سامي مهدي - في ذكرى محمود البريكان

أسعدتم صباحاً ..
مرت يوم أمس ذكرى وفاة الشاعر الكبير محمود البريكان ، لم تكن لي به علاقة وطيدة ، فقد كان حذراَ مني ، ربما لأسباب سياسية ، ولكنه كان واثقاً من حسن نواياي . وهذا بعض ما كان لي معه .
عرفت محمود البريكان من شعره ، وأول ما قرأت له قصائد عمودية في أعداد قديمة من مجلة الأديب اللبنانية ، فلم أكترث له . ولكنه لفت نظري بقصيدتين نشرهما في مجلة ( المثقف ) هما قصيدتاه ( أسطورة السائر في نومه ) (1959) و ( رحلة الدقائق الخمس ) ( 1961) . فهما قصيدتان مختلفتان عن الدارج مما كان ينشر في تلك الحقبة . وحدثني الناقد طراد الكبيسي في أواسط الستينات فأخبرني بأن هاتين القصيدتين لم تعجبا الوسط الآيديولوجي في حينه ، ولكن بعض الشعراء الشباب كانوا معجبين بهما ومنهم صلاح نيازي وحنظل حسين وطراد نفسه . وكانت هاتان القصيدتان بداية شهرته على ما أظن .
غير أن البريكان توقف عن النشر بعد هاتين القصيدتين ، واستمر على ذلك حتى أواخر عام 1968 . فنشر بعض قصائده في مجلة ( الفكر الحي ) التي صدرت في حينه عن مديرية التربية في محافظة البصرة وأنيطت به رئاسة تحريرها .
وعندما أصدرنا مجلة ( شعر 69) حاولنا الإتصال به ، وجهنا إليه رسالة دعوناه فيها لنشر بعض قصائده في هذه المجلة ، ولكننا لم نتلق منه أي رد . ثم قام الشاعر عبد الرحمن طهمازي بالسفر إلى البصرة ، والتقى به هناك ، وحصل منه على بعض قصائده غير المنشورة ، وكتب دراسة عن شعره ، فنشرت الدراسة ، مع قصيدتين غير منشورتين ، في العدد الثالث من المجلة .
وفي العدد الرابع من هذه المجلة كتبت ، أنا ، كلمة بعنوان ( البريكان .. الصموت ) . ومما قلته في هذه الكلمة ( إن ما يهمنا هنا ليس سلوك البريكان وموقفه من النشر – الغريب على أية حال – بل يهمنا الصوت الذي كان يجب أن يكونه في حركة الشعر العراقي . فقد كان مقدراً لمحمود ان يلعب دوراً إيجابياً مؤثراً في هذه الحركة ومسارها ( ... ) وإذا كان تاريخ الأدب سيذكر البريكان يوماً ويعطيه مكانة لائقة بين شعراء جيله ، فإن ذلك سيكون بعد أن يفقد صوته قدرته على التأثير ) . وأحسب أن توقعي هذا كان في محله ، فهو ما حدث على صعيد الواقع .
لا أدري كيف استقبل البريكان كلمتي هذه ، ولكنه لم يرتح لما كتب طهمازي عنه في دراسته ، فجاءني إلى وزارة الإعلام وطلب مني نشر رد على ما كتبه . كانت مجلة ( شعر 69 ) قد أغلقت يومئذ ، وكنت قد كلفت برئاسة تحرير مجلة ( المثقف العربي ) التي تصدرها الوزارة ، وكان هذا أول لقاء لنا فرحبت به أحسن ترحيب ، ونشرت الرد في هذه المجلة ، ثم نشرت للشاعر الراحل حسين عبد اللطيف لقاء أجراه معه ، أو مقالاً كتبه عنه ( لا أتذكر ) فانعقدت بيني وبين البريكان علاقة تعارف إيجابية ، وصار يرسل إلي قصائده الجديدة ، نشرت له ثلاث مرات في ثلاثة أعداد متقاربة من عام 1970 . وشجعه هذا على النشر في مجلة الأقلام ، وبذلك صار له حضور ملموس على الصعيد الثقافي ، وصار الصحفيون يقصدونه ، وصارت الصحف تعيد نشر بعض قصائده ، بمناسبة أو بلا مناسبة .
في تموز عام 1980 عينت مديراً عاماً للثقافة في وزارة الإعلام بعد عودتي من فرنسا . وكان من أوائل ما قمت به توجيه دعوات مكتوبة ( كتب رسمية ) إلى عدد من أدبائنا وباحثينا الكبار لنشر ما لديهم من أعمال مخطوطة ، وكان البريكان في مقدمة من وجهت إليهم الدعوة ، ولكننا لم نتلق منه أي رد . ثم كررنا دعوته بعد شهرين فلم يرد . وكنت أحث صديقه الشاعر حسين عبد اللطيف على الإتصال به وحثه ولكن بلا جدوى ، وكان حسين يبتسم ابتسامته الوديعة ويقول : ألم أقل لك ؟ محمود عاد إلى القوقعة !
ولكن محمود عاد إلى النشر بعد ذلك مرتين ، مرة عام 1993 – 1994 ومرة عام 1998 ، وكان في كل مرة ينشر مجموعة من القصائد دفعة واحدة . وأحسب أنه كان يعاود النشر حين يلحظ أن شعراء آخرين قد سبقوه إلى موضوعات تناولها في شعره المكنوز . وكان في كل مرة ينشر تحذيراً لمنع الآخرين ، وخاصة طهمازي ، من إعادة نشر شعره دون إذن منه . وكأنه لا يريد أن يرحم شعره ولا يدع الآخرين يرحمونه .
آخر حكاية لي مع البريكان رواها قبلي الصديق الشاعر عبد الزهرة زكي ، فقد كان طرفاً أساسياً فيها ، وسأنقلها هنا عنه كما رواها . يقول عبد الزهرة :
( المرة الوحيدة، ربّما، التي طلب فيها البريكان الظهور كانت برسالة قصيرة كتبها لي وحملها منه الي الصديق الشاعر علي الإمارة، ابن مدينته البصرة .. كان علي قد عرض عليه النشر في بعض المجلات العربية ( ذكرها لي في الرسالة ) وكانت الرسالة تشير لهذا العرض لتستفسر مني عن مدى ضرورة النشر في هذه المجلات ، وعما إذا كان يناسبه ، غير أن الأهم في الرسالة هو تصريح البريكان عن رغبته في نشر أعماله عراقياً وفي كتاب يتضمن كامل أعمال الشعر يصدر في بغداد وعن مدى امكانية خروج الكتاب بما يطمئنه ويريحه، وكان ينتظر إجابةً مني . كان للرسالة التي بعث بها قبل وفاته بأشهر وقع خاص في نفسي، فليس من السهل أن تحظى بثقة رجل وشاعر مثل البريكان، من جانب، وليس من السهل أن أقنع نفسي من جانب ثانٍ بمدى جدية البريكان الذي أعرفه في الإقدام، وبهذا اليسر، على أمر كهذا. عدم الوثوق من جدية البريكان لا يعفي المرء من جدية التعامل مع الرسالة، وهذا ما فعلت.
اصطحبت الصديق علي الإمارة مباشرةً ، وزرنا الشاعر سامي مهدي في مكتبه في جريدة الثورة . وحتى إذا ما عرضت عليه أمر الرسالة رحب الرجل كثيراً بالفكرة ( وشاركني الشك أيضاً بمدى جدية البريكان في نشر أعماله كاملةً، برغم أني لم أبح له بشكوكي ) وقال ما معناه إن الكتاب يظهر خلال أسبوع وبأفضل ما يتمناه محمود. فطلبت منه كتابة ذلك في رسالة إلى البريكان ، ففعل الشاعر سامي مهدي بكرم أخلاق ، برغم ان رسالة البريكان لم تكن موجهة إليه .
هذه هي المرة الوحيدة التي طلب فيها البريكان الظهور. لم يكن زمنها بعيداً عن زمن مصرعه ، وهي مرة لم يكن جاداً فيها كما أحسب ، قدر ما كانت محاولة للابتعاد عن موضوع نشر الشعر في المجلات العربية وذلك باختلاق موضوع الكتاب، هكذا فكرت حيث كانت المدة بين إجابته على رسالته ويوم مصرعه كافية لانجاز كل شيء. لم أتابع خلال هذه المدة ولم الحح عليه ، كنت أحترم حريته في تقرير ذلك من دون ضغوطات عاطفية . ) ( انتهى ) .
مشكلة البريكان أنه كان قليل الثقة بالآخرين ، بل هو لم يكن يثق بأحد ، كما يبدو ، وخاصة الشعراء ، وقد ألحق هذا به وبمكانته الشعرية ضرراً كبيراً . فقد عزل نفسه عن الوسط الأدبي ، وعزل شعره عن التفاعل مع حركة الشعر العراقي في الوقت المناسب ، حتى أدت هذه العزلة إلى ضياع الكثير من شعره . وقد حاولت تحليل مشكلته هذه في دراسة لي عنوانها ( محمود البريكان : الوعد الذي لم ينجز ) وهذه الدراسة منشورة في كتابي ( في الطريق إلى الحداثة ) الصادر عام 2013 .
والبريكان هو محمود بن داود بن سليمان البريكان . كان أبوه تاجر قماش . درس الحقوق ، وعمل مدرساً للغة العربية في ثانويات محافظة البصرة . ولد في مدينة الزبير عام 1931 ، وقتل في بيته عام 2002 ، قتله لصوص استفردوه في بيته في ليلة شباطية ، فضاع شعره مع الضائعات .
أعلى