محمد فيض خالد - حُبٌّ بلا أطراف...

ظَلَّ عمره يُكابر ، لا يَعترف بَفارقِ السِّنِ بينهما ، هو شابٌ يَافعٌ على أعتابِ الجَامعِة، وهي فتاةٌ غَضَّةٌ لم تُوِّدع سنواتها العشر، ابنة عمه ذلَك الرجل الصَّامت الذي قالَ يوما في حَسم ٍعلى مَلأٍ من الأقاربِ:" هي له وهو لها لن يُفرقهما إلا الموت" ، لا يقبل الرجل رأيا ولا يتراجع عن قَرارٍ ، يرى ابن أخيه أجدرَ بابنته ، لم تجد زوجته العنيدة من حيلةٍ غير الصَّبر ، بعد إذ فشلت في التماسِ كُلّ ذريعة تثنيه عن عَزمهِ ،كانت تمَطّ بوزها حِينَ رؤيته ،ترميه بنَظرةِ تأنيب من عَينٍ حَمئة ، مع الأيام صَارت المرأة عقدته الكَؤود ، تناوبَ على إرضائها بكلِّ وسيلة ، تمنَّى لو يحظى عندها بقبولٍ، بيد أن سَعيه خَابَ وذهبت أمانيه أدراج الرياح، فهي لا تتورع أن تُعلِن رغبتها وتذيعها عن عَمٍد بينَ نساءِ العائلة، أن ابنتها لن تتزوجَ سوى وجيٍها من أبناء عمومتها أصحاب الأفدنة والمال ، فمُحال أن تُلقي بهذه الزَّهرة البَّرية لتَحترق مثلها في أفرانِ الفقر .
لم يفقد الأمل ولم يخيب رجائه ،أن يجدَ مَأمنه يَوما عند المرأِة العنيدة ،أما ابنة عمه فكانت فتاة غريرة لا تَعرفُ من إشاراتِ الُحب شيء ، حَتَّى وإن بدت في هيكلِ الجمال النَّاضج، لا يدورُ بخُلدها غيرَ كَلماتِ والدها ترغبها فيه، لحَظتها تَحمرّ وجنتيها ، لكن سُرعان ما ينطفئ لهيبهما وهي تَصطدمُ بتعَنيفِ أمها ، وترهيبها حَال اقتربت منه ،لا يستنكف صاحبنا عن مُلاطفِة فتاته بَينَ حِينٍ وآخر ، اقترحَ على عمه أن يستذكرا دروسها سَويا ، انفقَ أغلبَ وقته معها ، لازمها كظلَّها ، شعرت أثنائها بشيءٍ من الانجذابِ وسُرَّت لحديثهِ ،لكن رقابة الأم التي فرضتها عليهما ،وأختها الصُّغرى التي تُسجِّلُ كمُنكرٍ ونكير تعد عليهما أنفاسهما ، قتلت هذه المشاعر وأخمدت جذوتها.
أمَّلَ عمه في الأيام خيرا ،أن تُغيِّر الواقع المَشحون ، وأن التَّعودَ سيزحزحُ من عِِناد الزوجة ، ويُسلمها لأن تَرضخَ ، في هَاتهِ الأثناء كَانَ قلب المرأة بركان يَغلي يُوشك أن يَنفجر ، مارست معه صنوف الضَّغطِ ، تُذكِّرهُ في لحَظاتِ صفوهما ميراثه المَنسي عند أخوتِه ، يُلجِمُ حِيلتها بابتسامٍة باردة ، يعَقبها بردٍ حَازم :" نحنُ لا ينقصنا شيء، هؤلاء فقراء أولى بالإحسان "، مَرَّت الأيامُ كأقسى ما يكون على الفتى ، الذي لاَم والده فيه إصراره على المَذلةِ ، انقضت سنوات دراسته الجامعية ، كانت فتاته قد فارت فورتها ، بعدما تَلبَّست بجسِد أثنى مُكتملة الأنوثة ، مُستوفية الغواية ، انجذبَ لحسنها كلّ خَاطبٍ يُقدِّرُ الحسن ويهوى الجمال.
واظَبَ على مَضضٍ الحُضور لبيتِ عمهِ ، استماتَ لأجلِ حُبِه ، قَاومَ غطرسة المرأة واستفزازها بَصمتٍ مطبق ،كانت تطمينات عمه تبَعث بداخلهِ السَّكينةِ، وانجذابُ الفتاة احيانا التي بدأت تلقاه بَوجهٍ بَاسمٍ وصوت دافئ ،لكنَّها حتى الآن لم تُعلن مشاعرها ، تراوغه مع سؤاله المُتكرّر :" هل تحبينني؟!" .
مضت فترة تجنيده ، تَغيَّرت المرأة تجاهه ، تَودَّدت إليهِ على غَيرِ العَادةِ ، كَانَ عمه يَعلم خبيئتها ، فكَّرت أن تَستخدمه ليُطالِب بميراثِ عمه ، لم تُفلح خطتها ، فعادت تنسج مكائدها ،مُؤخَّرا تَدهورت صحة عمه انتكست هيئته ، وبينَ عَشيةٍ وضُحاها باغته هَازمُ اللَّذات فغيَّبه للأبِد، انتهت أيام الحِداد في ترَقُبٍ ، بعدها وجد الأبواب وقد أوصدت دونه، أُذيع أنّ الفتاة خُطِبت لغَريمِ الأمس، تَصدَّع قلبه ، استبَد بهِ الشَّوق فَقرَّر زيارتهم ذاتَ عيد ، اشترى لها هدية ، ساعة ثمينة تلقته بوجٍَه عَابس ، بالغت في إهانتِه ، قالت مُتعجرفة :" لا احتاجها ، رُبَّما تَليق بأخرى " ، امتَقعَ وجهه وفَارَ دمه ،قذَفَ بَهديتِه فتَحطَّمت ، انتهت الحكاية مع حطامها المتناثر يملأ المكان ،قَرَّر الرَّحيل للأبدِ ،بعد عامين اقترنَ بأجملِ فتاة عرفتها القرية ، لكنَّ ذَلك الجَمال لم ينسه حُبَّ الأمس واختيار القَدر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى