إبراهيم محمود - قصيدة كونية مكثفة في يوم عالمي البيانو الشعري

في يوم الشعر العالمي، الذي يصادف الجمعة القادمة 21 مارس، في اليوم العالمي للشعر، في الشعر العالمي اليوم، ثمة ما يجعل العالم قصيدة كونية، عالمية، تتهجى مختلف اللغات واللهجات، إنما الأهم، هو أنك ترغب في رغبة الشعر، أن تصيّره أبعد من حدود اللغة وصولاً إلى الإنسان أبعد من الحدودي فيه، إذ في البدء، كما يُتردد كان الشعر، ولعل الشعر يكون الضمان والشاهد على هذه الطفولة الكابحة لجماح من يريد الإقامة في الطبيعة، في الفضاء الفسيح، في اللاتناهي بالمفهوم القممي للشعر .
وفي هذا اليوم المسمى وهو يستقطب كل الأيام، يكون الشعر قد أودع يخضوره الضوئي الروحي الخاص، كيمياءه الجمالية في كامل أنساغ شجرة الشعر الكونية، ولكم تلزمنا هذه .
هنا يحضر الشعر بمفهومه البيانوي، البيانو الشعري، وليس البيان طبعاً، وما فيه من إراقة دم الشعر وتجييره اسماً ومسمى، هو أنك تقيم علاقة شمولية معه، كل جسمك موهوب للبيانو، العزف باليدين، والتحرك في الاتجاهين، دون افتراق اليدين، وتكون الملامس ببياضها وسوادها، حاضنة الألوان ومسمياتها، ولكل ملمس نكهته، وبراعته، كأن هذا الطباق مأخوذ بحرفيته الموسيقية البيانوية: اليدان كلتاهما، الأصابع كاملة، العينان كلتاهما، الأذنان كلتاهما، القدمان في الأرض، الرأس متجاوب، الجسم مأهول برهبة البيانو والنابض في الداخل، والقواعد ثوابت متحركة، ملء المكان والأنظار والأسماع، ربما هي مقاربة أخرى للشعر، كما هو السعي إلى التعامل معه، بوصفه قدرنا الجميل في تنقية حسنا الإنساني بإشارته اللماحة .
البيانويون كثر بحضورهم، قليلون بإحصائهم، كما يعلمنا تاريخهم المتنقل عبر الحدود، كما هو وضع شعراء لهم انتماءاتهم القومية، لغاتهم، لكن المقتفى في شعرهم ما يخص كل اللغات:
شاعر "جلجامش" المجهول، هوميروس، المعرّي، دانتي، رامبو، بوشكين، بايرون، لوركا، أنسي الحاج، ماياكوفسكي، نيرودا، رفائيل إلبرتي، عبدالوهاب البياتي، يانيس ريتسوس، ناظم حكمت، برايتن برايتنباخ، رسول حمزاتوف، محمود درويش، الجواهري شيركوه بيكه س . . لكل منهم سلّمه إلى السماء، وأصوله في الكرة الأرضية، جسده بألف إصبع وإصبع على ملامس البيانو الكوكبي، باعتبارهم روحاً واحدة .
لا قياس لمعرفة الشعر، سوى أن المقدّر لنفثه يعيشه دون أن يبوح به، فالشعر إقامة صامتة في جسد كامل، وكل تعبير مجاز، ولهذا فإن وراء كل شعر ثوري، وعظيم مجانين شعر خاصين .
في الشعر، تعلِمنا الإشارة بما هو محمول في الداخل: بالمرسل والمتلقي، ليكون الأداء على قدر الحمولة الفنية، ليكون بالتالي هذا الجسد المركّب: صنيع الفاعل، وما صار باسمه، ليكون هذا المتشكل، وهو لا يني يمارس تشكيله من خلال المنشغل به، بوصفه العالم الحسي والرمزي، أي ليكون هذا الشعر لافتاً الانتباه اعتماداً على القوة الدلالية والكشفية لمعناه .
شعر هو الجسد، بالقدر الذي يتمكن من تكوين علاقاته مع الخارج، وقد استطاع أن يبصر طرقه الألف، إن تجاوب مع اسمه الفعلي، كما هو تاريخه المفتوح على جهات شتى، أن ينبثق من داخل غير نافد، إن أريد لاسمه أن يكون موهوباً للمنشود: الأبدية، ليكون الذي يتنفسه، أو ما يصله من شهيق وزفير، ذلك المؤصَّل فيه مذ وجد الإنسان، وهو يصاهر العالم، أو يقيم علاقات لا تني تتناسل بألوانها وأصواتها وأجناسها وكائناتها، تبعاً للمودَع فيها جمالياً .
في الشعر أعمار متفاوتة، أصوات متفاوتة في إيقاعها الشعري، وحده الإبداع محدّد العمر ومعاين الذات اعتبارياً، إنها طباقات في المرتقى الشعري، تنافس، صراع محتَسب وإن لم يعلن عنه، كل شاعر فيض صراعات مع وجوه ذاته مع مكانه الشديد الانقسام على اسمه .
كل شاعر هو وليس هو، نظراً لشهرته الواسعة وغير المسبوقة مقارنة بسواه، في حِمى التنكر لذاته، نظراً لاسمه الذي لم يقيَّد بعد كشاعر من وزن مختلف، كل شاعر مزدحم بتخومه وعلومه ونجومه:
أما التخوم فتلك التي لا تثبت أمام "قدميه" الشغوفتين بجديد العالم، بجغرافيا غير مطروقة بعد .
أما العلوم فهي التي يحمّلها قوله الشعري، علوم خيالاته، حالاته، مرجعياته، رموزه المشرقة وعلاماتها الفارقة .
أما النجوم فإنها آفاقه، استلهاماته، حراك الكهانة الشعرية بين جنبيه، ولعه الوجدي بالأعالي، تبعاً لبراعته شعرياً .
إنها اللعبة الأبدية: الجميلة والفاتنة، تلك التي تدور رحاها بين كل من الشاعر والقارئ بين الشاعر وما يتأمله في قارئه المتخيَّل، قارئه الذي يكون على وفاق مع تطلعاته، مع الأبعد مما لا يسمى فيه، لعله يتحفز أكثر في قول الشعر، ليشعر بمتعة وجوده في العالم، العالم الذي يكون في انتظار صوته، تنويره الذي يحمل دمغته اللافتة .
والشعر لاهٍ بمن يرفعون من مقداره عبر حضور شخصي لهم، متباهٍ بقوته التي يعتد بها، حتى فيما يخص هذا الوحش النبيل الذي تفاخر به "جان جاك روسو" في مذهبه الطبيعي، بدا ساخراً من مبتكره "القادم/الخارج" من المدينة، دون أن تفارق هذه مخيلته، إذ ليس من شاعر إلا وفي إثره ما يقيده إلى صخرته الصلبة: الصلدة والناتئة، وما يعنيه الشعر يظل في منأى عن الإحاطة به . أليس المجاز شاهداً على هذه اللعبة التي لا تهدأ داخلنا؟ أن نكون شعراء وأن نسمّي أنفسنا شعراء، وأن نكون في ظل تاريخ آخر هاربين من تاريخنا المحدود بلحمه ودمه وشكله، ناشدين لا تناهي الفضاء تحت وقع أصداء الشعر من الجهات قاطبة . إنه موحّدنا فيما نحن عليه من ضعف، معلمنا فيما نبتغيه حضوراً أبهى وأشهى وأبهج كونياً، إنه "أي الشعر" مشتت شملنا لحظة التفكير في أي وحدة تلغي المختلف فينا كما هو خطه البياني المتبع والمشار إليه، لهذا لا يصلح أمر الشعر إلا الشعر نفسه ولا يرمّم الشاعر ويبت في أمره ويقرّر مصيره إلا ما يكونه الشاعر بالذات وقد تكاثرت أسماؤه، ما يكون الآخر وقد تذرر هيئات وقد امتلأ أوصافاً، وما على النقاد في تنوع أهوائهم في المكاشفة والمقاربة، إلا تحرّي هذا الشتات الأثير .
كان الفرنسي "غاستون بالشلار" يحلم في أن يكون شاعراً، رغم ألمعيته القائمة في (جماليات المكان)، وعناصر الطبيعة التي استحالت مؤلفات متكاملة على يديه كثيراً وكتاباته المتعلقة بنظرية العلم (الابستمولوجيا)، لعله كان يعتبر الشعر في نعمة الخيال الخاصة به جماحَي العلم، ولهذا تتخذ كتاباته طابعاً من الشعرية المتدفقة شفافية، وأن يقول في كتابه السالف الذكر (إننا لسنا مؤرخين حقيقيين، بل نحن أقرب إلى الشعراء، وقد تكون انفعالاتنا ليست إلا تعبيراً عن الشعر الذي فقدناه)، فإنما ليمنح الكوني شعرية المعنى المثلى .
إن شاعراً وناقداً شعرياً من مستوى "أوكتافيو باث"، عندما يقول (والقصيدة، التي هي مرآة أخوة الكون، هي نموذج لما يمكن أن يكون عليه المجتمع الإنساني، فأمام تدمير الطبيعة تقدم القصيدة البرهان الحي على أخوَّة النجوم والذرات الأولية)، أظنه يدرك مخاطر المعاش، وما يتهدد الشعر ومبررّات التهديد، انطلاقاً من العنصر الفينيكسي في أصل الشعر، وقدرته على امتلاك العدة الضامنة لوجوده، وتلك قاعدته في التشكل الدائم .
إن صرخة الإعجاب أو الدهشة التي تعقب قراءتنا لنص شعري، ليست أكثر من إطلالتنا على عالم يضاء بغتة، على داخل نصطحبه، أو عالم نعيشه نعجز عن رؤية ثرائه، وكلنا لوعة وشغف أو لهفة للتعرف إليه، وما يحدث هو اكتشاف اللصيق بنا، والمجهول من قبلن، شعورنا بمدد العالم وروعته اللاحدودية، ونسبنا الإنساني الذي يستنار جرَّاء هذا المعلم الشعري، هذا الشعر الذي يتعزز بمناقبية نورانية ترتحل بنا إلى الأجمل والأمثل، وذلك من خلال تأليب الذات على الذات، من خلال "الأينية" التي تفعّل الانقسام في الذات هذه، لتتم معايشة الجديد دائماً .
ما أكثر أسماء الشعر، وما أصعب النظر فيما جاءت به شعراً، وفي الآونة الأخيرة بالذات حيث انتفت المحاكاة، وبدت الثقافة الفاعلة في صنعة الشعر هذا شديدة الالتصاق بذات تعزل نفسها عن أغلبية المرجعيات، وربما كافتها، نوعاً حازماً جازماً من التحريض لإعلان سمة/صفة التفويض، والتعريض بما عداها تصريحاً أو تلميحاً على أن السالف لم يعد قابلاً للأخذ به في آبائيته الخانقة، ليكون الصوت همساً، أو بوحاً تكون قاعدة الفصل فيها نسفاً لكل قاعدة، فما يقرّأ هنا أقرب إلى "اللانظام" رفضاً لكل نظام، أي في عماء العالم المفترض وتوخياً لعهد جديد، لعلها شارة البدء في التحول أو ضرورته، حتى لو كان ذلك من قبيل الإعلان، وتأكيد الاختلاف الاسمى .
هو بعض من بعض في بعض من مزايا هذا الشعر، وسعي إلى معايشته خميرة الأيام الأخرى، أعني بذلك، ما يجعل اليوم الكثرة النوعية، وباقي الأيام العددية منها، وإن شئت فالقلة القليلة . وحدها أرواح الشعر تصغي إلى صوت كهذا، باستقصاءاته الأربعة الخاصة طبعاً .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى