامح)، الذي يكبرني بسن ونصف، على عمل لا يحبّه، لقد أدخله و (سميرة) والمدرسة، وهو يشتري لهما الألعاب، ويعاملهما بمحبّةٍ ودلالٍ.
كنتُ أحدّثُ نفسي طوال النهار، وأتمنى التّملّص من أبي، وكلّما ازداد تعبي، أزددتُ حنقاًوعليه، الشّمس حارقة، والأحجار ثقيلة، وسطول الإسمنت قطّعت أصابعي الغبار
يخنقني، والعرق الدّبق يغسّلني، وأبي لا يتوقّف عن العمل، ولا يسمح لعمّاله بقسطٍ من الرّاحة، في الظّل.
أفكّر في (سامح)، وكيف سيضحك
عليّ، إذا علم بقصّة عملي، إنّه الآن في المدرسة، بعد. قليلٍ ينصرف، ينطلق باحثاً عنّي، لكنّه لن يجدني، سيجوب الأزقّة.. يسألُ أمّي وإخوتي.. وسيفرحه الخبر، فأنا الآن عامل بِناء، في ثيابٍ وسخة، بالتّأكيد سيفتّش عن أصدقاءٍ غيري، يشاركونه اللعب.
لن ننصرف قبل أن تغيب الشّمس، ما أطول النّهار، وما أبعد المغيب!.. لن يتسنّى لي أن أرتاح، وألعب قليلاً مع (سامح).
اللعنة على الإسمنت والحجارة، اللعنة على الغبار الذي أمقته، أكاد أختنق، رأسي انصهر من شدّة الحرّ، والعرق يتصبّب منّي بغزارة، عليّ أن أستحمّ فور عودتي.
هذا اليوم أقسى أيّام حياتي، لم يكد أن يأذّن العصر، حتّى شعرتُ أنّ قوايَ خارت تماماً، وجهي تحوّل إلى كرةٍ ملتهبة، محمرّة، رأسي أشتدّ به صُداع حادّ، يدايَ، قدمايَ، ظهري، رقبتي، أكتافي، عينايَ، كلّ خليّة في جسدي الهزيل، تؤلمني، وتوجعني، وتصرخ، وتبكي، وتمنّيتُ أن أموتَ في تلك اللحظة، أو أتحوّل إلى كلبٍ، أو قطّةٍ، تذهب حيث تشاء، تستلقي في الظلّ.. وتغفو. وتساءلت:
ـ يا إلهي.. ألا يتعب أبي؟!.. هل هو من
حجر، أم من حديد؟!.. إذاً لماذا لا يستريح؟!.. ولو خمس دقائق فقط، خمس دقائق يا أبي لن تخرب الدّنيا.. شعرتُ نحوه ببعض الإشفاق، وبشيءٍ كبيرٍ من الغضبِ والحقد.
ـ إن كنتَ لا تهتمَّ بنفسك، أو بعمّالك، فأنا تعبت، ولم أعد قادراً على تسلّق السّلّم، ولن أقوى على حمل سطل الإسمنت، أنا منهار أيّها الأب القاسي، هل تسمعني؟!.. ألا تفهم!.. اعلم إذاً بأنّني سوف أهرب.. وأترككَ مع عمّالكَ الأغبياء، هل باعوكَ أنفسهم، من أجلِ بضعِ ليراتٍ؟!.
ونمت فكرة الهرب في رأسي، صارت تتغلغل إلى خلايا جسدي المنهكة فتنعشها، لكنّني سرعان ما جفلتُ.. من فكرتي هذه، وصرتُ أرتجف. غير أنّ الفكرة الرائعة، كانت قد سيطرت عليّ تماماً، سأهرب.. وهناك في البيت،سوف
تتشفّع لي أمّي.. سأهرب.. وسأرجو والدي أن يعتقني من هذه الصنعة، وكبرت الفكرة في ذهني، سألجأ إلى عمّي (قدّور)، أتوسّل إليه أن يساعدني
في إقناع أبي، بالعدول عن قراره، بالعمل معه، سأعمل في أيّ مهنة يشاء
فقط لو يتركني أنجو من هذه الصّنعة
وعزمتُ أن أنفّذ الفكرة.. وتمكّنت من الفرار دون أن يلحظني أحد، فقد تظاهرتُ بأنّني أريد التّبوّل، ولمّا أدركتُ، أنّني ابتعدت عن أنظار والدي وعماله،أطلقتُ العنانَ لقدميَّ المتعبتين.
لم أكن أدري، أنّ أبي سيترك عمله
ويتعبني إلى البيت، فور اكتشافه أمر هروبي، فما كدّتُ أطلب من أمّي، أن تعدَّ لي لقمة، ريثما أغتسل وأغيّر ثيابي
حتّى اقتحم أبي الدار، والغضب يتطاير من وجهه المغبرّ، هجم عليَّ، وفي يده خرطوم صارخاً في هياج:
ـ هربت يا ابن الكلبة!.
يبست الكلمة في فمي، تراجعت، انبعث صوتي ضعيفاً باكياً:
ـ تعبت يا أبي.. لم تعد لي قدرة على
الشّغل.
انهمرت على جسدي العاري سياط الخرطوم، عنيفة، قويّة، ملتهبة، ودونَ أدنى شفقة، أو رحمة، وانتشرت صرخاتي في كلّ الاتّجاهات، حادّة عالية:
ـ دخيلك يا(يوب)، أبوس رجلك..أبوس
(صرمايتك).
وأسرعت أمّي نحوي، ارتمت على أبي بضخامتها، وقفت حائلاً بيننا، فما كان منه، إلّا أن صفعها بكلّ قوّة:
ـ ابتعدي.. من أمامي يا بقرة.
تلقّت لسعات الخرطوم، صارخة:
ـ خير!!!.. يا (أبو رضوان).. ماذا فعل
الولد؟؟؟.
ـ ابن الكلب... هرب من الشّغل.
تابع ضربي، ولم تنجُ أمّي من ضرباته أيضاً، فكانت سياطه تقع على جسدها الضّخم، المترهّل ، بينما وقفت أختي (مريم) في أقصى الزّاوية، جزعة، مرعوبة، تبكي بصمتٍ، وترتجف، تدفّق الدّم من فمي بغزارة، فارتمت أمي على قدميه، ترجوه، تتضرّع له، تتوسّل، تتذلّل، تبكي بجنونٍ، وبحرقةٍ وألمٍ:
ـ أبوس (قندرتك) توقّف، عن ضربه، الولد انتهى.
هجم عليّ من جديد، رفعَ يدهُ عالياً
وهوى بها على رأسي، فطار الشّرر من عينيَّ، وصرختُ صرخةً ارتجّت لقوّتها أرجاء الغرفة، صاحت(مريم) بذعرٍ شديدٍ، وبينما كنتُ أتدحرج، ممرّغاً بدمائي، شقّت أمّي ثوبها، اندلق على الفور نهداها الهائلان.. تناهى إلى أسماعنا، صوت خبطات قويّة على الباب.. رمى أبي الخرطوم، وخرج
ليفتح.
انحنت أمّي تغسلني بدموعها، ضمّتني إلى صدرها العاري، وبكت بحرقة، وهي تدمدم:
ـ أسفي عليك يا (رضوان)... أسفي عليك يا ولدي.
دخل عمي (قدّور)، فأسرعت أمّي إليه باكية:
ـ دخيلك.. الولد راح من يدي.
زعقَ أبي.. متهدّج الصّوت.. وكان النّدم قد تسلّل إلى صوته:
ـ ادخلي.. غرفتك يا مقروفة الرّقبة.. واستري صدرك.
لكنّها لم تأبه بكلامه:
ـ الولد بحاجة إلى دكتور يا (قدّور).
حلب
* أردت أن أغنّي..
وبّخوني وضربوني بالحجارة.
في طفولتي، كان والدي يأخذني، أنا وأخي (سامي)، معه إلى الشّغل، وأبي يعمل في مهنة البناء..وأخي يكبرني بسنتين وأكثر.
يأخذنا في أوقات العطل المدرسيّة، وأيّام الجُمع، أو المناسبات القوميّة والوطنيّة، أو العطلة الانتصافية.. أو العطلة الصّيفية.
وكان والدي لا يأخذنا للشغل بدافع أن يكسب من وراء عملنا، فقد كنا صغاراً، لكنّه كان يريد إراحة أمّي من شغبنا، وخاصّة أنا، لأنّ أخي كان عاقلاً، ولا مشاكل له، أمّا أنا.. آهِ.. لن أفضح نفسي.
ومهنة البناء - كما يعلم الجّميع - مهنة شاقّة وصعبة.. حمل أحجار.. إسمنت.. سقالة.. سلالم..أدراج.. شمس حارقة.. أو برد شديد.. غبار..تعب..إرهاق.. عرق
يزخّ.
وكان أخي (سامي) يملك منذ صغره
..موهبة الغناء، صوته جميل.. وأذنه موسيقيّة .. يعزف الموسيقى بلسانه.. لأنّه هكذا كان يتخيّل.. قبل وجود التّلفاز.. يستمع إلى الأغاني من الرّاديو
.. ويظنّ أنّ الفرقة الموسيقيّة تعزف الموسيقى بألسنتها.. يا الله.. من هذا الخيال!!.
ولأنّ أخي يملك صوتاً جميلاً، كان أبي والعمال الّذين يعملون معه، يطلبون منه أن يغنّي لهم، إذ كانوا يعفونه من العمل، ويطلبون منه أن يقعد في الفيء، في ظلِّ الحائط، وياخذ بالغناء، وهم يشجّعونه.
وأنا الأصغر منه باكثر من سنتين، كان عليّ أن أشتغل.. أن أحمل الأحجار الثّقيلة، أو أسطلة الإسمنت التي تقطّع الأصابع.
وحين كنت أتلكأ، كان والدي وعمّاله
يصرخون بي:
_ هيا.. اعمل.. لا تتوقّف.
وكنتُ أغار من أخي، رغم حبّي الشّديد له، و إعجابي بصوته.
ومرّة تشجّعتُ، وقرّرتُ أن أفعل مثل أخي.. أردّتُ أن أقلّده، وأقوم بالغناء.
وكان هو لا يغني إلاّ "لصباح فخري".. لذلك حفظتُ قصيدة "قل للمليحة".. وفاجأتهم بصوتي، وما إن قلتُ (قُل للمليحة) حتّى اسكتوني، صرخوا بي، وقذفوني بالحجارة:
- (اخرس .. الله يلعن هل صوت).
خجلتُ، وخرستُ، وتألّمتُ، وحسدتُ أخي ، وكرهتُ نفسي، وكرهتُ العمّال.. وأيضاً أبي، وأردّتُ أن أبكي، وأن أتوارى.
ومنذ ذلك اليوم أنا لا أجرؤ على الغناء، حتى لو كنت بمفردي، وفي الحمّام.. رغم أنّي لا أنقطع عن الغناء.. ولكن بداخلي فقط.. دائماً في داخلي.. أغنّي.. وأحلم أن أُسمعَ صوتي لكلّ العالم، ولهذا أحبّ كتابة الأغنية.
إسطنبول
* حب أعمى..
منذ اليوم الأول، لتعينها مديرة للمؤسسة، شعرت بانجذاب نحوها، بهرني جمالها،سحرتني لحظة صافحتها
لذلك وقفت إلى جانبها، رغم أنني كنت طامعا في استلام الإدارة.
ما حاربت المدير السابق، إلاّ لأحلّ مكانه.. ومع هذا مددت لها يد المساعدة، أنا الذي كنت أضمر لها الشر، يوم تسرّب خبر ترشيح المدير العام لها.. وبصدق أقول لو لايّ، لأخفقت إخفاقا ذريعا، لأن معظم العاملين، يرفضون العمل تحت قيادة فتاة، لم تتجاوز الخامسة والعشرين، ولأني أملك تأثيرا عظيما على كافة الموظفين
استطعت أن أمنع رفع أيّ تقرير، بحق المديرة الجديدة، وبطرقي الخاصة، جعلت الجميع خاتما في إصبعها، بذلت جهدي ووقتي في خدمتها.. قمت بأعمال المؤسسة كلها، أبقيت لها عملا واحدا فقط.. تركتها خلف طاولتها، متفرغة للزهو والمباهاة، وللثرثرة على الهاتف.. أصل إلى العمل، قبل ساعتين، ولا أغادر، إلاّ بعد انصراف الجميع، كنت أطمع في صداقتها.. بل في حبها..ولكن عبثا.
أصنع لها الشاي والقهوة... أمسح طاولتها.. أعتني بأصص الورد في مكتبها.. أملأ قلم حبرها.. أقوم بتصليح سيارتها.. وكلّ شيء ، كلّ شيء من أجلها .
لاحظت حبها للمطالعة، فأخذت أبحث في المكتبات، عن الكتب التي تحبها، وانتبهت أنها مغرمة بحلّ الكلمات المتقاطعة، فلم أبق جريدة، أو مجلة تهتم بذلك، وهي كثيرة على كل حال، إلاّ اشتريتها.. وعلمت عشقها صوت (فيروز)، فأتيتها بأشرطتها.. وتناهى إليّ أنها تأتي دون فطور، فهرعت لأحضر ما تحب من طعام.. لاحظت شغفها بالتدخين بعد الطعام، فأخذت أشتري لها علب السجائر المهربة، مع أني لا أطيق التدخين.
حتى وصلت هذه الخدمات إلى منزلها، فكم من مرة حملت لها جرة الغاز، وصعدت بها إلى الطابق الخامس
وتعرفون مدى صعوبة توفير الغاز، كنت أدفع زيادة على السعر، من أجل أن ألبي طلباتها.. وطلبات والدتها، التي كانت تدعو لي، من كل قلبها.
ومرّة، أقسم لكم على ذلك، تستطيعون إن لم تصدقوا، أن تسألوا أهلي، اتصلت امها.. وطلبت تأمين ربطة خبز، وحين عجزت عن تأمينها، من السوق السوداء، هرعت إلى منزلنا، أخذت ما فيه من خبز، رغم احتجاج العائلة.
وذات يوم.. رأيتها منزعجة، من أحد الموظفين، فحاربته مع أنه كان صاحبي، أرغمته على تقديم استقالته.
عن أيّ شيء أحدثكم، صرت لها عبدا مطيعا، وكلبا أمينا،كل هذا للتقرب
منها.. ولكن عبثا.
قررت أن أصارحها بأمر حبي، أريد أن أرتاح، من عبء هذا العشق الجنوني، نهاري في خدمتها، وليلي للتفكير فيها، تسبقني إلى أحلامي.
كم مرّة، خرجت بعد منتصف الليل من منزلي، أمشي ما يقارب الساعة، لأصل العمارة التي تقيم فيها، استرق مثل لص، النظر إلى نافذتها الغارقة في العتمة، أتخيلها نائمة كملاك، وأحسد وسادتها ولحافها، بل أحسد الظلام المطبق على غرفتها،أقترب من سيارتها
أمسد جسدها الأملس ، وأقبل زجاجها البارد.
قررت مصارحتها، لكنني تساءلت ، هل يعقل أنها لم تشعر بعواطفي نحوها حتى الاّن!.. وكل الناس يؤكدون أن المرأة ذات حساسية فائقة، بما يتعلق بالإعجاب بها، وأنا لست مجرد معجب، بل مهووس، لكن من المؤكد أنها تنتظر
الأنثى تنتظر، وعلى الرجل أن يبدأ دائما، هذا ما قاله لي صديق، أثق بآرائه في عالم النساء.
في اليوم التالي، أقتحمت عليها خلوتها، وبادرتها دون مقدمات:
ـ آنسة (رحاب).. ماذا لو طلبت يدك؟.
انفجرت بضحكة زلزلت أعماقي.
قلت منكسرا:
ـ لماذا تضحكين؟!.. أنا لا أمزح.
علت ضحكتها، أشارت بإصبعها نحوي، والكرسي تحتها يضحك أيضا:
ـ أنا.. أتزوج منك يا(صالح)!!!.
حاولت ابتلاع الإهانة.. لكنني لم أستطع:
ـ ماذا ينقصني.. لتسخرين مني؟؟؟!!!.
مسحت الضحكة.. اصطنعت هيئة جادة، قالت بعد صمت:
ـ يا أخ (صالح).. لا تكلمني في هذا الموضوع مرّة أخرى.
قلت كمن يلقي بآخر سهم في جعبته:
ـ لكن لماذا؟!.. أنا أحبك يا(رحاب)، ألم تلاحظي ذلك. ثم تابعت أشكو:
ـ هجرني النوم بسببك.. فكري بالأمر.. أرجوك.
لكن ضعفي جعلها تصرخ:
ـ (صالح).. لا أريد سماع مثل هذا الكلام.
ساعتها.. تمنيت أن أصفعها، منتقما لإنكساري وذلي.. ولكني خرجت أحمل هزيمتي بصمت.
منذ ذلك الوقت وأنا أتعذب، أتساءل عن سبب رفضها!!!..انظروا إليّ..هل في
شكلي ما يضحك؟!.. ألأنها مديرة؟! أم لأني صادق، لا أعرف اللف والدوران؟!.
ولكي أخرج من قلقي، وأمنح نفسي فرصة للتوازن، والتفكير، طلبت إجازة ، غبت عنها، فكرت بالزواج من غيرها، من أيّ إنسانة، كنت عاجزا عن فعل أيّ شيء، لم أعد أطيق رؤيتها، أخذت تراودني فكرة الإنتقال، بل فكرت في محاربتها، فهي حتى الآن، لا تعرف شيئا عن المؤسسة ، وأستطيع خلق مشاكل لا تحصى أمامها، عندها ستعرف من أنا، وستدرك أنني المدير الحقيقي.
قطعت أختي حبل تفكيري، طالبة مني أن أرد على الهاتف،رفعت السماعة
ففاجأني صوت والدتها:
ـ مرحبا أستاذ (صالح)..
ـ أهلاَ..
ـ (صالح).. لماذا لم نعد نراك؟!.
ـ في الواقع.. أنا في إجازة.
ـ إجازة عن المؤسسة، وليس عنّا.
ـ حاضر.. سوف أزوركم.
ـ أريدك أن تأتي الآن..
صمت برهة أفكر.. ثم قلت:
ـ هل من ضرورة لمجيئي؟!.
ـ نعم.. أنا في انتظارك.
وضعت السماعة شاردا ، ماذا تريد؟! .. وهل (رحاب) موجودة؟.. لم ينتهي دوامها بعد، يبدو أنها لم تخبر أمها بعد، بما جرى بيننا.
حين وصلت، استقبلتني الأم بحرارة زائدة، دعتني إلى غرفة الضيوف، قلت وأنا أسير أمامها:
ـ خير.. هل من خدمة؟.
نظرت إليّ بحنان أربكني، وقالت:
ـ أخبرتني (رحاب).
قلت بصوت محزون:
ـ تبقى رحاب مثل أختي .
ـ لن تزعل حين تعرف السبب.
هتفت بلهفة:
ـ أرجوك.
مرت سحابة حزن واضحة، قرأتها في عيون الأم، وبدا أنها تقاوم اندفاع الدمع:
ـ (رحاب) يا (صالح).. مشّوّه.. منذ صغرها.
رددت خلفها بذهول:
ـ مشوّهة؟؟!!.. كيف؟؟!!.. لم ألاحظ أيّ شيء.
ـ التشوّه في بطنها.. انفجر عليها بابور الكاز، وهي صغيرة.. وحتى لو تزوجتك
لن تستطيع أن تنجب لك أطفالا.
طارت طبقات الغبار الحاقدة، التي حطت على قلبي، عاد قلبي يخفق بصفاء، التأم جرح كرامتي المفتوح، فهتفت دون شعور:
ـ من قال لك أنني أريد أطفالآ؟!.. أنا لا أريد سوى (رحاب).
قالت الأم، بعد أن جففت دموعها، وبدا على وجهها الأرتياح:
ـ قريبا ستذهب (رحاب)، إلى (أمريكا)، لإجراء عملية تجميل.
لا أدري كيف بدر مني هذا السؤال، الذي لم اكن أقصده:
ـ وهل التشوه كبير، إلى هذه الدرجة؟.
عاد الحزن يغلف وجهها.. أطرقت صامتا، أفكر بآلام (رحاب) وتعاستها.. لماذا لم تخبرني؟.. انتابني حزن شديد، وعطف كبير، وحب لا نهائي.
نهضت الأم قائلة:
ـ سأعد لك فنجانا من القهوة.
ـ شكرا.. أريد أن أذهب.
رمقتني بنظرة ذات دلالة، وسألتني:
ـ ألا تريد أن ترى (رحاب)؟!.. دقائق وتصل.
خجلت من نفسي، خشيت أن تفسر موقفي هروبا.
جلست أفكر.. كيف استطاعت (رحاب) أن تتحمل كل هذه الاّلام بمفردها؟!.. كم كنت غبيا، حين فكرت بالإنتقام منها، على كل حال ليست هي المرة الأولى.. فأنا أعرف أنني حقود، منذ أن اختلفت مع المدير السابق.
رن الجرس.. قفز قلبي من مكانه
.. لقد وصلت.. سمعت همسا بينهما..
دخلت.. نهضت.. ومتعمدا خاطبتها، دون رسميات:
ـ أهلاَ (رحاب).
قطعت عليّ الطريق:
ـ أهلا أستاذ (صالح).. تفضل.
حاولت أن أخفي ارتباكي:
ـ كيف أحوال المؤسسة؟.
أجابت باقتضاب:
ـ بخير.
طعنتني مرتين.. كنت أتوقع أن تقول المؤسسة دونك لا تساوي شيئا، إذاَ غيابي لا معنى له عندها.. أم أنها تداري عجزها، عن إدارة المؤسسة دوني؟!.
دخلت الأم، لتقطع عليّ ضياعي، بين الاحتمالات والتكهنات، تناولت القهوة دون وعي مني، وقررت أن أبدأ بالمصارحة:
ـ (رحاب) أمك أعلمتني.
نظرت مستفسرة. أضفت :
ـ عن التّشوْه.
امتقع وجهها، نظرت إلى أمها بحدة، ثم انخرطت في البكاء، قلت وأنا أظن أنها فرصتي، لإبراز إخلاصي وحبي:
ـ (رحاب).. أنا مصمم اليوم ، أكثر على طلب يدك.
وما إن أنهيت كلامي، حتى نهضت بعصبية، ترتجف أوصالها، وتحرك يديها بطريقة عشوائية.. وتصيح:
ـ لكنني لا أريدك.. ألا تفهم؟!.
ومضت تتعثر بخطواتها ودموعها، تبعتها أمها دون اكتراث لوجودي، فعلا صوتها من الداخل:
ـ لا أريده.. لا أطيقه.. هل فهمت.. أم لا.؟!.
خرجت مثل سهم طائش.. دون وداع
شعرت أني جرح يمشي، وكان صوتها يطاردني كاللعنة، لا أطيقه.. لا أطيقه، لماذا تكرهني؟؟؟!!! أنا الذي رضيت بتشوهها..بعقمها..لماذا لا يعاقب القانون
الأحبة الجاحدين؟؟؟!!!.
مشيت ابكي.. غير عابىء بمن حولي، في حلقي تتنامى غصة بحجم دموع الدنيا.. لماذا ذهبت إلى بيتهم؟.. لماذا لا أتزوج امرأة غيرها؟.. لماذا لم أقتلها تلك اللحظة؟.. لماذا؟؟؟!!!.. لو أني قدمت ما قدمت لوحوش البراري، لحنّت ولانت، وبادلتني الوفاء بالوفاء
.. رضيت بها وأنا أعرف تماما أن أمي وأخواتي اللواتي لا يعجبهنّ العجب لن يسكتن، سيعتبرن ذلك مؤامرة من الأم وابنتها.. وأنا ضحيّتها، لن يصدقن أني أرمي بنفسي تحت أقدامها، وهي المشوهة العقيم، ترفضني.
عدت في آخر الليل، مخمورا إلى البيت
وتسللت إلى غرفتي ، لأخفي انكساري، لكن أختي نادتني قائلة:
ـ (صالح).. مطلوب على الهاتف.
قلت بصوت مكلوم:
ـ نعم..؟!.
وجاءني صوت الأم.. فصرخت:
ـ ألم تنته اللعبة بعد؟.
نادتني بتوسل:
ـ (صالح).. أرجوك اسمعني.
ـ بل أنا الذي أرجوك.. كفى.
ـ (صالح)..(رحاب) تحبك، تحبك كثيرا.. لكنها معقدة.. وخائفة.
قلت وأنا أغالب ضعف قلبي، أمام هذه الكلمات:
ـ شكرا لك و(لرحاب)، على هذه العواطف النبيلة.
قالت متوسلة:
ـ (صالح)لا تقل مثل هذا الكلام(رحاب)
تحبك أكثر مما تتصور، لا تنسى عقدة
التشوه عندها، إنها محطمةوتهرب من
المواجهة.
انتابتني موجة إشفاق من جديد
ماذا لو كانت (رحاب) ترفض بسبب عقدتها، مؤكد أنها تخاف من نفوري منها، ولكن ألم تدرك أن حبي لها، أكبر من أيّ تشوه؟؟.. على كل حال يجب أن أبقى إلى جانبها.. وقررت أن أقطع
إجازتي.
في اليوم التالي التقيت بها، لم ترحب بي، لزمت مكتبي، كي لا أحرجها ، لكنني في نهاية الدوام، دخلت أعرض عليها خدماتي.. فردتني ببرود..تساءلت
هل هي خجلة مما حدث إلى هذا الحد؟.
مضت الأيام، وكل منا قابع في مكتبه
ليس بيننا سوى عبارة صباح الخير .. فأكدت لنفسي أنها خجلة ومرتبكة، وأنها لم تغفر لنفسها خطأها بحقي، فتشجّعت وذهبت إليها.. جلست دون كلام ، فتطلعت مستوضحة:
ـ خير يا أستاذ (صالح)، هل تريد شيئا؟.
شعرت برغبة في أن أزيل عنها، قناع اللامبالاة هذا، قلت:
ـ (رحاب).. أنا أعرف أنك محرجة مني.
باندهاش صاحت:
ـ آنسة (رحاب) من فضلك.
ـ (رحاب)أنا أحبك..وأعرف أنك تحبيني
وتحاربين قلبك، ولكن لماذا؟!.
عبرت عن ضيقها، بزفرة طويلة مصطنعة، وأجابت بتهكم:
ـ ومن قال لك أنني أحبك؟!.
ـ أمك.
أشعلت سيجارة على غير عادتها
..فهي لا تدخن إلاّ بعد الطعام.. ورأيت يدها ترتجف.. حاولت أن تتكلم بهدوء:
ـ أستاذ (صالح).. سأتحدث معك بصراحة.. أنا لا أرفضك للأسباب التي افهمتك إياها أمي، الحقيقة أمي هي المعجبة بك.. أما أنا فلا أحمل لك غير مشاعر الأخوة الزمالة أنت تحبني.. ولكنني لا أبادلك المشاعر.. أنصحك بالبحث عن غيري.. ألف واحدة تتمناك.
ـ لكنني لا أتمنى غيرك، يا (رحاب).
صاحت:
ـ ولكن ما ذنبي أنا، هل أجبرتك على حبي؟!.
نهضت، والدم يطفر في عروقي:
ـ آسف.. آسف.. يا آنسة (رحاب)، لن أحدثك في هذا الموضوع مرة ثانية.
لكن أمها لم تتركني بحالي، كل يوم تتصل، وتؤكد أن (رحاب) تحبني
وأنها بحاجة إلى وقت لتتخلص من عقدتها، لكني لم أستطع محو الإهانة عن نفسي، قررت ان أضع (رحاب) أمام الأمر الواقع.
دعوتها إلى المستودع، بحجة الإطلاع على قطع التبديل الجديدة، والمستودع كبير وبعيد عن الأنظار، فتحته ودخلنا، تحيّنت الفرصة وأقفلت الباب دون أن تنتبه، عبرنا الممر الطويل
المؤدي إلى الركن الداخلي، أشعلت الضوء، ووقفت إلى جانبها، متظاهرا بفحص بعض القطع، وحين وجدتها غارقة بالنظر والتقصي،انقضضت عليها
فأخذت تصرخ، وقد تملّكها الذهول:
ـ ابتعد.. ابتعد عني يا مجنون.
كنت عازما، وكلماتها ترن في أذني (لا أطيقه.. لا أطيقه)، فازددت اندفاعا، وأنين الآلات المحموم، يغتصب صراخه المجنون.
ـ أحبكِ... أحبكِ.
كانت تقاوم.. بكل قواها تقاوم.. بكل زعيقها.. بكل توسلاتها.. ودموعها
.. بآهاتها.. وخلجاتها.. واستسلامها.
قلت لها يا حضرة القاضي، إني ما أزال راغبا فيها.. لكنها رفضتني، وطردتني وتقدمت بالشكوى.. وها أنا أمامكم.. أعرض عليها الزواج.. وهي تصمم على سجني، أو إدخالي مشفى المجانين!.
أنا لست مجرما يا سادة.. لست مجنونا.. أنا عاشق.. عاشق.. وأرجو أن تأخذوا هذا بعين الاعتبار.
حلب
* إقلاق راحة..
استطعتُ أن أنجو ، انطلقتُ راكضاً، بعدَ أن تسللتُ على أطرافِ أصابعي ركضت، بسرعةٍ جنونية يسبقني لهاثي، يربكني قلبي بخفقانهِ، يعيقُ الظّلام من سرعت ، خاصة وأنَّ أزقتنا مليئة بالحفرِ وأكوامِ القمامة.
أخيرا وصلتُ، على الفور أيقظتُ الشّرطة،تثاءبوا تمطّوا، رمقوني بغضبٍ
وحينَ شرحتُ لهم ما أنا فيه أخذوا يتضاحكونَ، سألني الرقيب:
ـ هل أنتَ تهذي؟!..
أقسمتُ لهم بأنّي لاأهذي، ولستُ في حلم، بل ما أقوله حقيقة، وإن كانوا لا يصدقونَ فعليهم أن يذهبوا معي، ليشاهدوا بأعينهم، وليشنقوني في حال كان كلامي كاذبا.
لكنَّ المساعد المناوب، أخبرني، بعد أن تظاهر بالاقتناع:
ـ نحن لا نستطيع تشكيل دورية للذهاب معك، إلاً بعد أن يأتي سيادة النقيب.
وحينَ سألته، عن موعدِ مجيءِ سيادة رئيس المخفر، أجاب:
ـ صباحا.. بعد التاسعة.
ولولا خوفي الشّديد من رجالِ الشرطة لكنتُ صرختُ بوجههِ:
ـ لكنّي لا أستطيع الإنتظار، إنّ الأمرَ غاية في الخطورة.
كبحتُ انفعالي، وسألته برقةٍ واحترام:
ـ ألا يوجد هاتف في منزل سيادته؟..
صاح المساعد ذو الكرش المنتفخة:
ـ أتريد أن نزعج سيادته، من أجلك أيّها الصعلوك؟!.
وتمنيت أن أرد:
ـ أنا لست صعلوكاً، بل مواطناً، أتمتع بالجّنسية، والحقوق كافة، ولكنّي همست:
ـ حسناً يا سيدي، هل لك أن تدلّني على منزل سيادته، وأنا أتعهد لك بالذّهاب إليه، والحصول على موافقته بتشكيل الدّورية.
وما كدتُ أنهي كلامي، وأنا في غايةِ التهذيب والاحترام، حتى قذفني المساعد بفردةِ حذائهِ المركونِ قربَ سريره، وبصراخهِ المخيف، قائلاً:
ـ أنتَ لا تفهم؟! وحقّ الله إنّكَ "جحِش"
.. أتريد أن تذهبَ إلى بيته؟!! يا لشجاعتكَ!! انقلع.. وانتظر وإياكَ أن تعاود ازعاجنا.. قسماً "لأحشرنك"
بالمنفردة.
جلستُ أنتظر، لم أستطع الثّبات
أخذتُ أتمشى بهدوءٍ شديدٍ، عبرَ الممرّ الضّيق، وأنا أراقب عقاربَ السّاعة.. الدقيقة، كانت أطول من يوم كامل..
وعناصر الشّرطة عادوا يغطّونَ في نومٍ عميقٍ ، اكتشفت أنّ جميعهم مصابونَ بداءِ الشّخيرِ ، صوتُ شخير المساعد أعلى الأصوات ، رحتُ أتخيّل مقدار قوّة الشّخير.عند سيادة النّقيب .
تململتُ، ضجرتُ، يئستُ، فقدتُ قدرتي على الصّبرِ، فصرختُ:
ـ يا ناس أنا في عرضكم...
رفعَ الشّرطي رأسه، حدجني بعينينِ ناعستينِ، وزعقَ:
ـ اخرس يا عديمَ الذّوق.
خرستُ، وانتظرتُ، عاودتُ المشي في الممرِّ، ومراقبةِ الثّواني، دخّنتُ مالا يحصى من السجائرِ،أحصيتُ عددَ بلاط الممرّ عشرات المرّات، طالَ انتظاري، تجدّدَ وتمدّدَ، ضقتُ ذرعاً، نفذ صبري، وطلعت روحي، اكتويتُ بنار الوقت، قلقي يتضاعف فمرور الوقت ليس من صالحي، عليّ أن أفعل شيئاَ.. هل أعود بمفردي؟..
لكن، يجب أن يكون أحد معي، شخص
له صفة رسمية، لكن ما باليد حيلة..
فخطر لي أن ألجأ إلى أخي، فهو أقرب الناس إليّ.
خرجتُ من المخفرِ خلسة، هرولتُ
ركضتُ، وكنتُ أضاعف من سرعتي، حتى أخذتُ الهث، العرقُ يتصبّب منّي غزيراً.
قالت زوجة أخي (عائشة)، بعد أن رويت حكايتي لأخي:
ـ نحنُ لا علاقة لنا بالمشاكلِ.. عد إلى الشّرطة.
خرجتُ من بيتِ أخي (عبدو) ،
والدّموعُ تترقرقُ في عينيّ، تذكّرت كلام المرحوم أبي:
ـ الرجل الذي تسيطر عليه زوجته لا ترج منه خيرا.
توجهت إلى أبناء عمي، طرقت عليهم الأبواب، وتوالت الأكاذيب:
ـ (محمود).. ذهب إلى عمله باكرا.
ـ (حسن).. مريض، لم يذق النوم.
وبخشونة.. قال (ناجي):
ـ أنت لا تأتي إلينا، إلاّ ووراءك المصائب.
(يونس) ابن عمتي، أرغى وأزبد، أقسم وتوعد، لكنه في النهاية، نصحني أن أعود للمخفر، حتى لا نخرج على القانون.
قررت أن أعود إلى حارتي، هناك سألجأ إلى الجيران، قد تكون النخوة عندهم، أشد حرارة من نخوة أخي، وأبناء عمي، والشرطة، ولمّا بلغت الزقاق، صرخت:
- يا أهل النخوة الحقوني.. الله يستر على أعراضكم.
فتحت الأبواب بعجلة، خرج الناس فزعين، التفوا حولي، يسألوني، وأنا أشرح لهم من خلال دموعي، لكن جاري (فؤاد) ، أخرسني:
ـ نحن لا علاقة لنا بك وبزوجتك... اذهب إلى الشرطة.
عدت إلى المخفر، وجدت المساعد ونفرا من العناصر مستيقظين
واستبشرت خيرا، حين ناداني:
ـ هل معك نقود أيها المواطن؟.
ـ نعم سيدي.
ـ إذاً اذهب وأحضر لنا فطورا على ذوقك، حتى ننظر في أمرك.
دفعت معظم ما أحمل في جيبي، تناولوا جميعهم فطورهم بشراهة، تمنيت أن أشاركهم طعامي، فكرت أن أقترب دون استئذان، أليست نقودي ثمن طعامهم هذا؟! وحين دنوت خطوة
لمحني المساعد واللقمة الهائلة في فمه، فأشار إلي أن أقترب، سعدت بإشارة يده، واعتبرته طيب القلب، نسيت أنه ضربني ليلةأمس، بحذائه
الضخم، وحين دنوت منه، أشار:
ـ خذ هذا الإبريق واملأه بالماء.
اشتعل حقدي من جديد، اشتد نفوري منه، ومن عناصره.
ها هي الساعة تتجاوز الحادية عشرة، ورئيس المخفر لم يأت بعد، ولما اقتربت من المساعد مستوضحا:
ـ يا سيدي.. لقد تأخر سيادة النقيب!
رمقني بغضب، وصاح:
ـ لا تؤاخذه ياحضرة، فهو لا يعرف أنك بانتظاره.
في الثانية عشرة وسبع دقائق، وصل
النقيب،هرعت نحو مكتبه،لكن الحاجب
أوقفني:
ـ سيادة النقيب لايسمح لأحد بالدخول
قبل أن يشرب القهوة.
المدة التي وقفتها، تكفي المرء أن يشرب عشرة فناجين من القهوة.. ولما هممت بالدخول مرة أخرى، أوقفني الحاجب من جديد:
ـ سيادته لا يسمح لأحد بالدخول، قبل أن يوقع البريد.
انتظرت... دخنت لفافتين قبل أن أتقد م، لكن الشرطي باغتني بصياحه:
ـ سيادته لا يقابل أحدا قبل أن يطّلع على جرائد اليوم.
لاحت بالباب فتاة.. شقراء.. ممشوقة
القوام، لا تتجاوز العشرين، عارية الفخذين، والكتفين، والصدر، والظهر..
تضع نظارة، وتحمل حقيبة، تجر خلفها كلبا غزير الشعر، مثل خاروف.. نبح عليّ بوحشية، راحت تخاطبه بلغة لم أفهمها، اتجهت نحو مكتب النقيب، انحنى الشرطي فتح لها الباب، دلف الكلب للداخل، ثم تبعته، دوت في أذنيّ عبارة حفظتها:
ـ (سيادته لا يسمح لأحد بالدخول)...
لكنني مددت رأسي، وحاولت الدخول خلفها، جذبني الحاجب من ياقة قميصي، وثب الكلب نحوي، نابحا بعصبية واحتقار:
ـ سيادته لا يسمح لأحد بالدخول، قبل أن ينصرف ضيوفه.
أدخل الشرطي إليهم ثلاثة فناجين من القهوة، سألت نفسي:
ـ هل يشرب كلبها القهوة أيضاَ؟؟؟!!!...
طال انتظاري، الضحكات الشبقة تتسرب من خلف الباب، والشرطي في كل رنة جرس، يدخل حاملا كؤوس الشراب، الشاي، الزهورات، المتة، الكازوز، الميلو، الكاكاو، وإبريق ماء مثلج، وأخيرا.. دخل حاملا محارم (هاي تكس). الضحكات تتعالى ونباح
الكلب يزداد، كلما نظرت نحو الباب.
تمنيت أن يفتح الباب، ويطل عليّ كلبها، حينها سأرتمي على قوائمه، وأتوسل إليه، ليكون وسيطاّ لي، عند سيادة رئيس المخفر، لكنني تذكرت، فكلبها للأسف لا أفهم لغته.
وبدون وعي مني، وجدتني أهجم نحو الباب الموصد، أدقه بعنف.. وأصرخ:
ـ أرجوك يا جناب (الكلب)... أريد مقابلة النقيب.
وما هي إلاّ لحظات، حتى غامت
الدنيا، توالت اللكمات، الرفسات، اللعنات ................. والنباح يتعالى... ويتعالى.. ويتعالى.
وحين بدأ العالم يتراءى لي، وجدت نفسي.. ملقى في زاوية الزنزانة، غارقا في دمي.
مصطفى الحاج حسين.
حلب
فهرس :
___________________________
01 - مقدمة: الشاعر أحمد دوغان.
02 - قهقهات الشيطان
03 - إغتيال طفولة
04 - أردت أن أغني وبخوني
05 - حب أعمى
06 - إقلاق راحة
مصطفى الحاج حسين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى