سيدة بن جازية - الرؤيا..

غادر الجميع القاعة بينما كنت أمسح دموع فرحي، انتهت مراسم التوقيع وتحصلت على جواز العبور إلى ملكوت الخيال والجمال والبهجة، أخذت قبضة من تراب نديّ، قبّلتها ثم ضممتها إلى قلبي، عنَّ لي أن أرفعها عاليا إلى جبيني تمتمت بعض أدعية وهممت بغلق الكتاب بعد آخر تصفح لوريقاته،فبدت الأحرف تتراقص أمامي و المعاني تغازلها على وقع سيمفونية عزف رباني، انتشيت جذلى كفراش الرياض...
بإشارة من الحارس فهمت أنه قد حان وقت المغادرة بيد أن البرق خطف بصري مصحوبا بقصف رعد وزمهرير وانشقت الأرض و السماء في هطل ...ما هي إلا لحظات حتى وجدتني جنبا إلى جنب مع والدي أقبّله وعيناي تبحثان في زوايا مكانه الرحب الغريب تحت الثرى، عالم جديد غير الذي أعرفه، و أكتب عنه بإسهاب لا يعجب القراء ، كثير الضياء والبهاء والنقاء اتضحت كل الصور الملغزة و المشاهد المكثفة .

في تلك الآونة تكاثر الوافدون و الهاربون وجوههم مستبشرة ضاحكة ، هاماتهم عالية متطاولة وأبصارهم شاخصة
بين الحضور و الغياب، بين العراة و الكساة، بين الوعاة و المذهولين، بين الموت و الحياة.... و أنا واجمة، تبادلنا الإيماءات والايحاءات و النظرات و العبرات ،تناهى إلى مسامعنا صوت ارتدادي و ترتيل و ابتهال و تضرّع و خشوع إلاهي... بدت كسكرات الكون بين الأبدي و الأزلي
صفير القاطرة الأخيرة أيقظ الجميع من غفوة الشرود و لذع الردود لكنّ والدي اختفى من جديد و أنا في أمس الحاجة و الشوق ،

بحثت عنه في كل مكان، في كل زاوية من مكان يعج بالخلق و الغرائب ،تصفّحت الوجوه، فتّشت بين الصفحات لكن لا أثر له. طويت الكتاب مسرعة ، حاولت إعادته الى الحقيبة السوداء بعد هذه الرجة و الانصهار لكن تلك الصورة المخفية سقطت فجأة معبّرة عن كمونها، سرى دفء بين أجنحتي المقصوصة فرغبت في التحليق ثانية لكن الوقت قد حان لمواصلة الرحلة.

أخذت أنفض عنها الغبار ثانية قبّلته على جبينه الوضّاح وأنمته كطفلي الصغير في حنوّّ بين الطيات ...
لا دموع بعد اليوم سأظل أكتب عنه كل الحكايات والقصص وأظل أتوهّم أنه يقرأ كل ما أكتب مثلما كان يفعل أيام الصبا وتهزّني الأشواق ويهزّني الحنين إلى ضمة صدره الواسع الرؤوم ، سأرفع يديّ للدعاء مثل ما كنت تدعي لي" وفقك الله وزادك وقارا يا زينة الأقمار " كفكفت دمعي بكمي المتهدل و تذكّرت أن الله لا يكلّف نفسا إلا وسعها ، فما باليد حيلة إن لم أجده.

استعدت رشدي بعد أن ارتجفت يدي لحظة توديع ذاك الأسى المرير. فسقطت حبات مسبحتي متناثرة في القاعة الفسيحة تسارعت الدقات محاولة إمساك الواسطة التي استلهم منها كل ثقتي بنفسي ، تأسّفت كثيرا و أنا أجاهد تجميعها بصعوبة ،بين الكراسي تكرر صوت الحارس يستنهضني فأشرقت روحه توصيني خيرا بكل الحبات التي ملأت كفي، اكتفيت بذاك النصيب و أنا أحدث نفسي راضية
إن الأمل آت ، لا ريب في ذلك الصراع ما دام الإنسان يحاول جاهدا كسر السرمد. عقّب السائق و أنا أروي له هذياني
"لن تضيع أية حبة من مسبحتكم ما دمت تحتفظين بالواسطة بين مقلتيك "
شعرت بالسعادة واسترجعت ثقتي بكل ما فعلت هذه الأمسية بعد أن تعذّر الكثير عن الحضور متعلّلا بكثرة المهام في ذاك الموعد و استعجلته العودة.

ســيــدة بن جــازيــة تــونــس
  • Like
التفاعلات: خالد السيد علي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى