عبدالحميد البرنس - أكل رأسها

كان هناك إذن الفتوش، المقبلات، الأطباق الصغيرة، والسمبوسك اللذيذ، على قائمة الطعام، تلك القائمة المجلّدة، بغلاف لونه أحمر مصقول وسميك. و"كنت أنا وهي، هناك". "أما الشيطان، يا رفاق ليل هذا المنفى الطويل، فحتما والقادم يؤكد المزاعم، فكان ثالثنا. الخبيث. قادنا لعنة الله عليه حتى بوابة السرير وهرب. ولم يعد يُسمع بعدها صوت آخر هناك سوى أنينها العذب ولهاثي".

كانت هناك، على القائمة نفسها، أقراصٌ من الكبة المقليّة، إلى جانب سلطة البطاطا بالكزبرة الخضراء، فضلا عن ورق عنب محشو، وكذلك باذنجان متبل بالطحينة، ودجاج بالأرز، وصيادية السمك بالأرز، ناهيك عن "ورد الشام" والبقلاوة المصنوعة يدويا أو" كي لا أنسى في الأخير"، كان هناك، حتى ذلك النوع من الحلويات المسمّى ربما لحبّ صانعه له "ليالي لبنان". أما فيروز، الصوت الذي سيبقى، يا رفاق خمر ليل هذا المنفى الطويل، إلى ما بعد نهاية العالم والزمن، شاهدا بجمال ذاته، لا على خلوده فحسب، بل على معجزةِ ما أودع الله الرحيم هناك، في قرارة النفس، منذ فجر الخليقة، بوصفه "لطفا نورانيّا دافعا للحبّ والحياة"؛ فلا تزال تصدح، بصوتٍ خافت، على الخلفية". ومع هذا وذاك، أنت، قطعا، (يا صديقنا)، لستَ في "بيروت"!!

كانت إضاءة المطعم خافتة، مخمليّة كما الأحلام، فاتنة كما الغواية، آسرة كما السكينة حلّتْ على قلب مُلحد، وإن شئتم ناعمة كما ضوء قمرٍ متشردٍ حان ضلّ طريقه في مدارات الزمن إلى النهار، حتى أنّك لا تدري من أين يبدأ الحلم وينتهي الواقع. لو لا أن الإضاءة تنساب، وتحنو هكذا، متماوجة كما أحلام اليقظة النهاريّة في تدفقها الهادئ ذاك. وأنت في مركز كون المشاعر هذا، وما لا يحتمل، بالكاد تمنع نفسك عن القفز، والشروع بغتة مع فيروز في الغناء". الطرب. وستائر الواجهة الزجاجية سميكة حمراء، في انصبابها الناعم كخطٍّ فاصلٍ، غير منظور من شدة حضور ومرأى، بين عالمي الوهم والحقيقة.

هنا وهناك، على الجدران المكسوة بورق برتقالي مقوّى، ثمة لوحات متقنة لطبيعة صامتة تمثّل زهريات خزفيّة وخضروات وفواكه وأُخر تصور أواني وكؤوس نظيفة وزجاجات خمر فارغة. الطاولات بدا أغلبها خاليا. حركة الندل في المكان بلباسهم الأبيض النظيف انسيابية. فلا تكاد حتى تراهم. ثم إن احتجتَ لشيء فيمثلون بين يديك حالا كما لو أنّهم يتواصلون مع الزبن عبر التخاطر.
مع وجود هذا الإطار، الذي يوحي، ربما لرحابته، بطقسٍ لمائدة أميرية، لم يكونا، في جلستهما، إلى إحدى الموائد وملابسهما أنيقة آسرة، مجرد ثريين محليين، من القاهرة. كانا وببساطة منفيان شابان، مغرمان على ما بدا، وهما يتغزلان في بعضهما، منذ نحو الساعتين..

إنهما مها الخاتم وجمال جعفر.

كانت مها تعمل وقتها لقاء راتب جيّد في إحدى منظمات المجتمع المدني العاملة في القاهرة. والذين رأوها تلك الأيام لم يخالجهم الشك لحظة أنّها جاءت إلى الحياة كي تذكّر النّاس بإمكانية أن يتحققوا بأنظارهم متى رغبوا في رؤية مثال "الجمال السعيد" وهو يتنفس بينهم كالحقيقة. وقد فاتهم ربما بفعل النسيان وعماء الذاكرة أن جاذبية الزهرة المتفتحة على غصن عرضة على الدوام لعملِ منجلٍ طائش. كان جمال جعفر، ذلك الكادر الخطابي البارع مثل وغد، يتلقى منحة التفرغ للعمل العام من الحزب، كما لو أن المال يضلّ طريقه إلى جيوب من لا يحتاج إليه، إذ له شقيق يعمل كمساعد لرئيس الخدم في قصر الأميرة جواهر بنت عبد العزيز في جدة. لم يتوقف، طوال تلك السنوات، عن دعم أخيه هذا، بمبلغ شهري منتظم، إلى أن هاجر جمال أخيرا إلى أمريكا. فأرسل إليه شقيقه رسالة صحبة آخر تحويلة، مفادها: "هذه آخر عطايا سيف الدولة الحمداني لأخيه الأديب الضحضاح أبي الطيب المتنبئ". ثم ليأكلني الشيطان إذن لو أنني فهمت حينها معنى هذا "الضحضاح".

في أثناء جلستهما، بدا لجمال، طوال الوقت، كما لو أنّه ممسك بالخيوط مجتمعة في يده، ولم يدر في ذهنه مطلقا أن ما بدا له داخل ذلك المطعم اللبناني نعيما سماويا لتمردٍ تجلى من وهج الحبّ، على أرضٍ لم تدرك للأسف سوى بؤس الحرب وشقاء الكراهية، ليس سوى نذر البداية الحقيقية للمأساة. كان على جمال أن ينتظر وقوع تلك الخطوة، ليكتشف خرائب قصوره الثورية المقامة، على ربوة العبارات وقوالب ثلج أفكاره الباردة، وقد ذابت وغارت في باطن الأرض، بمجرد أن هبت عليها ريح التجربة العملية. كانت مها تمارس في المقابل أحلى مهنها تلك الأيام: أن تتحول هناك داخل عينيه إلى جمهور مثالي يحضر ندوة. وقد أخذت تفوح منها، رائحة "خفيفة"، من عطر يدعى "رُمبا". لم يكن التاريخ والمستقبل حاضران، ضمن حساباتهما الغائبة. كيف لا، وقد أصاب جمال منها عدوى اللحظة، منذ أن صافحها عند عتبة مدخل المطعم، وأخذ قلبه يخفق بشدة، خاصّة وقد بدا له، على خلفية مكالمتها التلفونية الغامضة، في أولى ساعات الصباح، كما لو أنّهما مقبلان معا، على نهاية حياة وبداية حياة. وقد كان. لمسة يدها، شعرها الطليق، إيقاع نهديها عند الخطو، نبرتها الهمس، نظراتها الحالمة، كل هذا وذاك، قد وشى لجمال، مع تقدم الوقت، عن رغبتها الجارفة تلك، في عبور الحدود معه "الليلة". بجرأة، عند منتصف الوجبة، وهي تضع عينيها الجميلتين داخل عينيه، سألته واضعة شرفه الثوري، على محك الخطر، إن كان هو على استعداد للطيران الحر، عاليا، إلى جانبها. بدا له لبرهة، ألا شيء هناك قد يحول، (وكان كل شيء لا يزال يتم لحظتها عبر أنظمة اللغة البحتة)، دونه وامتلاك تلك الأجنحة اللازمة للتحليق بعيدا، في فضاء أنثى مثلها، تضع وجودها، برمته، على كف المغامرة، مدفوعة بمفاهيم غامضة، عن الحرية والمساواة والعدل وكفاءة المرأة وحنكتها "الفطرية"، يا للغرور.

كان جمال ينظر، بالعين الجافة المتعطّشة نفسها، إلى مجرى نهر نهديها الضيق العميق، حين أجابها، والصوت يقتله الظمأ، قائلا: "حتما". قالت، كما لو أنّها تهدهد مخاوفه الخفيّة، إنّه سيرى أن البستان لم يُطأ من قبل قطُّ. قالت " أما ذلك (ونظرتْ إلى أسفل) فذهب مختوم يا رفيق"!

فهم هو حالا أنّها لم "تُطمس من قبل رجل آخر".

فأومأ برأسه، وفي عينيه حيرة مفتعلة، أنّه لم يفهم.

لما رأى غيمة من حزن، تعبر سماء عينيها، خشي أن تكتشف حقيقة ما هو نائم في نفسه، ويعلم جيّدا أنّه ظلّ دوما هناك، وأنّه قطعا لا يرغب في مواجهته. ما أيقظ أحدهم أفعى إلا لدغته. فقال: "ثوريتي مصانة. متسقة عندي المفاهيم مع الواقع. أنا (بدأ يتخيل جمهورا يحضر ندوة سياسية جامعة) لست منفصما. أصلي بلسان وأسكر بلسان. إلى درجة أن شقيقتي نفسها لو مارست حريتها جنسا مع آخر فهو أمر راجع لها، في الأول والأخير". لما أطرق أخيرا، فاته ملاحظة كيف أطل من عيني مها فرح وهي تقول:

"وكنت أعلم ذلك، منذ بداية علاقتنا معا، حبيبي"!!

كان لمعدته شهية وحش. وإن ظلّ يضبط إيقاع أكله، حتى النهاية، على إيقاع أكلها هي، مواصلا رقصة الطعام، كما قد يوهم خداع البصر أحيانا، ببطء وتلذذ. بينما ظلّ فضاء الجذب بينهما يتكاثف، في الأثناء، وقد تمّ التأكيد على "نصاعة المنطلق الثوريّ"، عبر ملايين الأمواج الخفية، أما للتأجيل فإطالة أمد المغامرة المفخخة بالوعود. كانت فيروز، تميمة السمو التقدميّ، لا تزال هناك، على الخلفية، تواصل صناعة الأجنحة الملائمة للتحليق، في سماء نائية عن شرور أرض التخلف وعالية، حيث أخذت تغرّد في أجوائها العنادل، على منوال جبران، هذه المرة. فنظر جمال، في نفسه، وقدر، ثم نظر فقدر، ثم فكر، بعد انقضاء كل قول وفعل، بصوتٍ عال مفعم الأغلب بأسى زائف في مجلس ليل آخر ضم حفنة من سكارى آخرين، قائلا: "جمال الأنثى يظلّ آسرا قويا، لحظة أن نتطلع إليه، وهو يشرئب هناك، من سماء "العفّة"، مدفوعين إليه، في حمى التحديق، بقوةِ جاذبية جارفة للرغبة، لكنه للأسف الشديد سرعان ما يبدأ في الذبول، ويفقد بريقه ذاك شيئا من بعد شيء، كلما دنا من الأرض وزدنا من تملكنا له". فقاطعه أحد أولئك السكارى متسائلا: "المهم. أو المختصر المفيد، هل اعتليتَ ظهر تلك الدابة، في النهاية، أم لا، يا رفيق"؟ "لم يدم الصمت المكهرب طويلا". هكذا، لما أجابه جمال جعفر، قائلا: "نعم وقد بكتْ هي من لذّة"، ضجّ المكان باستحسان السكارى وصفيرهم العابث. أو كما لو أنّهم قذفوا بأنفسهم جميعا بمائهم في اللحظة عينها داخل رحم أنثى لا تني تصنعه الحكاية. لقد بدا، "من الواضح يا صديقنا شكر الأقرع"، في أثناء جلسة السكر تلك، أن جمال جعفر اللعين هذا، كان يحاول الارتقاء جاهدا، وهو يفلسف الوقائع على ذلك النحو، بمواقف وضيعة أنهت علاقتهما معا، هو ومها الخاتم، بروافع فكرية وجمالية مكثَّفة، لا على مستوى تجذير الموقف في الأخلاق، بل على سبيل تدعيم تأويله هو الخاصّ كمبررِ حجبٍ لما قد حدث بالفعل". ثم ليأكلني أنا الشيطان لو أنني فهمت شيئا من فذلكة حامد تلك.

وقتها، اقترح جمال عليها أن يذهبا، كتوافقِ إرادتين على تقاسمِ سرير بكامل عرييهما، إلى شقته، في ميدان الحجاز، بعربة أجرة. إلا أنّها ردت العرض إليه بلباقة. وقالت إنها تفضّل أن تسير بقدميها، إلى جانب فارس أحلامها، نحو (أكثر لحظات الحبّ قداسة). كانت العبارة بين مزدوجين أكثر ما أثار ضحك السكارى الماجن. لقد فهموا وقتها من ذلك التعقيد اللغوي أن مها الخاتم ولا أقلّ ولا أكثر كانت تعني (المضاجعة). ما فاتهم جميعا إدراكه أنّهم استمعوا علنا إلى ما حدث في الخفاء بين عاشقين سابقين مرويّا على لسان كادر خطابي، مثل جمال جعفر، مهمته الأساسية تمثّلت الأغلب في جذب التعاطف، أما براعته فقد تجلت دوما في صنع العبارات والتلاعب المثير بها. حتى إنّهم لم يجدوا الوقت الكافي في أثناء وصفه السلس لأجواء ذلك المطعم اللبناني في نواحي الميريلاند للتحقق عمّا إذا ما كان داخل ذلك الصحن هو محض شيء آخر، غير الفول نفسه، الذي درجوا تقريبا على تناوله يوميا ولمدى سنوات متصلة، من دون حتى لحظة توقف واحدة؟!


عبدالحميد البرنس|

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى