هشام أصلان - شرفة على الشارع الخلفى

“أُطِلُّ. كشرفة بيت، على ما أريد..”

***

الفراغات الخالية من البشر غير مسلية.

لا أحتمل المشاهد الثابتة لفترات طويلة، حتى لو كانت تلك التي يسمونها ساحرة وملهمة: البحر، الصحراء، السماء. أعرف أن البعض يراها متحركة، لكنني لم أجد فرقا عظيما بين البحر من شرفة تونسية أو جزائرية وبينه من شرفة سكندرية.

2

المدينة مفرودة تحتنا.

آلاف اللمبات صنعت سلاسل دائرية وطولية متشابكة، تمتد حتى الأفق.

الطولية شُقت بها طرق رفيعة، تمر فيها سيارات قليلة مسرعة، في ذلك الوقت المتأخر من الليل. على بُعد، تناثرت مبان معدودة عالية، يمينا ويسارا، في غير تنظيم. فوقها أنوار حمراء، تضيء وتنطفئ بشكل منتظم.

يميل الطقس للبرودة، لكنه منعش، وصفحة السماء مزرقة وواضحة، رغم عدم وجود قمر. وموسيقى أجنبية، تنبعث من أحد أركان الساحة الخارجية للمكان الذي نجلس عند سوره الحجري المنخفض.

3

في المدن التي يلائمها الصباح، تدب الحياة على أسطح البيوت وواجهاتها قبل استيقاظ أصحابها، أو ربما هي رائحة الحياة الباقية من آخر الليل، الملابس منشورة فوق الأسطح وأمام البلكونات. مقعدان أمام “ترابيزة” يستقر فوقها كوبان فارغان أو ثلاثة. نافذة خشبية لم تغلق بالكامل. في الأفق غبش نازل من السماء، وبعض أعمدة المسلح لبناية تصعد أعلى من اللازم.

يتسرسب مشهد الحياة للاكتمال، رجل يدخن في نافذة كانت مغلقة منذ قليل، والسيدة التي ضربها زوجها ليلا، فوق السطح المنخفض، بجلباب نظيف، واقفة أمام باب الحجرة تتأكد من أن ربطة رأسها مضبوطة، وطفل يلهو حولها عاريا.

نافذتي في الطابق الـ17، لا تطل على الشارع الرئيسي، لكنها ترى مساحة شاسعة من الأبيض، طُلِيَت به البيوت، وفي الأفق جبال، بينما البحر مفروش على اليسار، مثل سجادة لبنية عملاقة بجوار الفندق بار صغير، كان لأم كلثوم فيه مذاقٌ آخر.

أحاول التقاط صورة لنفسي بكاميرا الموبايل. أرى انعكاس المحاولة في زجاج النافذة، تنضبط بصعوبة، لكن الكادر لم يتسع للمشهد بالكامل.

بالليل، أرقب السيدة الجالسة في إحدى البلكونات الواسعة البعيدة، أراها ثابتة لساعات طويلة، لا تتحرك إطلاقا، وفي النهار يتأكد شكّي، هو تمثال للسيدة العذراء في وضعها الشهير.

في شرفة أخرى، وقف خالي بجانبي يشير إلى فتاة في روب شتوي، قال إن والدها طبيب، وأمها مُعلمة، وأنها تصلح للزواج، بل هي أفضل بكثير من الأخرى التي هو متأكد من ارتباطي بها. لم يفهم أبدا أنني أستمتع فقط، بمراقبتها، وهي تقضي وقتا طويلا في التحدث بالهاتف.

الشرفات التي تطل على الأحياء الخلفية، لا تتيح استقبال الزائرين بالبهجة، أو توديعهم بالابتسامات، لكنها تجعلك أكثر شوقا لرؤية مدن أخرى، تختلف عن مدينتك. إنارة البيوت، شكل اللمبات الموزعة بشكل عشوائي بين نوافذ وبلكونات، مداخل وأسطح، الأمان الذي تعبر به فتاة الشارع، وتلك التي اطمأنت تماما وهي تتعشى بالمطعم الشعبي بثياب عارية جدا، بعد انتهاء عملها في البار الملحق بفندق المدينة الوحيد.

4

لأن المدن، على حقيقتها، تأتي عبر الشوارع الخلفية، بفرصة التلصص على الحياة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى