خلود بنت خميس بن حميد المقرشية - الفاتِحة.. قصة قصيرة

قبل الحكاية:

– “أين الجنة؟”.

نهرُ حنين انسكب من عينيها، وحشرجة جرح ازدادت تمدُّدا في قلبها المكلوم.

وقبل أن تجيب أمها….!

أبصرتْ الجنة في طرف جلباب والدها المعلَّق:

“الجنة نقشٌ في جلباب أبي.. وأبي الغائب… في جلباب حكاية!”.

بعد الحكاية:

الخوض تلك المدينة النامية، تكاد لا تنام شوارعها في الليل.. وثمَّة أضواء لا تخبو إلى الفجر في عدد من البيوت التي ألمحها من فوق سطح العمارة.

مُنذ أن تركتُ قريتي ولسنوات بقيت مسكونة بأرق يلازمني لياليَ طويلة من التفكير المشطور بين: ذاكرة مسكونة بالمدينة، وذاكرة القرية المشوَّهة بغبار القبر الافتراضي لوالدي!

أضحكُ من كلمة “افتراضي”.. كيف أتت هكذا لتكمل جُملة لا تمت لها بصلة! ربما لأن جدِّي قرَّر أن يفترض قبرا وهميا لوالدي في مقبرة القرية ككل الأجساد التي انسكبتْ من فوق الأرض لتسكن تحتها. كحضور غير مرئي كان قبر والدي.. ماذا وضع جدي داخل القبر؟ كان ذلك اللغز الذي ظلَّ ينهش أحاديث الجيران.

****

– شظية أهلكته، انتزعتْ قدمه من جسده، استباح الدمُ رقعة الأرض من حوله، لم يكن يُمكن أن نسعفه في اللحظة نفسها، كان العدو لا ينفك يقاتلنا بكل ذخائره. زوجك يا أختي مات شهيدا… وما أجملها من شهادة!

نظرتْ وجوه النساء إلى بطن المرأة المتكوِّر. قال أحد رجال العزاء مواسيًا المرأة المنتحبة:

– احتسبي الأجر واصْبري.. سيعوِّضك الله بمشيئته.

وأوقدتْ المرأة الصبر كساءً أسود، وزادتْ من صَبْرها ترفقا بالابن الذي ستُنجبه، وتنجب معه ذاكرة الشهيد الحي.. فلا شيء يحيي الميت غير ابن يحمل اسمه ودمه لأجيال قادمة.

ثم بعد ستة أشهر جئتُ أنا، كفاجعة ألهبتْ طعنة الفقد مرة أخرى، وطعنة الاسم والنسب الذي اقتصَّ من ريعان شباب الوالد.

– آه لو لم تكن “بنت”؛ لأصبح لنا شأنٌ في هذه البلاد، ولغدونا بيتَ الشهيد الذي أنبت الله له الجنة والبركات.. فقط لو لم تكن بنتا. لو ابتدأت سلالتك وانتهت بابن واحد يعوِّضني عنك يا بُني. سأقرأ على روحك فاتحة الكتاب.

****

سُورة الفاتحة التي ترسم دائرة في جِدَار غرفة والدي، وفي عُنق ذات المسمار جلباب أبي الأخير الذي يشرع جيبه مُحتضنا مُصحفا صغيراً، عُلِّم داخله بخيط على فاتحة الكتاب! هكذا رأيتُ أبي حين فطنتُ لغيابه، وبحت بالسؤال عنه.

والدي الشهيد… جريح الجنوب وشهيد البقعة الخضراء. في الحقيقة أبي لم يمت، أبي استشهد، وكلُّ جسد شهيد حي هكذا تقول الآية.

أين دُفن جسد والدي المجروح؟ كان ذلك السؤال هاجسي المميت، ومبرِّري للالتحاق بكلية التربية في صلالة، لكنَّ جدي كان الأسبق حين حَرَّم علينا أن تطأ أقدامُنا أرض الجنوب! كبقعة منفية متبرَّأ منها، هكذا تبرَّأتُ أنا من السؤال أيضا. ثم ما لبثت أن التحقت بكلية خاصة على نفقة الدولة كمكافأة رمزية على يُتمي! قبلتُ الثانية لأني لم أكن مُخيَّرة في قبول الأولى.

وفي إحدى المرَّات، قرَّرتُ حضورَ إحدى الجلسات الأدبية المستحدثة لجماعة أدبية بالكلية.. وحضرت.

– الوطن يا سادة هو الانتماء الكلي جسدا وروحا لهذه الأرض؛ لتصبح جزءا من وجودنا!

– الوطن سيارة الجيب التي تجد مفاتيحها تحت وسادتك؛ تلبية لطلب مُسبق منك.

ضحك الجمهور. كانت تلك أقل عبارة راودتني وقتها، ولم أستطع أن أكملها إلا في داخلي.. الوطن يا سادة في دم أبي النازح في الجنوب.. الوطن هو دمعة جدي المزروعة في شقوق الروح الكثيرة.. الوطن في الاسوداد الذي لازم أمي أمدا ما انقضى.

خرجتُ من القاعة دون أن أنظر في عين أحد. لِمَ انفعلتُ هكذا؟ لمَ تبدو صورة الوطن مشروخة في داخلي؟ الوطن الذي أخذ أبي حين وقف مدافعاً عنه، أعطى الكثيرَ للهاربين خارجه.. في أيام الحزن الكبيرة يُلح عليَّ السؤال ذاته: ماذا كسب أبي؟ وماذا كسب جدي؟ لا أعرف غير أني اكتسبتُ لقب “اليتيمة”، مُنذ بحثت عيناي لأول مرة عن والدي. “يتيمة”؛ تلك الكلمة التي سمعتها منذ أن كان عمري 7 سنوات، نادتني جارتنا بها، كان جدي في طريق خروجه من البيت، سمعها وهي تناديني بها، اعتصر قبضة يده، كُنت أمامه مُباشرة، ودون أن أدرك نظرت إلى عينيه… لم أعد أبصرها. خرج مُسرعا يحمل كَوْمة غضب وانفعال، ولأول مرة استلَّ جدي الكلام سيفاً من غمده الصامت، ظلَّ يشتم ويتوعَّد الجارة إلى أن خرجتْ أمي وجذبتنا كلينا داخل البيت.

ليلتها؛ احتضنني جدي طويلا… بكت أمي بصمت.. بصمت كبير ما زلتُ إلى الآن أحسدها عليه.. من أي زجاجة للذاكرة تُوقد أمي صبرها؟ نام جدي، وقبل أن تغفو عيني تهجَّأتُ سورة الفاتحة المنبسطة على الجدار بأكمله، حفظتها في قلبي ونمت.

– وساطات. ابتسامة استهزاء منها.

قابلتُها بابتسامة بلهاء مني.. أين الوساطة هنا في تقديم طلب بسيط كشاي .. الوساطة في جيوبكم لا تكاد تفرغ حتى تعيدون شحنها كرَّات عديدة! الوساطة في هذا الوطن الذي حذف رواية الشهيد وصوت خطواته من حكاياته، ولم يترك له مكانا حتى في هامش الحكاية.

حين ألزمتني أمي بمداومة الصلاة، كنتُ وقتها أخاف أنْ أقرأ الفاتحة لأي سبب كان، أخاف أن أخنق في لحظة العبادة تلك رُوحَ والدي المعلَّقة بالوجود بعيداً عن برواز سورة الفاتحة.

سألتُ أمي:

– هل يجوز أن أقرا سورة غير الفاتحة في صلاتي؟

لم تُجب أمي كما عوَّدتني، ولكن نظراتها أنبتت في داخلي رُعبا كأني جئت أمرا جللا! كأنها كانت تقول: حُدودك هنا، فابتلعي صمتك!

وابتلعته فعلا، لكنني الآن أفكر في دم والدي الذي تشرَّبته الأرض حتى أتخمت للشمال.. أفكر في رواية يمكن أن أحنِّط فيها روحه كهرم مبني من الورق.. أتذكر رواية “وردة” حين قرأتها ذات إهداء… غضبتُ ولعنتها سرًّا وعلناً.. أبي كان على حق في أي صف كان؛ ذلك لا يهم هو أيضا رأى بعيون الوطن، هو أيضا تمنَّى أن ينبت الوطن من طينه زهورًا حالمة.. أريد أن أكتب رواية لا تُشبه قصتي الأولى التي أخبرني بعدها قارئ ما بالابتعاد عن السياسة، والاكتفاء بالمواضيع الاجتماعية.. قلتُ حينها:

– لم تكن سياسية، كانت تتكلم عن حياة شهيد، كانت اجتماعية نفسية، كانت تحكيني، وتحكي والدي الذي تصادف أنه شهيد وأنه والدي.

– إمممممم.. شهيد!! تعرفين أننا لا نتحدث عنهم بلفظ شهيد!

– ولكن والدي شهيد.

– صدِّقيني، متى ما تخطيتِ عُقدة أبيك الشهيد ستغدو حياتك أفضل.

– …………………………….

لم أعلق.. لا أحد يفهم قصة الشهادة، لا أحد هُنا يا جدي يفهم قصة الدم.. سورة الفاتحة تتردَّد في ذهني، وفي كل مرة أسترجع معها لفظة “شهيد”، وكأن الفاتحة لا تقرأ إلا للشهداء وحدهم دون غَيْرهم، لكني لست كجدي حين قرَّر أن ينسى ويقرأها على رُوحه… لن أقرأها لغيابك يا والدي، لن أقرأها على قبرك الافتراضي، لن أستحضرك غائبا، وإن قرأتها فلن أكمل تغييبك كما غيَّبوك هم عن حكاية أنت سيِّدُها.

في الحكاية:

– ستسألني عن أبيها حين تكبر.

– أحكي لها عنه.

– ماذا سأحكي لها يا أمي… أنا بالكاد أعرفه… رحل قبل أن أرى وجهه في النور.

– جدها سيحكي لها كل يوم… يقينا ستحب أبيها الشهيد، وستقرأ على روحه الفاتحة كل يوم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى