محفوظ داود سلمان - بوابة الجحيم.. قصة قصيرة

في مقهى قديم هو مقهى ابو العبد صاحبه مهاجر من فلسطين وكان مقهاه في حي عز الدين وعز الدين هذا هو رجل صالح وضريحه على خط النار كما يقال فهو خط فاصل بين المبغى العام وبين مركز المدينة حيث يعيش الناس الصالحون وعبور هذا الخط يعني الوقوع في الخطيئة والخطيئة هي الرحيل الى الجحيم والجحيم لها بوابة مكتوب عليها ايها الداخلون ليس لكم من أمل وقد حفظنا هذه العبارة مبكراً انا وصديقي خالد وزيد من قراءتنا للكوميديا الالهية التي كنا نستعيرها من مكتبة المعارف وهكذا كانت تسمى في الخمسينيات في مدينة البصرة وكنا نعتقد ان البصرة هي مركز العالم فهي ثغر العراق(الباسم سابقا) تطل على الخليج فهي بوابة العراق ومنها نعرف ان للعراق بحراً او خليجاً كان يسمى خليج البصرة والناس في هذه المدينة لا ينسون رجلا ملاحاً اسمه السندباد كان يرحل دائما من مدينتهم نحو المرافئ في بحار العالم وهو الذي اكتشف ذات يوم ان الجزيرة التي يعيش عليها وبحارته تتحرك بسبب اشتعال الاحطاب على ظهرها كونها كانت حوتا كبيرا ، وفي هذا المقهى كانت تسكرنا اجراس الشاي التي يقرعها ابو العبد كل حين ويعتقد صديقي خالد اننا في هذا المقهى نستهلك اوقاتنا باقداح القهوة او نحسب الساعات بها اعتمادا على قصيدة الشاعر الانجليزي إليوت وكان خالد لا يمل الحديث عن قصيدة الارض الخراب او اغنية العاشق بروفروك، وكنت أحاوره بأننا نحن الرجال الجوف حقاً محشوون بالقش والغبار ولذلك كنا نجتر المفاهيم ونتداولها مثل عملة قديمة عن الضياع وجيل العبث والقيء والغثيان والثقوب التي تخر منها ذاكرتنا التي اشبعناها بمثل هذه المفردات نتيجة قراءتنا لسارتر او كامو او سيمون دبوفوار وكان الناس تذهب احداقهم بعيدا عندما يشاهدون نساء نصف عرايا من بعيد عابرين الى بوابة المبغى وكانت هناك موسيقى لا تنقطع من عربات الجنوب ووقع حوافر الخيل وارجاع تصهالها، في هذا المقهى وفي هذا الطقس الجنوبي الحزين كان المدرس أقصد مدرسنا وهو يعرض معلوماته المعرفية في الادب العربي يحاول ان يحشد فينا أماني للذهاب الى جامعة بغداد او غيرها ونحن مثل السائر في نومه غارقون في حلم وكنا ثلاثة حالمين ولكن احلامنا لم تذهب بعيدا وربما تدور في فراغ وفي عالم كئيب وفي كون محدود الابعاد وكان صديقنا زيد يكتب الشعر مبكرا ولكن لغته تقليدية لانه يقرأ ما يسمى بكتب التراث التي ورثها عن ابيه وهو معلم قديم وكتبه هذه قد تاكلت وتساقطت مثل اوراق الخريف وكان ينمو الملح في جدران حجرة الكتب هذه وقد امتد او تطاول مثل اللبلاب فسقط الملح على اوراقها وتغير طعم مضامينها وكان يلذ لنا ان ننادي على زيد بأسم ابي زويد وكان زيد لا يرتاح لهذه التسمية انما يثور ثورة حمراء وقد يغضب بشكل حاد عندما يمس النقاش الفكري او السجال السياسي (ونحن في بدايات البحث عن مفاهيم لتغيير العالم او تنظيمه او وضعه في انساق) الموروثات المعلبة عن الوجود او الدين او الرموز التاريخية، ورفيقنا زيد هذا حاول ان يبدأ كتابة الشعر مستخدما وزن الرجز الذي كان يسميه حمار الشعراء او مطية العروض وفي تجربة منه لممارسة الهجاء كما كان يفعل جرير كتب قصيدته الاولى في خطاب شعري حاد قائلا:

يا كافرا يا مؤمنا بكارل

ضد النبي المصطفى المناضل

رداً على محاولات لايضاح بعض مقولات كارل ماركس وهذه المحاولة كانت تكفي لفصل الشخص من مستقبله ووجوده في العهد الملكي الراحل. وفي الطريق الى بغداد كنا رفاقا متحدين في قطار الدرجة الثالثة وكانت ليلتنا الاولى ان ننام على مقاعد خشبية ويأكلنا تراب المحطات وكأننا جنود عائدون من جبهة القتال قبل ان نعرف معنى الحرب وكان يسلب نومنا هدير عجلات القطار ويقضم وقتنا الليلي ذلك الوقوف الممل في محطات غادرها العابرون، وكان يسعدنا طعام الافطار في اقداح من الفخار أو أقراص من خبز الشعير تبيعها عذارى او نساء متلفعات بعباءات سود او يطوقن رؤسهن بعصّابات سود ويحجبن ضفائرهن التي تلتمع في نهايتها اصباغ الحناء, وكان شعورنا يزداد فرحاً عندما نسمع الاجراس او صافرات حراس محطة غربي بغداد في الكرخ وفي المحطة تتجمع عربات تجرها الخيول الى مركز المدينة وكانت ساحة الشهداء قرب جسر الشهداء هي مركز العالم بالنسبة لنا فهناك نُزل 14 تموز وكانت الثورة في بدايتها وهي كما يقال تأكل نفسها أو تأكل رجالها وهناك الباعة الذين يفترشون رصيف ساحة الشهداء يبيعون الحليب ساخنا في الصباح والفشافيش كذلك وكان احدهم يقول اذا كان العراقيون يأكلون اللحم في إفطارهم فماذا يأكلون وقت الغداء او المساء ومن الممتع اننا كنا نعبر الجسر القديم على اقدامنا وكأننا نعبر جسر التايمس في لندن ونسمع دقات ساعة القشلة وكأنها دقات برج بك بن في لندن وعندما نركب باص مصلحة نقل الركاب الى كلية الاداب نختار الدور الثاني ذي المقاعد الخشبية اما المقاعد الامامية او السفلية فكنا نتركها للبرجوازيين من الموظفين او التجار وكنا نقتات في غذائنا اليومي على قطع من الخبز او اقداح من اللبن او صحاف من الرز في مطعم الشمس او شباب الكرخ فذاك هو محرابنا الدائم ولا بد من المرور الى مقهى البرلمان حيث يوجد صديقنا ابو ذر الذي يصر على رواية احداث من الماضي نجهلها ومنها قوله ان ما تحصل عليه هو حقك من الحياة. فنحن في جزر من الكفاف محاصرون لا نستطيع الخروج من كنْدة الى افاق اخرى او الوصول الى قيصر. فكل طموحنا هو كأس من الشراب في رومانس وهو حانة قديمة اندرست مع الزمن الجميل.

وكان صديقنا زيد يغافلنا او يفاجئنا بعد غفوة في مقهى البرلمان ويتسلل الى شارع المتنبي ويعود حاملا كدسا من الكتب القديمة وهي كراسات تتناول حياة مدحت باشا او داود باشا او الشاعر عبد الباقي العمري او الشاعر عبد الغفار الاخرس وربما دراسات عن المماليك لكن خالد بوعيه الادبي الحاد كان يسخر من ابي زويد ومن مشترياته ويريد منه ان يقرأ اليوت او دستويفسكي او شكسبير لكن صديقنا زيد يرى ذلك نوعا” من العبث و يعتبر التراث نوعا” من التابو او المقدسات لا يمكن المس بها وبالجمال الذي يتصل بالمورثات الثقافية فيه وبما ان ابا زويد يستهلك مصروفه في شراء هذه الكتب فلا يترك لنا فرصة للدخول الى مطعم تنبعث فيه رائحة الشواء مثل عمو الياس او الذهاب الى رومانس كي نغرق في كأس من الشراب وحتى لشراء ربطة عنق وكنا نعاتبه كثيرا” او نسخر من سلوكه فلا نحصل منه الا على جواب قاس هو: انا اشتري هذه الكتب للمستقبل فهي ثروة اورثها لاولادي او احفادي لاني احلم بأنجاب شعراء او ادباء يقدسون الكلمة يعبدون الحرف وكنا نجيبه قائلين انك تستحضر العربة قبل الحصان وتسعى وراء السراب وعندما يغضب كنا نذكره بقول تنسي وليامز، ان التسامح اهم من زراعة القطن وهي مقولة حفظناها من احدى مسرحياته لعلها عربة اسمها اللذة ونغريه بالذهاب عبثا” الى مشاهدة شريط روائي عالمي مثل اطول يوم في التاريخ او هملت بطولة لورنس اوليفييه او سبارتكوس – ثورة العبيد

يقول ابو زيد:- انا لا اعيش في الاوهام او في مخيلة الصور المتحركة أنا- أوسس لمكتبة فكرية ساغتذي منها ذات يوم واقتات عليها في شيخوختي سأعمل على ان تكون شيخوخة خضراء تحيطها جدران من الكتب والمصادر.

= كنت أجيبه انا على العكس تماما عندما اغادر الجامعة سأصنع رفوفا تملؤها شتى انواع الاقداح والكؤوس والزجاجات بأحجام مختلفة وبألوان متغايرة وبأعمار عتيقة او حديثة واستهلك نفسي في قطع من الليل وفي شظايا من كؤوسي، يرفرف على جمعنا لواء الشيطان يقودنا الى الجحيم مثلما كان يفعل ابو نؤاس.

حينما غادرنا جامعة بغداد، وتركنا وراءنا أحلامنا الى دروب التيه وعملنا في مدارس نائية في تخوم العراق اختفى ابو زيد وقد تكدست لديه الكتب ولم يدخر جهدا لتجميعها او تنظيمها في أنساق وبعد ان تزوج دخل في قفصه الذهبي وعاش في سلاسل من العزلة وأنجب اولاداً احدهم طبيب واناثاً غادرن اباهم الى عوالم اخرى بعيداً..

ذات يوم بعد ثلاثين عاماً التقيت بابي زويد في مقهى على شط العرب كانت السفائن ترسو على الساحل والصواري تمتد في فضاءات لا نهاية لها وبعد عتاب طويل سألته كيف حالك اين الشعر والمنجز الابداعي هل انت تكتب في صمت، هل ستخرج علينا بعمل ابداعي بعد سنوات الاعتكاف هذه وكانت المفاجأة في جوابه:

= انا لا أقرأ ولا اكتب الشعر والشعر لا يكافح الحشرات في البيداء ولا يقرأ اولادي الكتب التي تركتها طعاما للمحرقة واحطابا للشتاء اخي منو يقرأ الشعر اليوم قلت له: ألست انت الذي كنت تقول الكتاب غذاء الروح ألم تكن تتقمص شخصية عمرو بن بحر ابي عثمان الجاحظ وتأمل ان تدفن بين رفوف الكتب في مقبرة التراث.

= كان ذلك في زمان بعيد، لقد هجم عصر التكنولوجيا وقضمت مطارق الحديد في كيبورد الانترنيت أناملي مهجوراً على خشبات النيسان مثل بحار قديم…

= الا ترغب في شرب كوب من الشاي في مقهى ابو العبد واستذكار ايام زمان..

= لقد اختفت مقهى ابو العبد وأكلتها المدينة اما ابو العبد فقد سقط في فلسطين شهيداً اما صديقنا خالد فما زال متشبثا بالحياة يدّرس الادب العربي باحثا عن بوابة الجحيم

= وانت ماذا فعلت بنفسك هل ما تزال تردد قول السياب:

انا ما أزال وفي يدي قدحي

ياليل اين تفرّق الشربُ؟

= هل تذكر يوم قرأنا ابليس للعقاد كان يقول الشيطان فاتحة خير لانه يجسد الشر وانا قتلت الشيطان في داخلي..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى