كرم الصبَّاغ - أعشاش...

يقبلون من بعيدٍ، أسمع صخب أصواتهم، وأصداء ضحكاتهم تتردَّد في الفضاء؛ فيرتجف قلبي فرحًا. يقتربون من داري رويدًا رويدًا، يجدونني بالخارج، أجلس بجوار الباب، كما جرتِ العادة. يمرُّون بمحاذاتي، يلقون علي تحيَّة الصَّباح؛ أشحذُ بصري الكليل، أتصفَّح وجوههم السَّمراء. الشَّمس فوق رءوسهم قرصٌ ملتهبٌ، والعرق حباتٌ تتلألأ على جباههم العريضة. بمجرد أَنْ أردُّ تحيتَّهم، ترتسم على ثغورهم ابتساماتٌ حانيةٌ. أرفع كَفِّي إلى السَّماء، أدعو لهم أن يعودوا غانمين؛ فيرفعون أكفَّهم بدورهم، ويلوّحون بها في الهواء، ويلامسون بها رءوسهم في إشارةِ امتنانٍ، وَسُرعانَ ما يهرولون للحاق بالسَّيَّارة الَّتي تنتظر دائمًا في الخلاء المتاخم للنَّجع. هُمْ بمثابة أولادي، مثلهم مثل سائر فتيان النَّجع و بناته، جميعهم يلقبونني بكلمة أُمِّي، يذكرونها قبل ذكر اسمي مباشرةً، تتهادى الكلمة رخيمةً لَينَةً من ثغورهم؛ يثيرون شجوني، يُذكِّرونني بهذا الغائب، الَّذي تذوب روحي حزنًا على فراقه. يجودون عَلَيَّ من وقتٍ إلى آخر بشيءٍ من كسبهم رغم فقرهم، الَّذي أعلمه جيدًا، بينما تتناوب بنات النَّجع على خدمتي؛ هذا سِرُّ بقائي على قَيْدِ الحياة إلى الآنَ كامرأةٍ جاوزت السِّتين، امرأة زَادُها الذِّكريات والتَّمنِّي، تحيا منذ سنواتٍ طويلةٍ بمفردها داخل دار موحشة يطبق عليها الصَّمت.
(٢)
في نجعنا، تستأثر النِّساء والأطفال والشُّيوخ برعي الأغنام على مروجٍ قليلةٍ يسقيها المطر كُلَّ شتاءٍ؛ فكان لزاما على الشُّبان والكهول، الَّذين يمثلون السَّواد الأعظم من سكان النجع، أن يخرجوا لكسب العيش في مزارع العنب والموالح، الَّتي تتناثر في الصَّحراء، والَّتي تمتدُّ داخلها خراطيم الرَّي بالتنقيط، الموصولة ببئرٍ حُفِرَتْ على رأس كُلِّ مزرعةٍ. و لَمَّا كان الماء في صحرائنا شحيحًا، زهدتِ الأنفسُ الزَّخارفَ زُهدًا جبريًّا، ورضى أصحابها بأقلِّ القليل، إلَّا أَنْ ولدي الوحيد لَمْ يَكُنْ من ذلك النَّوع القانع؛ رُبَّما لَمْ يشأ أَنْ يدفع الثَّمن مرتين؛ إذْ نشأ يتيمًا، بعد أن فقد أباه، وهو ابن خمس سنين، لَمْ يشأ أَنْ يعيش سائر عمره تحت إِمْرَةِ أصحاب المزارع، ومقاولي الأنفار، الَّذين يمتصُّون دماء العمال، و يكلفونهم بما لا يطيقون، ويحصون عليهم الأنفاس، وفي نهاية اليوم يلقون إليهم بحفنةِ جنيهاتٍ، لا تكفي ثمن الزَّاد.
لقد كنتُ تلك المرأة، التي هزمها الحزن بعد أن فقدتْ الزَّوج، وعندما شَبَّ ولدي، وصارت العين تستحي من النَّظر إلى وجهه المليح، كنتُ على موعدٍ مع مرارة أخرى أشدّ؛ فقد أخبرني ذات مساءٍ بأنَّ ساعة الفراق قد حانت، و بأنَّه قرَّر أن يتَّجهَ غربًا؛ كي يعبر الحدود، والأسلاك الشَّائكة حبوًا مستترًا بظلام اللَّيل؛ إذْ لَمْ يكن يملك تأشيرة دخولٍ إلى الدولة المجاورة، أو حتَّى جواز سفرٍ. كان قراره قاطعًا بلا رجعةٍ، أخبرني بأنه يأمل أن يَجِدَ في الجهة المقابلة عملًا، يدرُّ عليه دخلًا يعوضنا عن سنوات الحرمان، أو أن يصادف امرأةً، يحصل بعد زواجه منها على أوراقٍ، تتيح له إقامةً دائمةً. وعدني بأنه لو تحقَّق له ما يريد فإنَّه سوف يرسل في طلبي، حتَّى أنضَمَّ إليه مرة أخرى؛ فرجوته ألَّا يفعل، لكنَّه ساعتها أسرف في الاعتذار، ثم قَبَّلَ رأسي، وعَلَّقَ حقيبته على كتفه، ومضى في طريقه، يرافقه ثلاثةٌ من أصحابه. ومنذ ذلك الحين إلى الآنَ لَمْ تكتحل عيناي برؤياه. لقد عاد أصحابه جميعًا بعد عامين من انقطاع الأخبار، وحينما علمت بالأمر، توجَّهتُ إلى دورهم الواحد تلو الآخر؛ فكانتِ الإجابة واحدةً: نجحنا في العبور، وبعد مسيرة يومين في الصَّحراء، هبتْ عاصفةٌ أعمتنا، وفرَّقت شملنا، و بعد أن هدأتْ، التمسنا بعضنا البعض؛ فالتقى ثلاثتنا من جديدٍ، بينما فقدنا صاحبنا، نقسم بالله أنَّنا بحثنا عنه طويلًا، لكنَّنا لم نجد له أيَّ أثرٍ.
(٣)
أراه تارةً يمتطي فرسًا أبيضَ، يركض في قلب الصَّحراء، وأراه تارةً أخرى يحلِّق في السَّماء بصحبة عصافيرَ ويمامٍ، و هداهدَ. أخبرني أهل التَّفسير بأنَّه ينعم في عَلِيِّينَ، وأوصاني شيخٌ طاعنٌ في السِّنِّ يزيِّنُ وجهه وقارٌ و أنوارٌ، و لحيةٌ بيضاءُ كالشَّمع بأنْ أصبر، حتَّى يحين الموعد؛ فساعتها سأروي ظمأي بالتأكيد. لَمْ أتمالك نفسي؛ فصرختُ في وجه الشَّيخ قائلةً: قلبي يحدثني بأنَّ ولدي حيٌّ يُرْزَقُ، وبأنَّه سيعود في يومٍ ما. فما كان منه، إلَّا أن لزم الصَّمت. في هذا اليوم نهضتُ، يقتلني الشَّوق، ويحييني ذاك الأملُ الخافت في عودته، مرَّتْ سنواتٌ، كنتُ خلالها أبصر ملامح وجهه في وجوه فتيان النَّجع، كنتُ أشعر بروحه تُحلِّق حولي، كُلَّما مرَّت بمحاذاتي زمرةٌ منهم. و في يومٍ غائمٍ، انهمر المطر، وراح اليمام يحطُّ على شجرة تينٍ، تقع مباشرةً أمام الدَّار. ولَمَّا كان من عادة اليمام أَنْ يتوقَّف عن السَّجع، كُلَّما نزل المطر، تعجَّبتُ عندما سمعتُ اليمام يسرف في السَّجع رغم هطول الأمطار. انهمكتُ في مراقبة المشهد؛ فَلَمْ أنتبهُ لوجوده، فما كان منه إلَّا أَنْ اقترب مني؛ فشممْتُ رائحته القديمة رغم العطر الفائح من ملابسه. عندئذٍ ارتجف قلبي، وتلاحقت دقَّاته، و لما رفعت بصري، انكبَّ عليَّ، وراح يلثم خديَّ، ثُمَّ ارتمى بين أحضاني، و عانقني عناقًا حَارًّا.
(٤)
هل تكفي الكلمات للاعتذار، حينما يكون الثَّمن الَّذي دفعناه مرارةً بحجم جبلٍ؟! راح يصف لي ما قاساه طيلةَ سنواتِ غيابه، أخبرني بأنَّ الدنيا قدْ ضاقت عليه، و حينما شارف على الهلاك، فتحت الدُّنيا له ذراعيها، بغتةً؛ فراح يركض فيها طُولًا و عرضًا، و راح يسابق الزَّمن؛ مخافةَ أن تعطيه ظهرها مرة أخرى. هو الآنَ متزوجٌ من امرأةٍ، هي سِرُّ سعده، له منها ثلاثة أبناءٍ. يعتقد أن الوقت قد حان ليجتمع شملنا من جديدٍ، كل ما يلزمنا أن أدسَّ ملابسي في حقيبة، وأن أعبر معه الحدود، بأوراقٍ رسميَّةٍ، حيثُ تنتظرني زوجته وأولاده. ظلَّ يتكلم، حتَّى تهدَّج صوته. و ما بين فرحة و ذهول و حيرة ظللت صامتةً، كُلّما حاولتُ الكلام، ذابتِ الحروف على شفتيَّ. كان المطر لا يزال يسقي الرَّمل، و كان الرَّمل ظامئًا، يأبى أن يرتوي. كنت مشوشةً، لا أصدِّقُ أنَّه عاد. كنا قد لذنا منذ ساعاتٍ بمدخل الدَّار، بينما كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا عَلَى مِصْرَاعَيْهِ. رأيتُ من موقعي الشَّمسَ قد ظهرتْ من خلف الغيم حمراءَ، قد آذنت بالغروب. رأيتهم مقبلين، و لَمَّا مرُّوا بمحاذاة الدَّار، راحتْ أعينهم تبحثُ عني، و لَمَّا أبصروني جالسةً في مكاني برفقة ولدي، رفعوا أكفَّهم بالتحيّة، وارتسمت على ثغورهم الابتساماتُ الحانيةُ ذاتها، وقبل أن يغيبوا عن ناظريَّ، التفتُّ إليه، و هززت رأسي يمنةً ويسرةً، و زفرتُ بحرقةٍ، ثُمَّ نهضتُ بصعوبةٍ بالغةٍ، في حين ظلَّ هو في مكانه متبرمًا قلقًا، ينظر إلى ساعة يده. رأيتُ في عينيه نظرة رجاءٍ، ورأيتُ على وجهه علامات نفاد الصبر. آهٍ، يا ولدي العَجُول، يبدو أنَّ السَّنواتِ لم تغيِّرْكَ البتة. ظللتُ واقفةً، وهو جالسٌ مكانه، و لَمَّا طال الصمت، أعاد على مسامعي عرضه مرَّةً أخرى؛ فما كان مني إلا أن تركته، و دخلتُ غرفتي، وأوصدتُ الباب خلفي، و رحتُ أُصْغِي بإمعانٍ إلى سجع اليمام، الَّذي استقرَّ أخيرًا داخلَ أعشاشه الدَّافئة المنسوجة بإحكامٍ فوق أغصان شجرة التِّين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى