رسائل الأدباء : رسالة من نقولا الحداد إلى عباس محمود العقاد

20 - 11 - 1944

إلى الأستاذ العقاد

أيها الأستاذ الكبير. إن ذلك الرجل الذي رفع إصبعه إلى السماء وصاح:

(أأنت موجود؟ أهذا عدل في قسمة الأرزاق) (في مقالك في الرسالة بعنوان (تبارك رزاق البرية)، وأن أبا العلاء المعري الذي قال: (إذا كان لا يحظى. . . فتزندقا) - وإن ابن الراوندي الذي قال: (كم عاقل. . . العالم التحرير زنديقاً) - وغيرهم من الشعراء، وغير الشعراء ممن قالوا مثل هذا - أن هؤلاء يا أستاذ، يريدون أن يلقوا المسؤولية في ظلم الحظوظ لهم على الرزاق أو على القضاء والقدر. وكأنهم في الوقت نفسه يبتغون (وهم لا يدرون) أن يبرروا نظام المجتمع العسوف الغابن الجائر، وإن يبرئوا منظمي المجتمع من فساد نظامه ليس المسؤول عن ذلك الغبن في تقسيم الأرزاق، لا الرزاق ولا القدر. بل المسؤول هو جنس الناس أنفسهم، الذين سنوا قوانين مجتمعهم ناقصة وفاسدة وغير منصفة

أن تلك الألوف التي يبددها المسرفون ليست (بدل مفقود) كما تقول، وإلا جاز أن يكون (اتيس) التيوس صاحب الملايين، لأن الذكاء النابغ يثمن بالملايين. وإنما هي ثمن عدل بيع بخساً أو ثمن ظلم اشترى رخيصاً. فما كانت الألوف في زمن من الأزمان، أو مكان من الأمكنة تنال بالبله أو بالخساسة أو بالسخف أو بالكسل المطلق. وإنما كان ولا يزال كل قرش ينال بتعب في عمل معادل له. فإذا كان معك عشرات الألوف من الجنيهات فهناك ألوف من العمال حصلوها بتعب معادل لها، وإذا كان عندك مليون جنيه، فلا يعقل أنك بذلت تعباً يساوي مليون جنيه، فهي من جني تعب غيرك

فأولئك الكسالى والأخساء والبله، الذين يملكون الألوف والملايين لم يملكوها بدل ذكاء فقدوه، ولا بدل نباهة أو عبقرية فقدوها، ولا بدل عمل كسلوا عنه. وإنما نالوها متجمعة من حاصل أتعاب الذين تعبوا في تحصيلها - وأنت تعلم ذلك جيداً. وتعلم أن ذلك ليس من قسمة الرزاق ولا من قضاء القدر. وإلا فلا جزاء للبشر لا خيراً ولا شراً إذ لا مسؤولية عليهم. إنما هو من فساد نظام البشر

والذين يتذمرون من عدم العدل في تقسيم الأرزاق يعزونه إلى عدم التساوي في المواهب والعقول والأخلاق، حيث لا مبرر للتذمر أو الشكوى، لأن هذا قضاء الرزاق ولا حيلة لهم فيه

وإذن ففساد نظام الكون ليس (في تباين موازين الجزاء) بل في أن ذلك النظام يمنح من لا موهبة له ولا علم ولا ذكاء ولا عمل ويمنع الموهوب والذكي والعامل الصالح

على أن الفقرة التي ختم بها الأستاذ مقاله كفرت عن حملته على المتذمرين من عدم العدل في قسمة الأرزاق.

نقولا الحداد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى