د. محمد محيي الدين أبوبيه - كالح وناصع

تجافت جنباتي عن المضجع ، قمت فتوضأت ثم صليت ماقدر لي ربي من صلوات ثم أخذت كتابا أتصفح فيه

السكون يخيم على الدنيا، قطرات المطر تحط على زجاج الغرفة فتصنع صوتا بوتيرة واحدة مما أعطاني شكلا من أشكال الوَنس، ظللت على تلك الحالة حتى اخترق أذنيّ رنين آخر غير صوت القطرات المتساقطة، أنصت مليا فسمعت طرقات ضعيفة على الباب ، لملمت اندهاشي وذهبت لأستوضح إذا ماكان حقيقيا أم خيالات السكون الشتوي

بمجرد فتحي لباب المنزل استقبلني بوجهه الطفولي المتسخ وأسماله التي تفضح أكثر مما تستر، ارتعاشات جسده النحيل اهتزت لها فرائصي، وقبل أن ينطق سحبت يديه النحيلتين ودلفنا للداخل

هيئته ليست غريبة ، فإني أراه كثيرا في منطقتي السكنية، ربما يمسح زجاج السيارات أو يبيع الورود عند الإشارة القريبة، بعدما أحضرت له معطفا يتدثر به
ومشروبا ساخنا يمنحه بعض الدفء، توقفت ارتعاشته وأحس بكثير من الهدوء

لمحت في عينيه المثقلتين بالبؤس والشقاء الرغبة بالبوح عما يعانيه، سألته عن اسمه وما الذي أرغمه على الوجود في هذه الليلة المطيرة بالشارع؟

انحدرت الدموع على خديه، ومع النهنهات المتقطعة خرج الكلام من فمه حاملا آهات التوجع
: أنا تقريبا ليس لي اسم كبقية الناس فلا أعلم إلا أن أبي أطلق عليّ لقب ( شوارعي) وهو ما يناديني به الآخرون ولم أكن أعلم معناه الحقيقي حتى ليلتنا هذه التي انكشف لي خلالها ما كان غماما

أكمل وكلي شغف لسماعه
: أراد أبي مع تقلبات الجو ان أقوم ببيع الورود والفل عند الإشارة وعندما اعترضت إنهال علي ضربا وركلا وسبني بأبشع الألفاظ

حينها انفجرت فيه معترضا على جميع تصرفاته معي وكيف لأب ينحو هذا النحو مع ابنه فلا اسم ولا تعليم بل إرغام على جلب المال مع عدم الشفقة والخوف عليه من هذه الأجواء القاسية

وافقته الرأي بهز رأسي ثم أكمل
: مع شدة لكماته قمت بإبعاده عني فوقع أرضا، استشاط غضبا وصرخ: (بتوقعني على الأرض يا ابن....ما انت مالكش أصل ولا فصل)
فهزتني جملته هزا كيف يقول ذلك عن ابنه
وتابع كلامه بأنه ليس أبي وأنه وجدني لحمة حمراء وأخذني ورباني وبالنهايه أتهجم عليه

حملت رجلي وقفزت من أمامه مسرعا إلى الشارع الذي انتسب إليه ومع زيادة برودة الجو وعدم احتمالي لدفقات المطر المنهمر اخذت أطرق أبواب المنازل فلم أجد مجيبا حتى فقدت الأمل في أن ينتشلني أحد وكنت أنت الملاذ الأخير الذي رسوت عنده

ربّت على كتفيه وأخبرته بأنه قد وصل لملاذه الآمن
فأنا هذه الأيام أعيش وحيدا بعدما ذهبت زوجتي عند ابنتنا الكبرى لتمكث معها بعد وضعها لمولدتها وأولادي الذكور كلٌ في منزله

صلينا الفجر سويا بالمنزل ثم نام هو بالصالة وقد جهزت له أغطية تكفي لتدفئته ودخلت أنا لغرفتي وأنا أحمل همه وكيف لي أن أمهد له طريقا لغده

الشمس أشرقت وافترشت ربوع الأرض فتدفقت اشعتها داخل غرفتي من خلال بعض الفراغات الموجودة أعلى ستائر الشباك،مما أيقظني فخرجت أمشي على أطراف أصابعي كي لا أوقظ ذلك المسكين الذي عاش ليلة كئيبة وما إن وصلت الصالة كانت الكنبة خالية منه وكذلك الأغطية غير موجودة، أخذت أصيح ( يا ابني..يا ابني.. يا شوارعي)
لم يرد

جال بخاطري أني قد وقعت في المحظور وقد تم النصب علي، وأنه ما كان يجب أن أستضيفه
وترددت في مسامعي كلمات
لا أصل ولافصل له...إنه ابن (....)
فطفقت أفتش في جوانب المنزل كي أعرف ما قام بأخذه مع الأغطية وألوم نفسي وألعن سذاجتي التي دفعتني لذلك حتى أني أفكر في غده ومستقبله

وأنا منهمك وغارق في بحثي عن المجهول سمعت طرقات كتلك التي كانت بالأمس
إنه هو... إنه هو
: أين ذهبت؟
:أنا معتاد الاستيقاظ مبكرا...ولم أرد أن أوقظك..وكان معي بعض النقود فذهبت كي أحضر الخبز الساخن وإفطارا لنا وقبلها قمت بنشر الأغطية مع حلول أشعة الشمس على سور المنزل من الخارج

جلسنا لتناول الطعام وأنا أهمس لنفسي
( هذا المسكين...سيحمل مع مستقبله ماضياً كالح الألوان سيغطي على نصاعة أفعاله)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى