نوزاد حسن - في معنى الخيال البريكان.. ورد الفعل الشعري

بالنسبة لقارئ لا يفهم المعنى الحقيقي لكلمة الخيال ستكون قصائد البريكان المتأخرة عبارة عن قصائد ساذجة جدا.وقد تكون القصائد الاولى اكثر جمالا عند ذلك القارئ بسبب طبيعة ذلك الشعر الذي كان يتطور بطريقة داخلية تصعد بالنص الشعري الى مرحلته النهائية التي لا اجد وصفا دقيقا لها الا قولي ان البريكان كتب بروح رد الفعل الشعري لا الفيزيائي.
لكن كيف يمكن ان نحدد الفعل الذي اجبر البريكان على الكتابة بتلك الروح اعني روح رد الفعل الشعري..؟والى أي مدى تشبه تجربته تجارب غيره من الشعراء ام ان نصوصه المتاخرة بكل قسوتها وخشونتها الموسيقية كانت ردود فعل داخلية تكونت عبر صراع انساني ملحمي فضح زيف هذا العالم الكبير وتفاهته التي لا حدود لها..؟ان دراستنا النقدية لقصائده المتاخرة وهي قصائد ساذجة بالنسبة لقاريء تعود على صخب موسيقي معين لن تحدد او لن تصف البريكان ورد فعله الشعري اذا لم نقم بتعريف معنى كلمة التخيل واعطائها حدا خاصا لا يختلط بحد العقل ابدا.وقبل أي تعريف للخيال استطيع القول بكل ثقة ان وحهة نظري الخاصة عن هذا الموضوع ستكون على نقيض وجهة نظر ذلك القارئ الكسول الذي ملا المقاهي والنوادي والصحف بمباديء عامة مكررة فقدت قدرتها على التاثير الجمالي. اؤكد لذلك القاريء ولغيره ودون ان اكون غامضا ان التخيل هو في حقيقته طريقة في النظر الى العالم او بمعنى ادق ان التخيل في اساسه هو قدرة الذات على ادراك ان اشياء العالم كلها ليست اشياء متنوعة كما تبدو لنا.ونحن نخدع انفسنا اذا عشنا باسلوب من يعتقد ان اشياء العالم من حولنا متنوعة.هذه حقيقة كاذبة او هي وهم حقيقي نقنع به انفسنا.اذن انطلاقا من هذه الحقيقة ماذا سنفعل في الخطوة التالية..؟سنركز في حقيقة ما حولنا من اشياء.فماذا سنرى..؟سنرى ان العالم بكل اشيائه وبهرجه هو في حقيقته ليس الا عالما زائلا.ان لكل شيء مهما صغر او كبر مهما غلا او قل ثمنه حقيقة واحدة تلتصق به وهي انه زائل.هذه الطريقة في النظر الى العالم هي جوهر القصيدة او جوهر رد الفعل الشعري الذي نراه جيدا في قصائد الشاعر المتاخرة.لذا سيكون الخيال اداة الشاعر الاهم في التعبير عن ماساة هذا العالم الذي التصق كل شيء فيه بموته او بزواله.لن يفيدنا العقل المغرور ابدا في كشف الطابع الدراماتيكي الماساوي لهذا الوجود.لان للعقل وظيفة واحدة هي اكتشاف العالم بعد فصل عنصر الموت او الزوال منه.وهذا الفعل العقلي او رد الفعل الفيزيائي لن يقرب لنا نصا شعريا مبنيا من طينة الوجود ذاتها لا طينة الوجود المنفصلة عن حقيقتها الوحيدة.لدينا اذن طريقتان لمواجهة العالم هما:العالم بكل اشيائه الزائلة ثم العالم باشيائه المتنوعة التي صارت مجالا للعقل الذي يبحث فيها عن قوانينه.العالم الاول هو عالم البريكان واسلوبه هو رد الفعل الشعري اما العالم الاخر فهو عالم العقل عالم نيوتن وديكارت واسلوبهما هو رد الفعل الفيزيائي.ولا مجال ان يلتقي البريكان باحد من هذين العالمين الفيلسوفين ابدا؛لان عالم شاعرنا هو غير عالم الرجلين اللذين يريدان ان يفصلا حقيقة الشيء عن حقيقته وهذا تدمير لاساس الكون وجوهره.اما البريكان فقد كشف عن بنية هذا العالم حين جعل من شعره المتاخر قصيدة واحدة غرضها هو تاكيد هذا العنصر الدرامي للكون والقائم على فكرة الشيء وموته او زواله.
لكن اسلوب البريكان الفني يكشف عن خواء تراثنا المفتقر الى خيال ينافس العقل على مستوى المعرفة وعلى مستوى الوظيفة النفسية.نحن الشعب الوحيد الذي يعشق العقل بجنون حتى انه يثبت به وجود الله.ومن هنا بدات قصة الفقر الثقافي لدينا.اعتقدنا وعلى مدى قرون ان العقل رتب العالم ومنح الله حق وجوده.ولم نكن كالغرب نتوقف قليلا لوضع حد لملكة العقل الباردة كما فعل الفيلسوف الالماني كانت.كما لم نثر كالرومانسيين على تلك اللعنة المسماة عقلا ونواجهه بالخيال لنمسك جانبا اخر من جوانب الواقع.وبسبب هذه الطريقة المجانية في العيش التي صنعها العقل قمنا بقراءة نماذج من الشعر والفن دون ان نميز بين وظيفة العقل ووظيفة التخيل.وكنا نعود الى تعريفات الفلاسفة والنقاد الغربيين في الحديث عن الخيال.وهنا وقع حادث فضيع اسميه اقصاء الخيال او فرض رقابة عقلية عليه،والاعتماد على العقل والحجج المنطقية في الكتابة.لكن العقل في نهاية المطاف اصطدم بجدار البريكان في رد فعله الشعري.وقفنا حائرين كيف نفهم قصائده التي بدت لنا ساذجة جدا.ولاننا لا نملك تعريفا عميقا للتخيل كان البريكان شاعرا بالغ في استخدام تقنيات فنية ساعدته على تكثيف نصوصه ومنحها طابعا مختلفا عما نقراه من شعر.وانا اعتقد ان هذه المشكلة الفنية- أي مشكلة البريكان- ما كانت لتقع لو ان البريكان كتب بلغة اجنبية كالانكليزية او الفرنسية او الالمانية،ذلك لان الناقد الغربي لديه فهم عميق لعملية الخلق الفني اولا ولطبيعة العقل والتخيل ودور كل واحد منهما ثانيا.فلا يجوز ان نتعدى على حقوق التخيل باسم الحفاظ على حقيقة العقل المفروغ منها.كما لا يمكن ان نعتقد ان التخيل تابع لملكة العقل وان الاخير اعم منه واشمل.علينا اذا اردنا ان نقترب من نبع البريكان ان نعتمد على حقيقة مؤكدة وهي:كيف شكل البريكان نصه باسلوبه ذاك.وعلينا ان نبحث في قصائده المتاخرة عن ملامح خيال اصيل قلما نعثر على نوعيته في كثير مما نقرا من شعر.وربما اكشف في مقالي القادم عن مشكلة العيش او اسلوب البريكان في رد فعله الشعري في قراءة نقدية تطبيقية لبعض نماذج من شعره.

نوزاد حسن
اربيل
أعلى