فاطمة البسريني - أحب ركوب الحافلة...

أحب ركوب الحافلة ، خاصة عندما تكون المسافة التي ستقطعها طويلة ، أحب ركني القصي في الخلف ، خاصة لما لا يكون هناك عدد كبير من الراكبين ،
أحب ألا يكلمني أحد، ولا أحد يتجرأ أن يكسر الهدوء حولي .
عندما أجلس ، كل شيء يتوقف عن الدوران ،
أفصل نفسي عن العالم حولي ، أحس أنني أنزلق على الطريق وأنني سأذهب بعيدا ، بعيدا .
حتى لما ينبهني الجابي إلى وجوب آداء ثمن التذكرة بقوله الغبي :
ــ سيدي
فإنني وبحركة آلية وكأن شخصا آخر هو من يقوم بذلك مكاني ولا أعرف كيف نطقت كلمة :
ـ شكرا.
ليس هناك ضجيج يحدثه الناس ولا حتى ضجيج الحافلة وهي تسير ، فقط إحساس كبير بانسياب ، بنعومة وصمت .
لا أ فكر في شيء ، أحمل نفسي بين جوانحي ، بهدوء كبير ، وأريد ألا ينتهي هذا الأمر أبدا .
إنه لأمر جميل أنه ليس هناك شيء تقوم به داخل الحافلة ،
ذلك يطمئنني ، أحتاج فقط ألا تتوقف هذه الحافلة أبدا في أية محطة ، أن تسيل على الطريق أمامي ، كنهر يتدفق ، كجدول رقراق ، تريحني نغمات أمواجه الهادئة .
كم هو مريح أن أنفصل عن كل شيء في هذا الصمت والهدوء .
لا أعرف الآن ، كم مر من الوقت ، وأنا في هذه الحافلة .
عندما انتبهت وجلت ببصري حولي بتؤدة وهدوء في البداية ، ثم بخوف ورعشة أخذت تتقمصني شيئا فشيئا ، لم يكن هناك أحد في الحافلة .
نظرت إلى الخارج من خلال زجاج النافذة ، لا أحد أيضا،
صرخت بصوت عال :
ــــ هل من أحد هناك ؟
رجع إلي صدى صوتي قويا كاد يصك مسمعي لولا أنني بادرت إلى إغلاق أذناي بيدي .
علمت حينئد أن الأمر سيء ، وربما أسوأ أكثر مما أتصوره ؟
دارت بخلدي أسئلة متسارعة ( ماذا يحصل؟ ) و(كيف ؟ ) و( أين الجميع ؟)
قررت أن أتحرك وأن أنزل من الحافلة لأستقصي الأمر ،
شعرت بالندم لعدم انتباهي واهتمامي ( كيف لم أشعر بتوقف الحافلة ؟ ولا بمغادرة الجميع ونزولهم منها ؟)
كانت هذه الأفكار تسيطر على ذهني وأنا أحمل نفسي وأهم بالنزول من الحافلة،
لكن (لماذا لا وجود للأرض ؟ )
اقشعر بدني وأنا أتراجع إلى الخلف ، وفكرة صادمة تطرق عقلي في قسوة وعنف ( يا إلهي ، هل الحافلة معلقة ؟ وفي أي مكان أنا ؟ )
حضرتني رغبة قوية بالصراخ :
ـــ أين أنا ؟ أين أنتم يا ركاب الحافلة ؟
ـــ لماذا أنا وحدي في الحافلة ؟ أين أنتم ؟ أين أنتم ؟
لكنني تذكرت أن لا أحد يسمعني ، وأن صوتي سيرتد إلي قويا وقد يصم آذاني ،
وفكرت ( من الجنون كيف ينسونك الناس بسرعة ويتخلون عنك بسهولة ، إلى أن يصبحوا محتاجين إليك من جديد )
( آه ــ أفكاري ، عقلي ، لا يجب أن افقدهما في هذا العالم الغريب حولي ، ) وشعرت أن تلك الأفكار في ذهني ، كما حفنة من رمال مبتلة ، أضغط عليها بكل قوتي بين كفي ، ولو حاولت أن افتحهما قليلا فإنها ستتسلل من عقلي هاربة من بين أصابعي لتندثر في هذا العالم الفسيح .)
وقررت أن أعود إلى مقعدي وأجلس ، وأنتظر بهدوء ،( لا يجب أن أقلق كثيرا
لا بد أن يتضح كل شيء لو احتفظت بهدوئي ).
وعندما استقر بي المقام ، قلت لنفسي وأنا أحاول تهدئتها ( خذ كل شيء من البداية ، من المنطلق ، بدايتك ؟ انطلاقتك ؟.
أغلق عينيك ، وأعد التفكير في تلك اللحظة التي هي في رأيك بداية انهيار كل شيء ، تلك الفترة التي كنت ضائعا فيها ، و قد أصبحت ألوانك باهتة ، والآن خذ أحسن فترة لك قبل هذا الضباب الكثيف ،
تنفس بعمق ، أقذف النفس بهدوء : محطات ، مقاهي على جانب الطرقات ، شاطئ ، حقل ، صحراء .
تنفس مجددا ، حاول أن تحس ، امتص تلك السعادة والثقة التي كانت لديك في المستقبل والخفة التي كانت عليها حياتك .
إنها اللحظة التي تمتلكها ، لذلك فكر جيدا ، وحاول أن تسبح في الحلم في تلك اللحظة وتنازل عن كل اللحظات المعتمة السوداء التي أتت بعد ذلك ).
في تلك اللحظة التي تركت فيها نفسي أسترسل في الحلم كما أملى علي عقلي ،
وبالكاد شعرت باستمتاع ولذة في ترك نفسي للحلم الجميل الذي بدأ يأخذني بين ثناياه حتى تناهى إلي مسمعي أصوات تقترب مني ( كيف لا أرى أصحاب الأصوات وكيف لا أميز شيئا مما يقولون ) .
إنهم يصعدون الحافلة ، ربما هم أربعة أشخاص ، وهاهم يقتربون مني ولكنني لا أراهم ، لكنني أحس أنهم واقفون أمامي مباشرة ، لكنني لا أستطيع الحراك ، وكذلك لا أستطيع أن أصرخ ، رغم الرغبة الشديدة في الصراخ التي تنتابني كنت أريد أن أصرخ في وجوههم :
ـــ ابتعدوا عني لن تأخذوني إلى أي مكان ، تعبت منكم ومن الجروح والكسور في قلبي التي تسببتم لي فيها منذ البداية ، ومنذ ذلك الحين ودائما كل شيء يجرحني ويكسرني وينثرني ، منذ البداية لم أتمكن من العيش مع ذلك دون ألم ووجع ، ابتعدوا عني ، ابتعدوا ..)
لكن لا شيء يخرج من فمي ، بل شعرت بالأربعة يتآمرون علي لنقلي إلى مكان آخر غير حافلتي الرائعة ، وفجأة رفعوني وقد أخذوا بذراعي وأقدامي ، وأخذوا يتقهقرون إلى الوراء ليتمكنوا من إخراجي من الحافلة :
ـــ أيها الأوغاد ماذا تريدون مني ؟ أتركوني ، أريد أن أذهب على قدمي ..
وفجأة ، وكأنني سمعت أحدهم يقول لصاحبه :
ـــ هل تظن أنه ميت فعلا ، وكأنني سمعته يسبنا ، يجب أن نتأكد من ذلك في الخارج .
أصدرت قهقهة عالية :
ـــ كيف ميت أيها الأوغاد ، اتركوني ، سأسير وحدي على قدمي ،أيها ..
(لكن كيف لا أشعر بشيء ؟) ( هل أنا ميت حقا؟.. )
وانتابني الفضول ، حاولت أن أحرك يدي ، لكن فعلا فأنا لا أستطيع ..
(أنا ميت ، كيف لم أعرف ذلك من البداية ، عندما اتجه نحوي ذلك السفاح مباشرة ، وهو يحمل خنجرا بيده ويغرزه في صدري دون رحمة ، كيف لم أتذكر ذلك ؟)( لا إشارة للحياة في رأسي .. وهناك ليل طويل أسود وصقيعي في عروقي كل ذلك يدعوني أن أستسلم وأخضع لهم .
( هيا هذه روحي سألفظها حالا .... )


فاطمة البسريني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى