مقتطف عبد الكريم العامري - عنبر سعيد - رواية - الجزء التاسع

هل قرأت المرأة أفكاري ، وعرفت سرّي ، أشـكُّ أنّها تعرف شيئاً عمّا فعله الشيخ بي . أيكون الشيخ قد أخبرها بقصّتـي ؟ من غير المعقول أن يفشي الشيخ أمراً هو طرف فيه .. ولكن من المعقول أنّهُ سردَ عليها قصّةً شوّهني فيها . لقد صبرت طويلاً يا عنبر ابن سعيد ، صبرت . مَنْ يُطفئ النار التي في صدرِك ؟ ها قد جاء الوقت الذي تقتصّ فيه ممن سلب منك أحلامك وأمانيك وقتل الحب الكبير الذي زرعته في حديقةِ عمرك . الآن عليك أن تأخذ بثأر من لفظت أنفاسها في حفرة الرجم . وما حـدث بالأمسِ قد يحدث اليوم . عليك يا عنبر ابن سعيد أن توقف الدودة المهلكة وتقتنص منها ما هو حق لك . سكـت عنه طيلة تلك السنوات لا لشيء إلا وفاءاً لذكـراها فربما يسيء الشيخ لها من جديد ، وها هي تبزغ مـن جديد نجمةً في ليل عمرك. حرّكت المرأة ساقيها في الماء وشعرَ عنبر برغبةٍ في السباحةِ فألقى جسده في النهر وتبعته المرأة . غاصا معاً وتعانقا تحت سطح الماء البارد حتى استقرا في القعر . سربٌ من السمكِ دارَ حولهما يبارك الجسدين الملتصقين بانتشاء ، تشابكت السيقان والشفاه وعبثت الأصابع في ما تحت الثياب وبدأت سورة الماء تحملُ فقاعاتٍ من التنهّدات التي انتشى منها النهر ولم تستطع برودة الماء ولا الشتاء أن يطفئا جمر الجسدين الملتهبين .كان نهار الجمعة فاتراً ، تحبو ساعاته بهدوءٍ وتمتصّ حركة الأقدام على إسفلت الشارع . خرجَ عنبر سعيد من الحانةِ مبكّراً ، ليس من عادته أن يخرج في هذا الوقت المبكّـر خاصة بعد إن اشتغل مع سلمان في الحانةِ . قادته قدماه حيث منزل الشيخ ، هناك راقب المكان ، دار مرّتين حول المنزل ، انتظر لحظة خروجه لكنّهُ لم يخرج .. نسوةٌ دخلن فرادى إليه ، كل واحدة تبقى في المنزل نصف ساعة أو يزيد .. فوجئ بعدد النسوة اللاتي دخلنَ المنزل ، عشر أو أكثر ، كلما خرجت واحدة دخلت أخرى .. متى يشبع هذا الزنديق من تلك الأجساد ؟ كم جسدٍ عبث فيه ليوهمهن أنّه قريبٌ من الله ! يعتقدنَ بذلك ويطلبنَ بركاته بعدما أمتطى ظهورهنَّ وصدورهنَّ في غرفته المعتمة . كان عنبر يشمّ رائحة زفيره في الأجساد الخارجة والوجوه المنطفئة . يرى أصابع الشيطان وهي عالقة في الرؤوس . ويراه ما بين الأفخاذ المنفرجة . ما الذي يدفعهنَّ إليه بعدما جرّبنه عدّة مرات ؟ أيكون هو الفحـل الوحيد في المدينة بعدما أكل النهار فحولة أزواجهنَّ ؟
انتظر حتى المساء ، وسترَ الظلام اثنتين ممن يعرفهنَّ ، خرجنَ سويّةً ، تتحدّثان وتقهقهان بعد أن أخذتا حصّتهما من زيفهِ . وحيـن تأكّدَ من خلو المكان تشبّثَ في الحائط وصعد إلى السطح . ومن هناك رأى الشيخ في وسط الحوش عارياً يغسلُ ثوباً يحملُ إثم فعلته .
قفزَ مثل نمرٍ جائعٍ ففزَّ الشيخ هلعاً ، حدّقَ فيه كمن يرى الموت أمامه . قال :
- عنبر ؟!
حاولَ أن يهرب من جهة الباب فصاحَ به عنبر :
- اخرج هكذا لتراك الناس جيداً !
كانَ هول المفاجأة قد أنساه عُريه ، توقف ، واستجمعَ قواه وقال متوسّلاً :
- كنّا صديقين يا عنبر .. أنت لم تنسَ ذلك .
- ولكنّك نسيت .
- لم أكن طرفاً في الأمر . هناك مَنْ وشى بك في القرية .
قاطعه عنبر :
- وأفتى برجمي . ألم تشبـع من الأجساد لكي تقتل حلمي ؟
- لم أقتلها . صدّقني يا عنبر !
- صدّقتكَ من قبل . انتظرت منك عذراً فلم تفعل .
- هاأنذا اعتذر لك .
- تأخّرت كثيراً . لا ينفع عذر بعد وقوع الكارثة .
- سأخبرك بالحقيقة .
- شاهدتها بعينيّ ، تلك الحقيقة . هل أكذّب عيناً رأت كوخي يحترق ؟
- خذْ ما تشاء ودعني . لديّ من المال ما يكفي ليجعلك أميراً ..!
- ولديّ من القصاص ما يكفي لإطفاء نار صدري .
صرخ الشيخ مرتجفاً :
- أتقتلني يا عنبر ؟!
- بل أحرق القمامة وأخلّص الناس من شيطان حلّ بينهم .
- أعدكَ أن أرحل عن المدينة .
- لا تتعجل سترحل !
لم يجد الشيخ فرصةً للخلاص من عنبر سعيد ففي صدره ما يجعله ينقضّ عليه مثل كاسرٍ عنيدٍ .. عرف الشيخ أن نهايتـه اقتربت بعدما تقدم منه عنبر وربط يديه بحبل الغسيل وقاده حيث الغرفة المعتمة وفراش القطن . هناك شدّه جيداً ، قيّدَ ساقيه ورشَّ المكان نفطاً ، وقال وهو يشعل عود ثقاب :
- الآن سترحل يا شيخ !
ألقى عود الثقاب المشتعل في فراش القطن وراحت النار تلتهم المكان .. صرخَ الشيخ ، وتوسّل بعنبر فلم يصغِ له ..خرجَ عنبر من دار الشيخ ووقف على مسافةٍ قريبةٍ وهو يشهد الحريق الذي إلتهم الشيخ ومنزله وأطفأ نار صدر عنبر سعيد .
بعد حادثة الحريق الكبير الذي التهم الشيخ ومنزله غادرَ عنبر سعيد المدينة ، غادرها دون أن يخبر أحداً كعادته ، لا سلمان ولا المرأة ولا حتى حمزة سكراب الذي يقيم في سجن المدينة منذ شهور عديدة .. ولأن سلمان كان يتملكه يقينٌ في إنّ عنبر سعيد سيعود من جديد كما في المرة السابقة فقد انتظر وحجز له قنينتي شراب ، إلا أنّ المرأة يئست بعد بحثها عنه في كلِّ مكان في المدينة حتى تيقّنت أنّها لن تراه ثانيةً .
أحدثَ غياب عنبر سعيد في نفسها هـزّةً عنيفةً ، فهي الوحيدة التي تعرف أنّ الحريق الذي نشبَ في منزل الشيخ لم يكن حادثاً عرضيّاً كما أشيع عنه في المدينة فاحتفظت بالسرِّ ولولا غياب عنبر لاكتملت فرحتها وانتعشت حياتها ولكن فراغاً قاتلاً تشعرُ به الآن ، اعتزلت عن الناس والتزمت المنزل ، ولم تعد تخرج إلى السوق أو إلى حمام النساء .. ففي ليلةٍ مقمرةٍ باغتتـها المرأة التي في داخلها وفتحت أمامها مغاليق حياة جديدة ..
- المدينة التي فرغت من شيخـها لا بد لها أن تجد شيخاً ولم يكن الشيخ هذه المرة إلا أنتِ !!
كانت البداية لسفر جديد في حياة المدينة ، بايعتها النسوة والرجال ، كل شيء حـدث بسرعة ، حتى أنّها لم تعد تستوعب ما يحدث في هذه المدينة المجنونة . وبين ليلةٍ وضحاها صارت الشيخة تشغل حيّزاً مهماً في حياة المدينة والناس . ترددت عليها النسوة ونمن في فراشها القطن ودسّت أصابعها في الأجساد الطريّـة تماماً مثلما كان يفعل الشيخ ، ونامت فوق إحداهن ، ولثمت أخرى ، وعبثت في فروج أخريات حتى انتشلت منهنَّ شهوتهنَّ . أما الرجـال فقد كانت تناديهم بمقاسات دبابيسهم ، بدءاً بالثلاث إنشات حتى غدت المدينة أمام عينيها عاريةً ، تراها ليس مثلما يراها الآخرون ، عارية تماماً بنسوتها ورجالـها .. تعرف ما تستره الثياب وتكشف ما تُخبِّئه الصدور .. عرفت المرأة لعبة الشيخ مثلما عرفت أسرار النسوة اللاتي كنَّ يترددنَ عليه . . لكنّها لم تعرف ما حلَّ بعنبر سعيد .

.

صورة مفقودة


renoir_misia
  • Like
التفاعلات: 2 أشخاص

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى