فاطمة البسريني - زلزال...

داس عقب السيجارة تحت قدميه في حركة دائرية ، وعاد الصمت المترقب من جديد ، ليكتسي بسكون مظلم ويلتف بغشاء ضبابي ، مثير.

قتلا للوقت أخذ يوسف يذرع الغرفة جيئة وذهابا ، عاقدا يديه وراء ظهره مرة ، تاركا إياهما إلى جانبيه مرة أخرى ، وفي رأسه تتأرجح أفكار كثيرة ، توقعات ، أحاسيس ، والسكون يمر على جدران الغرفة في حركة تموجية ، يمسح عنها غبار شهر أبريل ، لا بد أنها الثالثة زوالا ، هذا الوقت الغريب أمره ، حيث يجد الإنسان نفسه يدور حول نفسه ، لا يدري من أمره شيئا ..

الثالثة زوالا ... وضربات قلبه تتصاعد ، تسيطر على المكان ، لا يجد لنفسه مكانا وسط تلك الخفقات المتواصلة ، فرارا منها توجه بخطى سريعة نحو الباب الخشبي ، ألصق به جبهته ، وأرهف السمع ، كان يتمنى أن توقف كل حركة ، كل الضجيج عن الوجود .. ألا تعبث ريح أبريل الساخنة شيئا ما .. الخاملة شيئا ما ، ريح الثالثة زوالا بتلك الملصقات على جدران الغرفة ، اقترب من إحداها ، ألقى عليها نظرة،فإذا هي مليئة بالأرقام ، تذكر حينئذ ساعته ، كيف لم يفكر بالساعة على معصمه ؟ كيف تملك عليه التفكير الإحساس بالزمن ..

لا يدري كم من الوقت مر ، وهو غارق في متاهات ، بعيدة الغور ، لا تفسير لها ... وأمه ربما هي في الداخل تتعذب أقسى عذاب ..

اقترب مرة أخرى من الباب الخشبي المحكم الإغلاق .. دارت بخلده فكرة سوداء ( هل ستموت ؟)

حرك رأسه حركات سريعة و قصيرة وكأنه ينفضها عن دماغه ..




ـــ 2 ـــ

هذا السؤال ، لازمه ، طرق ذهنه باستمرار ، استدار وهو يسمع خشخشة ما ..

كان صوت ملصق للدعاية ، تتلاعب بأطرافه الرياح الخاملة .

انتبه إلى يديه ، وجدهما ممدودتان إلى جانبيه ، لم يدر ما يفعله بهما،

دون شعور ، دسهما في جيبيه بعصبية .

اصطدمت يده اليمنى بعلبة السجائر ، طافت على ملامحه شبه دهشة ، وكأنه وجد ضالته المنشودة .

أخرجها بسرعة ، وجدها فارغة ، زفر بغضب ، رمى بالعلبة بقوة إلى أحد أركان الحجرة ، نفض يديه ، وكأنه تخلص من شيء يضايقه .

رمق بحنق أحد المنتظرين الذي كان يتتبع حركاته باهتمام وكأنه يتسلى بذلك .. أمام ذلك أشاح الرجل بنظراته بعيدا .

ذهب ليجلس على كرسي مقابل لباب غرفتها ، تدافعت إلى عينيه الدموع ، ( صورتها لا تبرح مخيلته ) .

ضغط على شفته السفلى بأسنانه ، شعر ببعض الألم.


كم حلم إلى جانبها، ، كم شاركها أمانيه ، كم وعدها ووعدته ، والآن أناتها الخافتة تخلع قلبه .. من أجلها صرخ في كل مكان وعلى أي كان،صرخاته ظلت عالية أبدا تحتل أجواءه .

زفر بصوت عال ، كم تنسم إلى جوارها الحب والصدق ، والحنان وهاهو الآن يزفر مشاعره محملة بأدران الجحور التي التهمت من فرط رطوبتها لحمه وعظامه ، كان يحس أنه يتفتت من الداخل ..




ــ 3 ــ

فتح الباب الخشبي ، قفز في مكانه واقفا ، هرع إلى الممرض ورعشة شديدة تتملكه ،هتف من أعماقه وكلماته كلها أمل ترتجف على شفتيه :

ــ كيف حالها ؟

أجاب الممرض من خلال فم خشبي ووجه حجري ،لا ارتسامات على ملامحه ولا تعابير :

ــ هات هذا الدواء فورا ،

لم يدر كيف اشترى الدواء من الصيدلية المجاورة كيف صعد درجات المؤدية إلى غرفة الانتظار وصدى أناتها يهزه من الأعماق .

وجد المرض على باب الحجرة ، حاول أن يقرأ على وجهه الأمل .

تمنى ، بدأ يحلم ، فكر أنه من الممكن أن يكون مخطئا فيما قرأه على الوجه الحجري .

إنه يعلم أن الأفكار والأحلام أسوأ وسيلة للتعبير عما يجول في النفس .

أحس بنظرات تخترق ظهره ، استدار ، نفس الرجل مازال يحدجه بنظرات غريبة ، لم يجد الوقت الكافي لزجره مرة أخرى ..

نظر مباشرة إلى وجه الممرض عله يتمدد قليلا ، لعل تلك النظرات المستعطفة توحي له بأحاسيس تبرز على جبينه .

وتعجب ، ( كيف لنفسي أن تحمل كل هذا الرصيد من الحزن الكبير والتعاسة ومع ذلك هناك تلك الشعلة من الأمل التي تضيء جنباتها ؟).

واكفهر وجهه على التو ، وكأنه أدرك أن الموقف لا يتحمل أية مشاعر.



ـــ 4 ــ

أية قناعة رهيبة تلك ؟

ـــ هذا هو الدواء يا سيدي ..

رغم ذلك ، فالأفكار تحاول استغلال أية فرصة ، أية غفلة لفتح ثغرة في جدار الصمود الذي أقامه ، حتى لا تثير في نفسه الحزن والعجز .

خطا إلى الوراء ، وقد اخترقت الأفكار الجدار الصامد الواقف في شموخ.

سقط الدواء من يده وهو يثبت نظراته في عيني الممرض .

ـــ ماذا ؟ ماذا ؟ .... أمي ... أمي ...

دون إرادة منه ، وجد نفسه يريد الدخول إلى حيث يجرون لها العملية الجراحية ..

نهره الممرض بقسوة بينما كانت نظراته تفضح الأسى والحزن الصامت اللذان استوطنا عينيه منذ أن أصبح ممرضا ..

نظر يوسف من حوله ، كان الرجل الغريب ما يزال يرميه بنظراته المريبة ، شعر بالغضب ، بالثورة ، هز الباب بساعديه ، ازداد عنف هزاته للباب وهو يصيح :

ــ سأراها .. أريد أن أراها .. لم يستطع قلع الباب ، نظر حوله مستغيثا.


و قف الرجل الذي كان يتابعه بنظراته ..

لم يدر يوسف ماذا حدث من حوله ، كانت الغرفة كلها تدور ، لكن ليس معه ، كان هو يدور في الاتجاه المضاد .



ــ 5 ــ

وهو في دوامة الدوران تلك ، كان يرى الآخرين المنتظرين يدورون ، وشبح الموت يدور هو الآخر ، يحوم فوق رؤوسهم ، وكان المنظر بشعا ..

ودار في خلده أنه ربما كان يغوص إلى الأسفل والآخرون يصعدون فوق ويزدادون ارتفاعا ونور يشرق عليهم بإشعاعات فضية ونور بين يديه ووجه أجمل وأحلى من القمر يشع سناء، تحيط به هالة من ضياء ذهبية اللون .

راح يردد مع نفسه في صمت :( ذلك الوجه ... وجهها المنير الجميل ، مرسوم في جوارحي ، وكيف لا أعرفه ..).

قالت له أمه يوما :

ــ رفقا بنفسك يا ولدي ... كلماتها كانت طيبة وصوتها كان حنونا ..

والآن هاهو يسمع صوتا خافتا .. يردد نفس الكلام .. إنه صوتها ..

رقص فؤاده فرحا في صدره وهو يسمع الصوت الهادئ الذي أحبه منذ أن رأى النور والذي رافقه لسنوات طويلة مضت والدي يسكن دماغه منذ البداية ..

لكنه لدهشته الشديدة ، لم يعد يرى ذلك الوجه البهي وإذا بالبركان اللئيم، ينفجر داخله وأصوات كثيرة تصك مسامعه ، أصوات انفجار كبير ، إنها البراكين التي يعرفها ، لقد عادت للانفجار وسحب الدخان تندفع وتمضي ,تعمي عيون الناس، ووجه أمه يتراءى له من وراء تلك السحب ، وهو يتوارى شيئا فشيئا ..



ــ 6 ـــ

أحس أن أنفاسه تضيق ، ينتزعها من صدره انتزاعا ، لو كانت أمه على قيد الحياة لما تناثرت جدران الغرفة وسقطت على رأسه ، واصطدمت بجمجمته ، وكأن هناك زلزال عنيف يرمي به إلى كل الجهات .

كان الاصطدام قد بلغ من القوة مبلغه ، فأخذ يوسف يصطدم بالجدران واحدا تلو الآخر ، وكل جدار يرميه بعنف شديد إلى الآخر ويمطره بوابل من التراب والأحجار ، وهو يكاد يختنق .


لم يكن يحس بأي شيء أو يشعر بشيء ، إلا أن وجه أمه قد راح مع صوت الانفجار في رأسه ، سؤال واحد حطمه وأفقده عقله ، كيف يمكنه أن يراها الآن ؟ كيف يراها الآن ؟.

1713733331238.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى