محمد برادة - مجنون الورد

ـ1ـ
يفد على طنجة، عروس الشمال، كما تلقبها مصلحة السياحة، طفل لم يتجاوز سن السابعة صحبة اسرته الهاربة من المجاعة، بداية الأربعينيات، و الحرب في أوجها.. في مخيلته صور محدودة لقرية " بني شيكر "، و على لسانه كلمات من اللهجة الريفية يحاول أن يسمي بها الأشياء.

بعد قليل سيلقى القبض على الأب لأنه لاذ بالفرار من صفوف الجيش الإسباني المتقاتل في حرب أهلية طاحنة، لا تعنيه، هو المغربي، في شيء.
يتقدم محمد شكري الطفل وحيدا ليبدأ حياة التشرد من دون أن يعرف المدرسة. يبدأ باكتشاف المدينة ـ الحياة من خلال أعمال يدوية متنوعة: مسح الأحذية، بيع الصحف و الخضر، الاشتغال في المقاهي و المطاعم، التعاون مع عصابة للنشل، إرشاد السياح، تقليد أغاني محمد عبد الوهاب في المقاهي..
يقترب الآن من سن التاسعة عشرة و قد جرب كل شيء، و استوعب طبيعة العلاقات و المعاملات، و عرف القسوة و لم ينعم بالحنان..و ذكاؤه يحثه على أن يواصل السير ليرتاد عالم الذين يتحدثون لغة لا تشبه الريفية و لا الدارجة، حتى لا تظل هناك منطقة يجهلها، و حتى لا يظل بعض الشباب من معارفه يعيرونه بالأمية. في هذه السن المتقدمة، يسافر إلى مدينة العرائش بحثا عن مدرسة ابتدائية تقبله.. و هناك تعلم من التلاميذ الصغار أكثر مما تعلم من معلميه و أساتذته..و عاد إلى طنجة " متعلما " ليبدأ مغامرة جديدة و مثيرة مع الكتابة و الأدب..لكن شكري الذي نخرته سوسة الحياة و إغراءات التجربة، لا يستطيع أن يحترف الكتابة عن " الأشياء " من خارجها، و هو الذي اعتاد أن يثقب القشرة ليرتاد الشرنقة. الحياة أولا: إدمان الكأس و إدمان الليل فرارا من البلادة و الجهل و من الجنون و الموت. و لم يستطع أن يقاوم وحده قساوة العيش على الهامش، فأصيب بانهيار عصبي و مكث بمستشفى الأمراض العصبية أربعة اشهر خلال سنة 1964. تبدو له الكتابة الآن نوعا من الإدمان لتهدئة حساسيته المرهفة، و مواجهة فوضى الأشياء و المجتمع. و لن تعوزه "المادة"، فقد اختزنت ذاكرته و أعصابه و جسده ما لا تستطيع "اللغة الفصحى" تشخيصه. بعد محاولات قليلة، نشرت له مجلة "الآداب" قصة بعنوان" العنف على الشاطئ" سنة 1966، و تلقى رسالة من الدكتور سهيل إدريس يشجعه فيها على المضي في الكتابة...
هكذا دخل محمد شكري المجال الأدبي، فأثار انتباه الأدباء المغاربة الشباب "المتعلمين" في المعاهد و الكليات، و أصبح صوتا متميزا بتجربته المدخرة، و بتعبيره العاري من الحذلقة و التصنع... و كما في الحياة، سيحاول الكثيرون تهميش كتابات محمد شكري لأنها "وقحة" تسمي الأشياء و لا ترمز لها، تختار نماذجها من المنبوذين و الشواذ و ممن يعيشون في الحضيض..إلا أن جوهر "ظاهرة شكري" لم يلتفت إليه أحد: مقابل الكتابات الرومانسية و التجريبية "الطلائعية"، و مقابل النصوص المعتمدة أساسا على "نصوص غائبة"..يأتي شكري بمنطلق آخر: الأشياء قبل الكلمات، المعيش قبل المتخيل، الموشوم أخاديدَ على الجسد قبل التبشير بالأفضل و مناجاة الثورة المنتظرة و دفن الإحباطات في القصائد و القصص الأسيانة..و هو في كل ذلك، يصدر عن تجربته الخاصة: اكتشف الأشياء أولا وجها لوجه من دون أسرة تحميه، و لا مدرسة توجهه، و لا طفولة هنية يختزن ذكرياتها..فتح عينيه منذ الوهلة الأولى على عالم الكبار الذين يتصارعون في محيط المجتمع و في قاعة لضمان اللقمة و حماية النفس، يحتكمون إلى أعراف أشبه ما تكون بقانون الغاب، و القيمة البشرية ملغاة في عهد الحماية و عند أصحاب المخزن..و أن تكون، إلى جانب ذلك، ريفيا مجتثا وافدا على مدينة ذات "أصول"، معناه اكتساب صفة النفاية عن جدارة..
إلا أن شكري لم يقبل هذا "الأمر الواقع" الذي يجعل من الأكثرية المهمشة برغم إرادتها، خادمة لأقلية تحميها المواضعات الاجتماعية، فبدأ يعبر عن احتجاجه و مناهضته بلغة الجسد قبل أن يتعلم اللغة المكتوبة:" كنا أحيانا نستعمل شفرات الحلاقة و السكاكين في معظم العراكات التي كانت تصل أحيانا إلى حالات دامية...".
على العكس من معظم كتابنا الآخرين، تعلم محمد شكري لغة الأشياء العارية القاسية، قبل أن يتعلم الكلمات "المعبرة"، لذلك تظل حياته اليومية هي الأساس، و تغدو الكتابة بالنسبة له إدمانا جزئيا يرفض أن يجعل منه قناعا للتجميل أو مطية للارتقاء في السلم الاجتماعي.
ـ 2 ـ
الخيوط التي ينسج منها شكري قصصه تنتهي إلى رسم "جغرافيا سرية" للمدينة و لتحت ـ أرضها. تبدأ تناسلها، جميعها، من مناخ الهامشيين أو من عالم الأطفال، يبدأ الحكي بتلقائية توهمنا أنه يحكي واقعة من " الوقائع المختلفة"، شاهدها في الطريق أو قرأها في الصحيفة و أعاد صياغتها. لكن هذا التوهم سرعان ما يبدده سطوع كلمات مفاجئة و عبارات مكثفة محملة بالإيحاءات و الدلالات، تنقلنا إلى عالم قصصي تؤطره و توحده تلك الخيوط المتناثرة في مختلف القصص. قوام هذا العالم عند شكري، الهامشيون أو الليليون (مقابل النهاريين كما يحلو له أن يقسم الناس)، الذين صنفتهم المؤسسة الاجتماعية في تراتبيتها الهرمية لتجعل منهم نقيضا للمواطنين " العاديين" الأساسيين..هم، إذا، من يضرب بهم المثل عن الشذوذ و اللاأخلاق و الرذيلة و الفحشاء و المنكر..و لا يمكن لمجتمع أن يتصور نفسه من دونهم، لأنه إذا كان من الصعب تشخيص "الفضلاء" و ممثلي الاستقامة بكثرة، فإن من السهل تكثير المنحرفين و تهميشهم لاستعمالهم كنماذج لا تحتذى و كسلوك يزجر عنه، و يعاقب عليه...في قصة "بشير حيا و ميتا" يجسد شكري هذه العلاقة الغريبة بين العاديين العقلاء، و الشواذ المجانين: بشير" الأحمق" يقلق الآخرين لكنه يسليهم لأنه ليس منهم. يتحلقون حوله و هو ممدد في الشارع متمنين موته..وعندما يستيقظ من غيبوبته يصابون بخيبة أمل:" سينظرون إليه كشبح و هو يسير بينهم".
الأطفال أيضا لا يفهمهم العقلاء مع أنهم " ليسوا دائما حمقى "، إلا أنهم يربكون عالم الكبار المصنوع من الضوضاء و الكلام المجاني و افتعال المشاعر و الأفكار. بدلا من ذلك يقترح الأطفال الصمت و الحلم و إطلاق سراح الحمائم ! التلقائية نفسها التي يحكي بها، تلازمه و هو يسمي الأشياء المكونة للاهتمامات اليومية عند أشخاصه الهامشيين. و يكون الجنس في طليعة تلك الاهتمامات.
إن الثنائية الفاصلة بين الأشياء تنعدم في سلوكاتهم، و الجسد كلي، به يواجهون العالم و منه يسوحون ردود الفعل..و الشهوة تختلط بما هو نباتي و حيواني، بالوجود و العدم..." يتأملها أرسلان. هي تستريح مغمى عليها و هو يستريح لاهثا، تمتزج الرغبة في ذهن أرسلان بالشروق و البحر، تمتزج بالأزهار و طيور الصباح، تمتزج بطنين الذباب و الخبز اليابس الأسود، تمتزج تلك الرغبة في حواسه برائحة القيء و الموت و الصمت الطويل" من قصة "القيء".
و لعل قصة " الخيمة " التي حالت الرقابة من دون نشرها، هي أجمل نموذج تتحقق فيه فكرة شكري عن الجنس ـ الإله حين يغدو فرحة و عيدا و وليمة و ارتماء في أحضان البحر، و ملامسة جسدية لعناصر الطبيعة...
غير أن كثيرا من قصص شكري تنقل إلينا الصورة البئيسة للجنس عندما يكون جسدا يباع أو كتلا لحمية تلهث وراء لذة دفنتها العقد، و غيبها الإرهاق.
ـ 3 ـ
تتصف لغة شكري باقتصاد قريب من الشحّ. يزكي هذا الانطباع توزيع التركيب العام على جمل قصيرة تسندها أفعال المضارع السائدة في معظم القصص. إلا أن هذه البنية اللغوية العامة يتخللها تكسير مباغت من خلال جمل طويلة متماسكة مختلفة عن جمل الوصف و السرد. هذا "التكسير" ينقلنا من الأشياء إلى امتداداتها في نفس الكاتب. ثم يعود النص إلى مستواه الأول قبل أن ينكسر مرة أخرى..
في قصة "شهريار و شهرزاد"، تسود الجمل القصيرة مثل "سقط الكأس من يدها على الطاولة"، و يأتي الوصف و السرد في رتابة مقصودة، و فجأة تطل جملة طويلة تكسر هذه الرتابة و ترسم بعدا جديدا للأشياء:"..لو أن هذا الإحساس كان نحو الأشياء وحدها، لظللت أحدق فيها حتى أجن أو يكف إحساسي هذا الغريب عني..".
من ثم فإن القرابة التي نستشعرها بين التقنية القصصية عند شكري و بين طرائق الرواية الجديدة، لا تلبث أن تتلاشى، لأن واقعية شكري لا تقوم على تغييب ذاته من اللوحة. على العكس، يظل صوته حاضرا همسا و جهرا من خلال تلك الجمل المفاجئة الصادرة عن غور عميق.
و نلمس في القصتين:" أشجار صلعاء" و " مجنون الورد" تطويرا لهذا التركيب الفني العام الذي حاولت تحديد أهم عناصره..في هاتين القصتين تزيد كثافة اللغة و يتخلل الرمز الشخوص " الواقعيين". بعبارة أخرى، تتميز الكتابة لتحد من سرعة تدفق الأشياء المتزاحمة على بوابة الذاكرة.
ـ 4 ـ

تظل العلاقة بين الكتبة و الذات و الواقع المعيش، حزمة من التساؤلات المتشابكة كثيرا ما تفضي بنا إلى متاهة مسدودة..و حين أفكر في "حالة" محمد شكري، تبدو لي العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة ملتبسة، و تهتز فعالية الكتابة إزاء حضور الذات ـ الجسد، و إزاء انعكاسات الواقع على حيوات الناس..
هل يرجع ذلك إلى أن الكتابة ليست كل شيء في حياة شكري، و إنما هي وسيلة مكملة للتعبير عن الوجود بما هو موجود أم يعود ذلك إلى المنطلق الذي ينطلق منه: استيحاء عالم الهامشيين و كأنه عالم منغلق على ذاته، وجد منذ الأزل و سيمتد إلى الأبد غارقا في صراعاته و هلوساته و بؤسه المادي و المعنوي؟
ما يزكي هذا الانطباع الأخير في نفسي هو غياب المحور الآخر، محور الفئات" الأساسية" في علائقها الجدلية مع الهامشيين. من ثم انعدام ردود فعل "واعية" عند هؤلاء الأخيرين. ربما لأن الكاتب يخشى من ضجيج الشعارات و تكرارية التبشير، إلا أن هذا العزل يحجب عن العالم القصصي لمحمد شكري أشعة الوعي التغييري المتناسل عبر جميع طبقات المجتمع المغربي بحثا عن أفق لا يهمِّش الأغلبية..و حين يبتعد شكري عن رصد عالمه الخاص، و يطل على العالم ـ المجتمع، تتخذ قصصه صورة الحلم ـ الفانطاستيك، كما في: العائدون، و الشعراء و الزاحفون..و لعل قصة" الكلام عن الذباب ممنوع" هي أنضج نموذج عنده في محاولة معانقة كابوس القمع و التعذيب و خنق الحريات..إلا أن تجربة العالم الهامشي تظل محفورة في أعماق بطل " الكلام عن الذباب ممنوع" عندما يتفوه بهذه العبارة:"...قد يعطفون عليك، لكن لا أحد يستطيع أن يساعدك".
ـ 5 ـ
الإحساس بأسبقية الأشياء في قصص شكري يطرح المسألة المألوفة في المناقشات النقدية بشان علاقة الكلمات بالأشياء أو مدى قدرتها على التعبير عما هو حي و مدرك من خلال الذات. و مسألة عجز الكلمات المزمنة..لكن حل هذه المشكلة عن طريق الإقرار بقصور الكلمات عن تجسيد الأشياء و التجارب و العلائق، يبقى حلا سهلا يلغي ضمنيا جدوى الكتابة و ضرورتها...أو يفتح الأبواب أمام كل طارق من بدون تمييز.
و في حالة شكري، فإن زخم أشياء عالمه الخاص الذي تبدو الكلمات قاصرة عن أن تطوله، راجع إلى أن الكاتب لا يحرص على أن يضع " مسافة " بينه و بين التجارب التي عاشها أو المشاهد التي رصدها..من ثم تلك السخونة المنبعثة من قصصه، و أيضا ذلك الانغلاق الذي يشبه الدوران في فلك واحد. و وظيفة المسافة التي يضعها الكاتب بينه و بين الأشياء، هي إفساح المجال أمام التجربة لتختمر و تتخثر و ذلك عن طريق إخراجها من الحيز الضيق لالتقاطها أو معاناتها، و محاولة تقليبها في تربة أخرى أفسح و أعمق، أي موضعتها في إطار أعمّ يلتقي فيه فهم المجتمع بفهم الأدب و تجارب الكتابة و أشكال التعبير..من ثم لا تظل الكتابة ناقلة، بل تغدو تعريفا ضروريا للواقع و تركيبا جديدا للأشياء من خلال تجديلها ( أي إضفاء طابع الجدلية على ما تلتقطه مبعثرا)..و يغدو واقع الأشياء، واقعا محلوما به و واقعا متخيلا و واقعا ممكنا و مستحيلا في آن.
نحس في قصتي " أشجار صلعاء" و " مجنون الورد"، أن شكري يطيل المسافة بينه و بين الأشياء من خلال تكثير الأصوات داخل النص (الشاعر الكسيح، المجنون..) و من خلال الترميز و تحميل صيغ قرآنية مضامين مختلفة..لكن هذا المجهود في الكتابة لا يتأسس على مراجعة نقدية لأشياء الواقع المعيش فتظل القصص مشدودة إلى "واقعيتها"، مكتظة بأشيائها (مثلما هو الشأن في قصة التابوت).

إلا أن قيمة قصص شكري تتجلى، كما قلت آنفا، في مقارنتها بقصص كتاب مغاربة آخرين، يستعيضون عن الفعل و التجربة و الأشياء بالتوهم و لألأة الكلمات و تحليل الذات...
و أعتقد أن التحولات الأخيرة في كتابة محمد شكري ستحقق ذلك " التوازن " الذي افتقدته بين زخم الأشياء ـ الذاكرة، و بين الكلمات ـ المسافة...و عندئذ تكون المواجهة بين " الهامشي" المنبوذ و بين المجتمع " الأساسيّ مواجهة عنيفة لا تكتفي بتقديم عناصر صك الاتهام، بل تسهم في صياغة الكلمة ـ الحلم ـ المعول لاقتلاع الحيف و الغبن، و تفتيت قيم التحريم و التقديس.
أعلى