كاهنة عباس - سيدي علي الريح

أ ولعنة، هي ، أن يكنّى شخص ما "بسيدي علي الريح" ؟ أم هو اسم لبطل عظيم الشّأن نسيه التّاريخ ، فلم يخلّد ذكراه ؟ أم يكون مستمدّا من الأساطير القديمة الّتي تروي تقمّص الرّيح لهيئة رجل غريب الأطوار، عجيب ؟ فلم توّج الاسم إذا ، بصفة السيّادة تبجيلا وتفضيلا للمكنّى ؟ ألم تكن عبارة "سيدي" حكرا على الأولياء الصّالحين ؟ ترى، هل للملعون أن يحظى بكلّ هذا ا المقام العالي ؟ لو كتب لسيدي علي الرّيح أن يوجد فعلا، من يكون؟ زاهدا؟ متسوّلا ؟ قدّيسا ؟ عالما ؟ تائها ؟ صعلوكا ؟أم مجنونا؟

كنت كلّما ذهبت إلى تلك الغابة الصّغيرة الّتي سميّت "بالمغّارة" والواقعة في مدينة" بنزرت" ، تساورني تلك الأسئلة حول اسم سيدي علي الرّيح ، كانت شجيراتها مائلة في اتّجاه هبوب الرّيح وكان البحر لا يهدأ أبدا والرّمال منتشرة خارج حدود الشواطيء ، حتّى كأنّ الرّيح باتت سلطانا يسيّطر على المكان، فيتحكّم في كلّ حركاته وسكناته ، هناك كنت أستعيد كلّ الحكايات الّتي سمعتها عن اسم سيدي علي الرّيح ، وكان خلوّ الشاطئ من البشر، يبعث في نفسي شعورا رهيبا بالقلق والوحدة ، فاستحضر هذا البيت لأبي الطيب المتنبي: على قلق كأنّ الرّيح تحتي أوجهّها جنوبا أو شمالا......
ومع مرور الايّام ، لم يلهمني مشهد المغّارة أيّة إجابة ، فكانت طواحين الهواء ، بدورانها في الفضاء وسط الحقول المترامية ، تجعل الرّيح حاضرة بقوّتها وغائبة بكيانها ، تحرّك الموجودات من حولها في تستّر وخفاء ، فتذكّرني بقصّة سيدي علي الرّيح ، ثم بدأ الاسم يتجسدّ في مخيّلتي أكثر فأكثر، بعد أن سمعت عن رجل يقرأ خطوط الكفّ ، يسمّى بسيدي علي الرّيح قيل لي إنّه " وين يدور الرّيح يدور"، فما إن هممت بمقابلته ، حتّى علمت أنّه رحل إلى وجهة غير معلومة ، كانت تلك مقدّمة مقال كتبته منذ أشهر عديدة ، لم ينشر بالجريدة الّتي أعمل بها،لأن النّص ليس مقالا بل هو وصف لخواطر عابرة ، فلم أكترث بالرّفض وقرّرت نشره بمجلة أدبيّة ، ثم نسيت المسألة وأصبحت لا اهتّم إلا بالمواضيع الاجتماعيّة.

وذات يوم ، كنت متأهّبة لمغادرة مقرّ الجريدة ، بعد أن انتهيت من كتابة مقال حول المدينة العتيقة في تونس، فإذا برئيس التحرير يطلب منّي الحضور بمكتبه ، بقيت أنتظر اللّقاء على مضض ، دون علمي بموضوع الدّعوة ، وعند حلول الموعد دخلت عليه في مكتبه ، فاستقبلني بحفاوة قائلا : "لقد نال مقالك الأخير نجاحا كبيرا عند القرّاء ، لذلك أقترح عليك موضوعا طريفا لكنّه صعب ، وأنا واثق أنّك ستقومين به على أحسن ما يرام ".

- إذا كان الموضوع هامّا ومجديا ،سأبذل كل ما في وسعي لينال اهتمام النّاس وإعجابهم ؟

- ما رأيك في كتابة مقال ، حول شخصيّة "سيدي علي الريح " ؟

باغتني اقتراحه ، فغادرت المكتب منحنية الرّأس وقد تملّكتني الرّغبة في الضّحك ، قائلة : "سي رضا"، لقد كتبت بعض الخواطر حول سيدي علي الرّيح ، لم تنشر ، فالتسمية لا تعني شخصا معيّنا ولا وجود لهذه شخصيّة إلا في الخيال أو في المجاز ، فأردف قائلا :" لا تأخذي الموضوع مأخذ الهزل، كنت أنتظر أن يباغتك تناول الموضوع من وجهة نظر واقعيّة ، فسيدي علي الرّيح الذي أحدّثك عنه ، ليس شبحا ولا اسما مجرّدا يطلق على أيّ شخص كان ، بل هو رجل يبلغ من العمر سبعين سنة تقريبا، يعيش في "باب سويقة" ، وقد علمت أنّه وحيد ، فقير، لا يستّقر بمكان ،لذلك أطلب منك تحرير مقال يصف ملامح هذه الشخصيّة ، في صيغة "البورتريه"، وإتمامه في ظرف ثلاثة أيام .

- "سيدي علي الريح" ، حيّ يرزق ، من لحم ودم ، يوصف في صيغة البورتريه ؟ الموضوع شيّق وممتاز، سأبذل ما في وسعي لإنجاز المهمّة ثم تابعت : ما اسمه الحقيقيّ ؟ وأين يقطن ؟

- علي بن عبد المجيد المرادي ويقطن بزنقة الاندلس رقم7 في المدينة العتيقة .

- سأعود إذا، إلى المدينة العتيقة ؟

- نعم ، لكن ، لا للبحث في تاريخها، هذه المرّة ، بل عن إحدى شخصياتها .

_ اتفقنا .

_ اتفقنا .

وصلت زنقة الأندلس الواقعة بباب سويقة ، أبحث عن البيت رقم7 فلم أعثر له على أثر ، توقّفت برهة من الزّمن أمام المنزل رقم 8 ، فألفيت قبالته البيت رقم 6 وإلى جانبه مخزن شبيه "بالخربة" المهجورة ، لا يحمل بابه المهشّم أيّ رقم ، استوقفت رجلا أسأله عن عنوان "سيدي علي الريح" ، فأجابني مبتسما : " كلّ من هبّ ودبّ على هذه الارض، يمكن أن يكنّى" بسيدي علي الريح" ، فعمن تبحثين ؟ فقلت : عن رجل يدعى علي المرادي، يسكن زقاق الاندلس رقم 7. فأشار عليّ بالخربة المهجورة ، ثمّ أخبرني أن لا أحد يسكنها ، سوى بعض السكارى الذين يأوون إليها في ساعات متأخّرة من اللّيل .

طفت بالمكان ، لا أعلم أيّة وجهة اتّخذ، فخطر ببالي، أن أذهب إلى المقهى الواقع خلف زقاق الأندلس، لأسترشد .

وعند وصولي إلى المكان ، اتّجهت إليّ أنظار الجالسين به، مستنكرة وقوفي على عتبته ، فغادرته بسرعة. بلغت منتهى الشّارع ، فشدّ انتباهي رجل مسن ، انحنى على طاولة صغيرة لبيع السجائر، نصبت على قارعة الطريق ، اقتربت منه متظاهرة بالشرّاء ، فقال: تفضلّي ؟

-هل لديك علبة ماربورو ؟ فمدّني بعلبة ، دفعت ثمنها ثم سألته : "هل تعرف رجلا يدعى" سيدي علي الريح"، يسكن بهذه الجهة ؟

- ما اسمه ؟

- رجل يدعي "علي الرّيح" ؟

- "الدنيا فيها الموت" ، ابتسمي يا ابنتي ، ولا تقلقي ،لا شيء يستدعي غضبنا .

- لست غاضبة ، لقد قضّيت ساعة كاملة ، أطوف بهذا المكان ، أبحث عنه ، لكن دون جدوى ،

فهل تعرفه ؟

- لا، لا ، أعرفه ، هل أنت متأكدّة من اسمه ؟

-نعم ، متأكدة ، أشتغل بالصّحافة ، قدمت لإجراء حوار معه ؟

-ومن أرشدك إليه ؟

-رئيس التحرير، يقال أنه شخصيّة غير مألوفة.

- سامحه الله، كلّنا "سيدي علي الرّيح" . ثم تلّهى عنّي فجأة ، وهو يخاطب رجلا وقف إلى جانبي لشراء السجائر ، فتركته وانصرفت.

عدت إلى المقهى، ووقفت على بابه ، دون أن ألتفت الى الجالسين ، وأشرت بسرعة على النادل أن يأتيني، ففعل، وحين اقترب منّي قال بلطف : هل تحتاجين الى مساعدة ؟

- نعم، أبحث عن رجل يسكن بهذه الجهة ، ويدعى "سيدي علي الرّيح" .

- سيدي علي الرّيح ؟ نعم ، أهلا وسهلا بك ؟ ما الموضوع ؟

- أ تدعى سيدي علي الرّيح ؟

- نعم ،أحيانا .

_ عفوا، أبحث عن رجل يدعى علي المرادي ، يقطن بزقاق الاندلس ويكنّى بسيدي علي الرّيح .

- حسبت أنّني المقصود ، فالاسم منتشر، يختفي ليعود ، يحمله الصغير والكبير ، والفقير والغنّي ، تبحثين عن رجل يدعى علي المرادي يسكن بزقاق الاندلس، أليس كذلك ؟

- نعم .

- لقد كان واقفا في آخر هذا الشارع يبيع السجائر .

- قابلته منذ حين، وتحدّثت معه قليلا، يا لها من صدفة !

- إنه لا يستقرّ بمكان ، رغم كبر سنّه ، ليس له صاحب و لا حبيب ، أنصحك : لا شيء يرجى منه ، "ربّي معاه ".

- هل لديه مشاكل مع النّاس؟

- أبدا ، لم أقصد ، لا يهتّم بمن حوله، غير عابئ بهذه الدّنيا، أظّنه وحيدا غريبا ، مشردّا" ولد باب الله".

- شكرا لك، سألتحق به .

- أرجو لك التوفيق (بنبرة لا تخلو من الاستهزاء )ومقابلة سيدي علي الريح ذاك الرجل الذي يقطن بزقاق الاندلس .

تركته وسلكت آخر الشارع حيث قابلت علي الريح ، فوجدت الطاولة فارغة ، مكثت أنتظره برهة من الزمن، فطال انتظاري ، لكن دون جدوى .

استعدت ملامح "علي الريح": العينان لوزيتان ، والأصابع طويلة ،أنيقة ، تجاعيد تغطّي الوجه حتّى كادت تحجب سماته ، بدا لي لاولّ وهلة كأنّه غريب عن البلاد ، مهاجر وفد إليها من الشرق أو من الغرب ، قد زادت ابتسامته العريضة الساخرة من علامات غربته ،فقيرا ، مرهقا ، كأنّي به زاهد في الدّنيا بما فيها وما عليها ، فاستغربت من اختفائه فجأة ، بعد أن علم برغبتي في مقابلته ، كأنّ الشّهرة ببهرجها لا تعنيه ، فلم يزدني ذلك إلا إصرارا على لقائه.

وفي اليوم الموالي ، عدت في الصّباح الباكر إلى باب سويقة أوقفت سيارتي قريبا من بيت "علي ريح", ومكثت أراقب عن كثب العابرين بتلك الجهة ، وقد بدأ النشاط يدّب في زقاق الاندلس ، حينئذ لمحت علي الرّيح، يمرّ بالقرب منّي عائدا إلى بيته، نزلت من سيارتي، ثم طرقت بابه، وكان موصدا، انتظرت قليلا لكن لا من مجيب ، فدخلت البيت ، وجدت نفسي في سقيفة قديمة قذرة ، مليئة بقوارير خمر فارغة، تفضي إلى وسط دار لم يفقد رونق جماله رغم إهماله ، رصعّت أرضيّته بالرّخام الأبيض القديم، وجدرانه بالجليز الأزرق المزركش، تحيط به نوافذ تزّينها أشكال هندسيّة من الحديد، كانت جميع غرفه مغلقة إلاّ غرفة واحدة ، تقع بالجهة اليمنى من السّقيفة ، ,كم كانت دهشتي كبيرة ، حين وجدتها خالية ، ناديت من عتبة وسط الدار,'علي" ,يا"علي الريح" ، ولا من مجيب ، إذ ذاك عدلت عن دخول الغرف الأخرى ، ،ثم غادرت المكان، بعد أن دار بخلدي أن دخولي الى بيت رجل لا أعرف عنه إلا القليل قد يعرّضني الى عدّة مخاطر .

جلست بمكتبي، أترشّف قهوتي بهدوء ، أنظر إلى صفحات أوراقي البيضاء دون أن أخطّ حرفا واحدا حول موضوع علي الرّيح ، ثم أعلمت رئيس التحرير أنّي لم أكتب المقال، حتّى لا يخصّص له صفحة بالجريدة، وطلبت منه إمهالي بضعة أيام أخرى ، أجابني بنبرة لا تخلو من البرود :هل استعصى عليك الموضوع إلى هذا الحدّ ؟

_ لا، إنه لا يستقرّ بمكان ، رغم ما بذلته من جهد لمقابلته .

- لا مانع عندي من إمهالك نفس المدّة .هل يكفيك ذلك؟

- نعم .

ثم تراءى لي أن أشرع في وصف بيت علي الرّيح ، غرفة نوم مفروشة بزربية قديمة ، يتوسّطها سرير رمي عليه لحاف رثّ بال ، خزانة عتيقة ، ومطبخ أغلق بابه ، برد شديد القسوة ، يلّف أنحاء الدّار ، ظلام ، قوارير خمر فارغة ، لازوجة هناك ولا أبناء ، ولا دفء ، ولا رائحة أكل ، ولا أثاث .... يا إلهي ، كيف غادرت المكان بتلك السّرعة ، خشية أن يصيبني مكروه دون أن أتفطّن إلى ما يعانيه الرجل من فقرو وحدة ؟ وضعت قلمي على طاولة مكتبي، فتذكّرت قولة "علي الريح" يوم قابلته : " الموت في الدنيا"، فعقدت العزم على العودة إلى بيته مساء ، حاملة معي غطاء وثيرا و معطفا ولباسا ،جمعتها في كيس كبير أسود اللّون ،وحين وصلت إلى الدّار، وضعته في أحد أركانها ، وهممت بمغادرة المكان ، حينئذ سمعت علي الرّيح قائلا : "مشكورة أنت على هذه المساعدة ، فالتفّت، فإذا بي ألتقي به أجبته: "ذلك هو واجبي" .

- لست "سيدي علي الريح" ولا أحب أن أكنّى بهذا الاسم ولا أن تنشر سيرتي في الجرائد ليعلم القاصي والداني الخراب الذي حلّ بحياتي ، ولا أريد أن أسيء إلى سمعة أقاربي وعائلتي وأبنائي.

- معذرة ، من حقّك أن تكون متكتّما، متحفظا لن أجري معك أيّ حوار دون موافقتك . صمت قليلا ثمّ اتّجه إلى إحدى غرف وأخرج منها كرسيين ثم دعاني الى الجلوس قائلا : لا ، لست موافقا، أردت أن أعرف فقط ، ما الذي جعلك تصّرين إلى هذا الحدّ على مقابلتي؟ أ لمعرفة أسباب الكنية ؟

_ نعم ، إنّه فضولي وشغفي بعملي .

- الحكاية بسيطة ،وبسيطة جدّا ،كنت طفلا صغيرا أقضّي ساعات طويلة في اللّعب خارج البيت وذات يوم تهت فتأخّرت عن العودة الى البيت ، فخرج أهلي للبحث عنّي ولما نفذ صبر أمي وهي تنتظر رجوعي قالت : هل أصبح ابني "سيدي علي الريح" ؟ لم يعثروا عليّ إلاّ مساء منذ ذلك اليوم انتشر الاسم بين إخوتي ثم أصدقائي ثم جيراني، وتواصلت حياتي بعد تلك الحادثة دون أن استقرّ ببيت أو ببلد أو بمكان ، فلاحقني الاسم أينما حللت ومازال يلازمني إلى يوم النّاس هذا ،حتّى حسبته لعنة ، تلك هي أسباب الكنية .

رأيته يغادر مكانه ويأخذ الكيس الاسود ويضعه أمامه وهو صامت ثم يواصل حديثه قائلا :" اسمي الحقيقيّ هو علي بن عبد المجيد المرادي ،كان أبي من أعيان البلاد من أصل تركي ، و كان هذا البيت جزءا من بيتنا القديم ، خصّص لاستقبال الأقارب والضيوف ، يفتح بابه في الأعياد والمناسبات حتّى يكون ملجأ للفقراء فتقدم لهم مآدب الافطار في شهر رمضان، ثم تنهدّ وهو يتابع : إيه الدنيا دوارة ...وغدارة......."مسكين اللّي يمنّها"... كانت تملأ هذا الفضاء روائح المدينة العتيقة ، بتوابلها وبخورها وأفراحها" يا حسرة " فلم تفارقني أبدا ، حتّى بعد هجرتي إلى فرنسا وأنا أجوب أروبا ، آسيا ، أمريكا في رحلات قصيرة ..."الشباب غرور" ، أي نعم "غرور" ( صمت برهة ) قبلت أن أتحدّث معك ، لانّي رأيت فيك حماسا كبيرا ذكّرني بشبابي ، بسنوات التيه و الجنون ، ففي ذلك الزّمان البعيد ، لا شيء كان يثنيني عن عزمي ، ولا قوّة في العالم كانت قادرة على أن تصدّني عن تحقيق أهدافي ... عندما أحجم أبي عن التكفّل بمصاريف دراستي ، قمت بأشغال عديدة، ظرفيّة : بائع ، خباز، حارس ..... ثم اشتغلت وسيطا تجاريّا فدرّ عليّ عملي مالا كثيرا، وتزّوجت من فرنسيّة اسمها "ماريا"، أنجبت منها طفلين : سندة وسامي ..... وذات يوم قرّرت مغادرة فرنسا والعودة إلى تونس...فافترقنا بعد أن رفضت ماريا أن ترافقني ، قاطعته سائلة : "هل كنت تبحث عن شيء أو تطمح إلى تحقيق هدف ما أو أمنية ؟

فتكلّف الابتسام قائلا:

- بصراحة ، لا أدري ، كنت أبغض القيام بالعمل نفسه منذ صغري ، لا أطيق الروتنيّة ، أغادر حلبة اللّعب بعد دقائق ....للبحث عن لعبة جديدة ، لا أحبّ الاستقرار طويلا بالمكان نفسه ، ذلك هو طبعي لم تغيّره الأيام ، رغم كل ما عانيت ، ثم استطرد : كنت أحلم ،في صباي أن أصبح من كبار الأطبّاء أو الباحثين ، ثم أدركت أني سأقضي أجمل سنين العمر في الدّراسة والبحث فغادرت الجامعة ، أجوب الأقطار والبلدان ، دون أن أعمّر في أيّ مكان لقلّة مالي ، فبات هدفي أن أصبح من الاثرياء ....في ما بعد، لا أدري ، إن كنت أبحث عن شيء آخر، سؤال لم أطرحه على نفسي قطّ ....لم يسعفني الحظّ ..نعم لم يسعفني الحظّ، لأحقّق أحلامي.

- أتعتقد أنّ للحظّ تأثيرا على حياتنا ؟

- لا شكّ في ذلك .

- لست متأكدّة.

-بعد عودتي إلى تونس ، اشتغلت بالتجارة، كان لي مطعم ومقهى ، لكنّي تعرضّت ذات ليلة إلى حادث سيّارة، كاد يؤدّي بحياتي ، أقعدني لمّدة أشهر ، وبعد ذلك حدث ما حدث .... ، أجريت عمليات جراحيّة عديدة...بعت المحلّين بعد أن تدهّورت حالتي الصحيّة وعجزت عن العمل...وبعد سنتين تقريبا أفلست.. لم تتحملّ زوجتي الثانية "سعاد" تلك الظروف ...... فلم أصبر عليها طويلا فافترقنا ، وشاءت الاقدار أن أعود إلى هذا البيت لأنّه كلّ ما بقي لي ( دار الجدود) ، لقد كان وسط الدار مكان زهوي ولعبي وحبوري عندما كنت صبيّا صغيرا،( ثم صمت قليلا وقد بدا شارد الفكر) هذه قصّتي دون ذكر التفاصيل الّتي قد لا تسعها الكتب ولا حتّى ذاكرتي ....

- ربّي يصبّرك ....

- لم أندم على شيء ، ولا حتّى على خروجي ليلة وقوع الحادث ، ولا على عودتي إلى تونس لا على طلاقي ولا على أيّ شيء ....

- هل يزورك الاقرباء والاصدقاء ؟

- شقيقتي "فاطمة" أرجو من الله أن يحفظها ، عرضت عليّ العيش معها ، لكنّي رفضت....

- الزّمان ما فيه آمان .

- صحيح ، هذا الشيخ المعوز الجالس أمامك ، رأى من الدنيا أطيبها ومن النساء أجملهنّ ومن اللّباس أفخره ومن المال أوفره ، وما هي النهاية حسب رأيك ؟ أليست كفنا زهيدا وقليلا من التّراب ؟ لذلك لم أندم على شيء ..تأكدّي أنّ السّعادة لمحات قصيرة تمرّ بسرعة البرق فتترك وراءها ذكرى أصوات و خطى وآهات ، وروائح ،هي لمحات شبيهة بالنّجوم الآفلة ، إن كتب لها الدّوام تحولّت الى ضجر إلى قلق ،تلك هي في آخر المطاف حصيلة العمر .

- أشكرك على هذا الاستقبال وعلى هذه الثّقة ، أتمنّى لك الصّحة والعافية . ثم قمت من مكاني

- الدّنيا فانية ، وهي حقيقة ثابتة نحاول أن نتناساها, سأهب هذا الكيس لمن هو أحقّ منّي بالعون والمساعدة .

- هو ملك لك ( بنبرة لا تخلو من الحرج) ، جميعنا عرضة لتقلبّ الدّهر ، قد نحتاج يوما ما إلى مساعدة الآخرين، أنا التي تشكرك على رحابة الصّدر والثّقة ، إلى اللقاء.

- إلى اللّقاء، وحظّا سعيدا .

مزّقت المسوّدة الّتي شرعت في كتابتها حول "علي الرّيح"، ثم أعلمت رئيس التحرير أنّي لم أجر معه الحوار ، سمعت صوته الغاضب يردّ :" ،كنت أنتظر منك أن تسلّمي المقال للنّشر غدا، لقد طلبت مهلة ثم تراجعت ، لم تف بوعدك ، كنت أنتظر منك الكثير، لكنّك خيّبت ظنّي بك ، سأتصرّف في الصّفحة المخصّصة له .

- رفض إجراء الحوار،لانّه يعاني من مشاكل جمّة : الفقر ، الوحدة ، المرض ، الشّيخوخة ، وذلك من حقّه .

- أسباب رفضه ليست مهمّة ، عليك الاتّصال بي غدا عند وصولك إلى مقرّ الجريدة، حتّى نناقش المسألة .

- حسنا ،الى الغد ،إلى اللّقاء" .

- إلى اللّقاء" .

انزويت في ركن من البيت وأنا أستعيد كل ما دار بيني وبين علي الرّيح ، في ذلك اللّقاء الذي جمعنا، كانت نبرة صوته المنخفض المنكسر المهزوم تدوّي في أذني: الدنيا دوّارة ، الدنيا غّدارة ، "مسكين إليّ يمنّها" ...........فتراءى لي أنّ كلّ شيء يتهاوى وما عادت تعنيني مقابلة رئيس التحرير، المشاكل المهنيّة، المقال ، الشّهرة، المال ، وحتى البيت والزّوج و الابن كلّ شيء تبخّر ليتحولّ إلى سراب ...

ولم يبق في ذاكرتي ، إلا صوت "الشيخ العفريت" النابع من أعماق الرّوح ، وهو يغنّي بلحن بديع : "في البريمة ، الايّام كيف الريح في البريمة ، ليلي ، ليلي، يا عين ، الايام كيف الريح في البريمة ، في البريمة، شرقي وغربي ما يدومش ديمة ، ليلي يا عيني ، الايام كيف الريح في البريمة ...........ليلي يا عين،صابرة عزّامة يا عيني كوني صابرة عزّامة ، ليلي ليلي ، يا ليلي ، يا عيني كوني صابرة عزّامة .....يا عين . فإذا بهبوب الرّيح خارج البيت ، يزيد من جمال صوت المغنّي ....

كاهنة عباس كش مات



...

كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى