ايناس البدران - عش الغراب

قالت سآوي الى رجل يعصمني ، وحال بينهما الصمت فكانا من المغرقين .

ما عاد الخوف يخيف ولا الحزن يحزن فبعد سنين من مقارعتهما اختبارهما.. اصبحتهما ! تندّ عنها ابتسامة ساخرة وتهمس في سرها

– ما اصعب ان يتحدى المرء نفسه فلا يجدها ، ان يمد يده خلال سدم الماضي بحثا عن ملامحها كمن يتلمس تفاصيل شخص كانه .

تتنهد وتسترسل في افكارها فيما يداها منهمكتين في غسل تلّ اطباق وقدور ملوثة ببقايا طعام من الليلة الفائتة.

– لعلنا نضيع جزءً منا مع كل مرة نعيد استنساخ يومنا مكتفين بأنه مرّ بأقل الخسارات ، ليقفز سؤال يحمل طعم الصدأ

– متى اضاعتها وكيف مرّ قطار العمر سراعا كطيف مراوغ تاركا اياها كالحصى الظاميء على جانبي سكته الموحشة .

تغمس الاسفنجة بسائل التنظيف ، تحركها في الهواء ، تتناثر اشكال من الفقاعات القزحية .

– فقاعات يا سيدتي ، هذه هي الحياة ..

كلمات البائع الشاب تستعيدها كلما لمحت الفقاعات وهي تعاود غوايتها بألوانها القزحية التي سرعان ما تنفجر لينطفيء معها بريق سحري

في مرحلة بعينها ننكفيء داخل قوقعتنا اذ ندرك ان الحياة لا تجري وفق سياقات افترضناها وأننا آخر همها عندئذ نكف عن حرث البحر ونعيد حساباتنا بارتباك تلميذ قرر تغيير الاجابة في آخر دقائق الامتحان .

بحركة عفوية من كتفها تجفف دمعة انسابت على خدها ، فيداها مشغولتان بتنظيف المنضدة .

يبدو ان الحياة امتحان لم تستعد له كما يجب وأن كل ما قرأته وتعلمته لم يكن كافيا لخوض لجتها وصولا الى بركتها الرائقة .

تنهد وهي ترمق صورة الزفاف كطفل يرنو الى بالون تاه منه في الإزدحام .. من يعيد الزمن الى الوراء ليقيس عمر لحظة خاطفة او يوقفها ، لحظة تسرق في كل مرة من قماشتها لونا او قصاصة فرح ، انفاس عطر اثير منحها ذات حزن ظل بسمة او نفحة رجاء .

تحرك رأسها كبندول لتردد في سرها ، هي اضاعت بوصلتها يوم سمحت للآخر بتغيير اتجاهاتها ، للنجيمات بالأفول من سمائها ويوم غابت عفوية بسمتها تحت ركام ما يجب وما يصح وما لا يصح لتنتهي ظلا بين اكداس قدور واطباق ظلت تتراكم وتعلو محيلة اياها الى ..مريلة مطبخ. تبسم بسخرية وتردد :

– ظل امرأة بمريلة مطبخ .. غير مرئي يستجدي الرضا ، النساء الجميلات كلهن غير مرئيات لا يرى منهن الا بريق القشور ، اما الدميمات فلا مرئيات شكلا وموضوعا .

اكتشفت انها لا مرئية عالقة داخل جدرانها المفترضة حبيستها وأنى اتجهت ارتطمت بأحدها .. سجن هو الاخر لا مرئي .

لطالما بهرتها البدايات حتى الباهت الرجراج منها ، يكفي انها دفقة وعد بضياء جديد ، اما النهايات فلابد ان تجر بأذيالها ندما او شجنا من نوع ما . تذكرت ان عليها اعداد شيء للعشاء ، فكرت في طبق عجة بعش الغراب ، صنف تلتقي عليه الاذواق رغم تنوعها .

تتساءل عن سر اختيار الاسم ” عش غراب ” لفطر تميزت اغلب انواعه بالسمية ! وتساءلت كيف يتسنى لنا التمييز بين هذا وذاك ؟ تمطّ شفتيها

– لعل الأمر منوط بالخبرة التي لا تأتي غالبا الا بعد فوات الاوان .

في اوقات متخمة بالتكرار نستحيل على غفلة منا الى بقايا ما كناه بأقنعة شمعية و إبتسامات ملفقة وعبارات لا نكاد نفقه معانيها او حتى نعنيها .. نرددها كببغاوات لنقنع انفسنا والاخر ان كل شيء على ما يرام ، بعدها تكفي التماعات حفنة شعيرات على الصدغين وتهدل القناع ولو بجزء من المليم ليفقد العالم اهتمامه بك !

تنتصب امامها قضبان من الاسئلة :- ماذا تريدين ؟ الى اين ؟ الى متى ؟ كم بقي .. ؟ هل من بصيص ؟ يا ألهي حتى سعادتها الغابرة تنفجر بوجهها فقاعات صابون ، في لحظة ظنت انها امتلكت كل شيء لتكتشف في التي تليها انها مهددة بفقده ، انها اصبحت عائقا بعد ان كانت سلّما .. هكذا ببساطة ولماذا لم تستعد لمثل هذا الموقف ؟ .. كيف السبيل الى نهوض جديد وقد بلغت من التشظي عتيا ، لتكتشف ان امرا ما دبر بليل على الجهة الاخرى ، جهة مجهولة مضبّبة مفتوحة على اسوأ الاحتمالات .

قد نعيش الكابوس ثوان او سنين لا فرق لأننا عشناه بتفصيلاته المرعبة كلها ، لا يغير من الامر بعد ذلك ان كنا افقنا من جحيمه.. ثم يحدث ما ينبؤك ان تغييرا سيطرأ من الطرف الاخر مع مراجعة للذات تليها اعتذارات ووعود لزجة وكلمات باروكية ملفقة كوجه عاهرة . هي وإن ادعت الغفران مازالت غير قادرة على النسيان كقارب مغروز في حضن رمال ناعمة متحركة . تند عنها آهة حرى وتستذكر.. محطة تلو محطة هكذا انقضت الرحلة ، حفنة حسرات تتساءل وصولا الى الآن.. ما الذي نحاول ان نثبته ونحن نخوض بمفردنا معاركنا الصغيرة ، ما الذي نتوقعه من الاخر لننتهي الى هذا الكم من الحسرة وخيبة الامل ؟

ترى أ يبقى الناس مع بعضهم خوفا من الوحدة أم لحاجة ما ام ليستغل احدهما الاخر تحت عناوين شتى يضعها الطرف الاقوى !؟

كل شيء يأتي متأخرا يفقد مصداقيته وبريقه حتى الندم . تتأمل صورة الزفاف وتذكر كيف فاض صوتها بالشجن وهي تقول له :

– لم نحتفل بزفافنا وهذا أمر يمكن تجاوزه اما صور الزفاف ..

التقط منها الخيط وبحماسة قال :

– ستحصلين اليوم على واحدة .

ردت بدهشة :

– ماذا .. بعد ان صرت اما لطفل في الخامسة ولكن كيف ؟

وفي الستوديو عرفت ان بالإمكان استئجار لحظات هناء وارتداء فستان بلون الفرح وإن لم يكن تماما مقاسها لتقف بجانبه امام المصور الذي طلب منها ثني ركبتيها قليلا كي لا تبدو اطول منه .. وأن يرسما بسمة على وجهيهما .. للذكرى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى