عائدة محمد نادر - الممسوس.. قصة قصيرة

أي ريح صرصر عصفت اليوم ! الشمس مبتورة الخيوط, وشبح القادم ينسل خفية, يغطي وجهه غروب أصهب. لم أكد أعرفه, لولا وشم أنزله على كفه, في ليلة دهماء غاب عنها القمر, أريق فيها الكثير من دمه, وحبرا صبه فوق الجرح, يدمغ يده فيه, ويئن مبتلعا وجعه. لم تك ملامحه تشبه ذاك الشاب الجسور, الذي ملأ حيطان الشارع برسومه, وأنا صبي ألاحقه مثل ظله, مفتونا بما تخط أنامله العجائبية على الجدران, لتلك الصبية التي عشقها, فصارت داءه الذي ضرب أوتار فؤاده, فأعطبها, ليوصم بالممسوس, ويهجر البلدة, بعد أن عصفت بجسمه ركلات الرجال وهراواتهم, وهرس أحدهم بحنق يده اليمنى, بقدمه. شقوق باب حجرته, تتيح لي فسحة ضيقة كي أرقبه وهو يناجيها دامعا, تنفلت منه الآهة حرى, وهو يبثها لوعته, وحرقة قلبه على غيابها! وفرشاته, كفراشة تنتقل بين الألوان ودمعه بسرعة عجيبة, ترسم عينين كحيلتين, وفما مكتنزا, يكاد ينطق, لتصيبني لوثته بفضول غريب لم أفهمه حد اللحظة.! وتطاردني تينك العينان كأني أعرفهما.! رنا إلي كأنه مغيب, حين اقتربت منه أحييه, وعيناه المحمرتان كالجمر, أرعدتني وأنا أستشعر خيفة منهما, ثم أشاح وجهه عني متمتما, بلهجة معاتبة: - أهذا أنت!؟ أ بعد كل تلك ...! لم تٌعنّي بسمتي البلهاء الحذرة, وخانني صوتي يتعثر بحنجرتي, فأطرقت رأسي خجلا. دس يده الموشومة بين كومة أوراقه, ورمى بإحداها أمامي, لأجدني أمام صورة الفتاة ذي العينين الكحيلتين, والفم المكتنز! زاحمتني الملامح, تصارعت أمامي, وتكومت كل الصور في لحظة بهذا الوجه, والريح تتلاعب بالورقة وأنا أركض خلفها لاهثا, يدفعني شغفي القديم, أن أعرف صاحبة الصورة.! ذات صباح شقشقي العصافير, كان يقف قرب شجرة التفاح المزهرة, يحادثها, يبثها عشقه الموسوم بالمس, يغرف جمرات الشوق, ويعاتبها أنها تتأخر كل مرة عليه, فيغلي دمه ليتفجر ينابيع من أوردته, ويكشف لها عن رسغه الذي ينزف بدفق وشدة, لتمتد يدها البيضاء الناصعة نحوه, تجمع الدماء المنتفضة في كفها, تذروها إلى السماء, وتمسح كفه بكمها, وتقبل الجرح, فهربت مذعورا, أصرخ: - الممسوس قطع رسغه, الممسوس شربها من دمه. تلقفتني أمي من أول الشارع, وأقسمت أغلظ الإيمان أن الممسوس لن يبقى بيننا بعد اليوم, فقد بات خطرا على الأبناء. توسلتها أن لا تفعل, لأنه مسكين, ولم يؤذ أحدا غير رسغه, لكن إصرار أمي كان أقوى, وحيرة عينيها وهي تبحث في أرجاء المنزل تفتح بابا, وتغلق آخر, لتعود وتلطمني صفعة على وجهي, أخرستني. رسمها ذاك اليوم على جدران المدرسة, فمًا وعينين, وشجرة تفاح مزهرة, تغفو مبتسمة قرب الساقية, وقمرا ثلجيا, يتراقص دوائر مهتزة, قربها. نسجت الحكايات عنه, وعن مس الشيطان الذي تلبسه, فأغلقت أبواب الدور على بناتها, والممسوس يرسمها بغلالة شفافة, تظهر جسدها الضبابي متوهجا بالنور المتسرب من مسامات القماش, وألبسها النجوم تيجان فضية, كأنها شعاع يبهر العيون, وعلق اللوحة على غصن شجرة التفاح الموردة! تبعت أبي ليلتها والرجال معه, محملين بوقود الغضب الجحيمي, تقدح العيون شررا يتطاير , ومشاعل النار تضيء وجهه القانع وهم يواجهونه, أنه لطخ سمعة الفتيات! تمتم بيتم, راكعا: - ليس بيدي, عشقي لها يدفعني, زوجوني إياها. انهالت الأيدي, تصب جام الجحيم عليه, تمزق الجسد والرسوم, وهو يحتضن إحداها فوق صدره, يحميها منهم, غير عابيء بسواها, حتى أغمى عليه فغادروه, وورقة مكتوبة بدمه ألصقوها على الجدار مواجهته, غادر وإلا...! لم أتزحزح من مخبأي, أتابعه بشغف محموم, وهو يزحف واللوحة بيده, يصب فوق كفه المهروس حبرا, يدمغها. بعدها, لم يره أحد, حتى اليوم, ولم تعرف البلدة سره وصاحبة العينين والفم, والريح مازالت تدفع بالرسمة أمامي, تطير وتحط, وقلبي يكاد ينخلع خوفا من رذاذ المطر المنهمر, أن يمحو الأثر. دفعت جسدي بأقصى ما أستطيع كي ألتقطها, وأكتشف الوجه الذي طال زمن سره. غيرت الريح وجهتها تدفع بالصورة نحوي, لتطعنني ألف سكين عمياء, وصورة أختي التي أغمضت عينيها منذ سنين, تتشبث يدها البيضاء المتخشبة, فرشاة بلون الزهر, تحت شجرة التفاح.. قبل أن تثمر!
  • Like
التفاعلات: جورج سلوم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى