ناجح المعموري - هل عرف ريتسوس محمود البريكان؟

بعد عودتي من أبو ظبي تفرغت للاطلاع على ما وفره لي صديقي د. سلمان كاصد من نصوص عن الشعر والسرد في الإمارات العربية وكان الشاعر أحمد راشد ثاني أكثر حضوراً من بين العدد الكبير من الأدباء شاعراً وسارداً ، هذا بالإضافة للنهاية التراجيدية المتمثلة بموته المبكر. ولأنني قررت الكتابة عنه وتمجيد تجربته الشعرية والسردية والنقدية. كان ضرورياً لي الاطلاع على سيرته من خلال "على الباب موجة" ونقدياً عبر كتابه "ارض الفجر الحائرة". وقرأت عدداً من مقالته الأسبوعية المنشورة في "الاتحاد الثقافي" وكانت دهشتي كبيرة وأنا أجد بأنه نشر مقاله الأخير "من دفتر السر: سارتر، سنّمار، ريتسوس ولم يكن صعباً عليّ اكتشاف التناص بين الذي تضمنه مقاله الأخير وبين نصيه الآخرين "لسان البئر المقطوع" و"كتاب".
المثير لي هو ما نشره احمد راشد للشاعر يانيس ريتسوس "ثلاث قصائد ، ثلاثة مشاهد" استلها أحمد راشد من مجموعة "يانيس ريتسوس الأخيرة" التي ترجمها الصحافي المعروف عبد وازن وكانت بعنوان" متأخراً ، متأخراً جداً في الليل " وصدرت بعد وفاة الشاعر ، ومن هنا تشكلت العلاقة بين أحمد راشد وريتسوس ، لا بل هي الأكثر عمقاً لأن الاثنين طاردهما الموت بوقت مبكر و " مشهد ثان " هي القصيدة الثانية بين قصائد الشاعر المترجمة ، إنها الأكثر تعبيراً عن حياة ريتسوس وعلاقته مع الحياة والموت ومصيره الفردي بعدما تمركز الحدس لديه باقتراب الفجيعة . وأعتقد بأن ريتسوس وجد في موت محمود البريكان أنموذجاً تراجيدياً جديداً ، لم تعرفه العصور القديمة وصار هذا الموت شاهداً على عصر لا يحترم مبدعيه وسأضطر لنشر قصيدة يانيس ريتسوس للاطلاع عليها :
[ تجلس على الطاولة وتكتب ... تترك الحياة كل الحياة ، ما تسميها حياة وتجلس على الطاولة لتكتب ، إنها قراءة جديدة للقصائد التي كتبتها في تموز وآب : كتابة جديدة ، ما يموت يحتاج إلى الموت باستمرار كي ـ يحيا وتحس بأنك لا تضيف جديداً ، ما الجديد الذي قد تضيفه ، فما قبل يحتاج الى الموت باستمرار كي يحيا ، وتحس بأنك لا تضيف جديداً ، ما الجديد الذي قد تضيفه فما قبل يحتاج إلى مزيد من الحذف ، رغم أن الحياة ولا الموت يعترفان بشيء يقال له : " فوات الأوان " وإذا كنت غير متأكد من أيهما أعظم : الحياة أم الموت ، فإنك كنت باستمرار تؤمن بأن الحب هو أعظم منهما معاً ، أو هذا ما كنت متأكداً منه كما تردد ، والآن استمع ، بخفة اللين وظله الطبشوري ومشيته الحافية ، ها هو قادم زائر محمود البريكان إياه ، قادم ليطرق الباب ، إذ ليس هذا هو الحدس الغامض الذي كان يلوح لك بين السطور . استمع ، إنه يقترب ، استمع انه يطرق الباب . " الاتحاد الثقافي / الخميس / 23 فبراير 2012 .
لا أشك في الذي قاله ريتسوس عن البريكان الذي تحول دالاً رمزياً على الموت الذي يطرق الباب، وهذا ما حصل مع شاعرنا، كذلك أعتقد بأن ريتسوس يعرف البريكان من خلال نصوصه وحتماً قرأ له وأعجب به، وطريقة موته البشعة حفزت ريتسوس للكتابة عنه واختصار كل ما عرفه عن البريكان بالإشارة لكنيته وهذا يفضي إلى دلالة منحته الحضور، ولا ضرورة لنشر مقاطع من شعره. وافترض بأن عنونة الديوان "متأخراً، متأخراً جداً في الليل" فيها إشارة شعرية للحظة التي قتل فيها البريكان. أنا مقتنع بما كتبه ريتسوس عن حياة البريكان المتماثلة مع حياة ريتسوس. وأنا واثق بأن الأسئلة تتشكل وليس صعباً الإجابة عنها من خلال الديوان المنشور بالفرنسية ، أو عبر الوسيط ، الأستاذ عبده وازن. أنا واثق وأعرف الإجابة جيداً ، شكراً للشاعر أحمد راشد ثاني لاختياره لهذه النصوص ، هو الآخر وجد ذاته ومصيره الفردي المتماثل مع الاثنين.
القصائد الثلاث التي اختارها أحمد راشد فيها بروز الصورة وتمركز للمشهد المرسوم إنها معبرة عنه وأزمته الآدمية وعلاقاته مع الحياة التي تقترب يوماً بعد آخر من عتبتها الأخيرة ، هذا ما يعرفه أحمد راشد وكذلك الشاعر اليونان الكبير بانيس ريتسوس الذي اختصر مأساته الفردية بالقصائد الثلاث ، التي كشفت بمراياها وجوه أحمد راشد ، فاعاد نشرها لأنها تمثيل للحظته التي كانت تقترب من عتمتها الأخيرة يوم 23 فبراير 2012 وأنا لا أعرف يوم وفاته بل أدركت الفجيعة من خلال قصائده التي نشرها الاتحاد الثقافي . وجد الشاعر في نصوص ريتسوس كفاية تعبيرية واضحة مثلما اختصرت الموقف الفردي للإنسان وقدمته عبر الشعر ، الفن الأكثر قدرة على كشف الحياة والموت ، هذه الثنائية التي كررها ريتسوس وأحمد راشد والكثير من الشعراء والمبدعين . وتبدو الحياة أكثر حضوراً في أعماق الكائن المترقب موته الذي يدنو منه تدريجياً ، وربما كان أحمد راشد أكثر من غيره معرفة باقتراب عطل الكائن وتبدّت هذه الرؤية واضحة في قصيدة ريتسوس " مشهد ثان " والتي هي أكثر اقتراباً من الإنسان وأكثر حساسية في تصوير خاصية الأنا وصراعها العنيف والمرير من أجل الحياة . وجدت بأن أحمد راشد تجاور كلياً مع قصائد ريتسوس وخصوصاً في " صمتاً / مشهد ثان / مشهد ثالث " فيها ارتفاع صمت السكون الآدمي ودنو لحظة المحو وهيمنة الموت ، ولا أستطيع تدوين قصائد ريتسوس كلها ، واكتفيت بقصيدة " مشهد ثان " التي اتسعت في الدلالة وعمق المعنى عندما غادرت ذاتية الشاعر ريتسوس واتجهت نحو محمود البريكان وأحمد راشد ثاني . واجه الشعراء الثلاث مصيرهم المشترك وهم ينتظرون الموت ، لكن محمود البريكان ، هو الرمز الآدمي والفجائعي بين الاثنين ، أعتقد بأن معرفة ريتسوس للبريكان جعلت منه شاعراً كونياً ، خلقت محنته كشاعر وإنسان في كل العالم ، وتحول إلى شخصية أسطورية تمردت على موتها ، مثلما كانت في حياتها واخترقت جداراً لمحو المألوف واستقرت وسط الأسطورة الحافة بالتاريخ ، لتجعل منه وقائع وأسطورة ، هكذا يحصل مع التاريخ عند مجاورته للأسطورة ، كما قال ليفي شتراوس .
قال بانيس ريتسوس : الموت : [ ما سر الموت ؟ هل الموت سرٌ لم يفصح عنه أحد ؟ إنه بلا موعد وما عليك إلا أن تستعد لاستقباله على الدوام ] أعاد أحمد راشد نشر قصائد ريتسوس ، مرآة حياته الماضية ولحظته قبل أن يصل زائر محمود البريكان الذي سمعه ريتسوس يقترب من الباب ، أسمعه وهو يطرق الباب ، مصير واحد ، وتعطل كلي ، إنه الموت ، الحقيقة الانطولوجية الكبرى التي وقف أمامها الملك جلجامش حائراً وخائفاً ، قلقاً ، وقاصراً من أجل عشبة الخلود ، لكنه فشل . حاز جلجامش خلوده بتعمير مملكته أوروك وبناء سياجها العظيم . أما ريتسوس وأحمد راشد فقد دخلا كتاب الحضور التاريخي من خلال ما قدما من إبداع ، على الرغم من التباين بين التجربتين ، لكني أعترف بأن أحمد راشد شاعر مهم ومثير لنا ، نحن الذين مازلنا وسط دائرة الشعر العراقي .
يقول بورخس في أحد أحاديثه : " الخلود الشخصي ، مثل الموت الشخصي ، أمر لا يصدق " . لكننا نحن الذين لم نشترك مع البريكان في حياته الشخصية التي صممها مثل ثوب على مقاسه ، نجد في موته خرقاً واسعاً في ثوب حياتنا ، نحن الذين لم نصدق " موته الشخصي " صرنا نتعزى ببقاء قصائده شاهداً على " خلوده الشخصي / محمد خضير / نَصْل فوق الماء / ضمن كتاب حسن ناظم / ص172 / وينطبق هذا الرأي على ريتسوس وأحمد راشد ثاني .
بعد قراءتي لما نشر أحمد قبل وفاته وبعدها ، اكتشفت بأن قصائد ريتسوس حاضرة في نصوص أحمد راشد الأخيرة وأكثرها تناصاً مع قصائد ريتسوس هما " لسان البئر المقطوع وكتاب الليل " حيث هيمنة الموت ، موضوعاً انطولوجياً مشتركاً بينهما ، وشفافية الرمز الدال على الموت ، مثل ـ زائر محمود البريكان / الليل / الغيوم / خفة الظل / العطل / الصمت / عارياً بلا سر / رأوك عارياً من الخارج / رأوك من الداخل ... الخ ، هذه مبثوثات ريتسوس لنا ، وكانت أكثر وضوحاً باتجاهها نحو أحمد راشد ثاني .
استلم أحمد راشد رسائل الشعر واختصر الكثير منها في قصائده ، وعبر عن القسم الآخر في مقالته الأخيرة التي كانت بعنوان : من دفتر السر ـ ووظف بعضاً من أفكار ومفاهيم سارتر وجعل منها مفتاحاً لعلاقة الداخل والخارج ، الميتافيزيقي والاجتماعي والذاتي ، الداخل موجود والخارج فضاء متسع، السرية/ التكتم والكشف عما هو خفي ومتكتم عليه ومقتطفات من حوار طويل مع سارتر، هي تمظهرات لمقبولات الشاعر وقناعاته الثقافية والفكرية، عن مجتمع يثير كثيراً من الأسئلة . ما أراد أحمد راشد ثاني الإعلان عنه، له ارتباط بالذاكرة وسردياتها الطويلة. وقد ألمح لبعض منها في كتاب سيرته " على الباب موجة " أراد التعبير عن حلم الوضوح والتواجد الشفاف في الحياة ، ومن آراء سارتر التي تضمنها مقاله الأخير " من دفتر السر " وجود الإنسان لابد وأن يكون مكشوفاً كلياً لجاره الذي سيكون وجوده هو الآخر مرئياً كلياً وما التحفظ إلا وليد عدم الثقة والجهل والخوف ". وحاول مراراً الإشارة والتلميح إلى الحرية وزمنها السعيد الذي لم نعرفه إلا في السرديات. لا بد من عودة سريعة لـ " زائر البريكان " الموت المكشوف بوضوح ـ بعيداً عن الخفاء ـ في ثلاثة مصائر ، تحولت من فردية إلى جمعية ، وحتماً هي مثل سطح البحيرة تحت حجارة سقطت عليه . هذا الزائر مختف ، لا يعرفه الخارج الذي تحدث عنه سارتر ، وتجاوب معه أحمد راشد ثاني انه موت مختلف عن موت الاثنين اللذين عرفاه هادئاً ، وهيناً ، ليناً في مشيته كما في قصيدة ريتسوس ، وعرفه محمود البريكان بهوية غير مألوفة ، ولم تكن سائدة من قبل ، الطعن بالسكاكين حتى الموت ، بشاعة جعلت من البريكان وحده دائرة من الموت ، استعادت واستحضرت أبشع حكايات تحقق الموت ، وبسبب هذه الغرابة ، صار أسطورة ، وبانيس ريتسوس أكثر الشعراء المعاصرين وعرفه بالأسطورة وتجاوراً معها ، ونزع زي التأريخ وألبسه زي الأسطورة ، ليمجد البريكان ويطلقه في فضاء الشعر الكوني ، وهو الذي قال " سأسجن العالم خارج نافذتي ، وأقيده بلوعة فقدي ! " والليل مشترك بين الشعراء الثلاثة ، رمز مختلف عن ليل الآخر ، لكنه فتح الباب للزائر الذي يقترب والكائن يستمع له .
أعلى