رسائل الأدباء : رسالة من أبو بكر النمري إلى عباس محمود العقاد

02 - 06 - 1947

سيدي الأستاذ العقاد:

لو لم تكن حبسة المرض قد حجبت الأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات لجعلته الخصم والحكم في كلمتي هذه ولسرني منه أن يرميني بالدواة والقلم والرسالة ولكن لأمر ما لجأت إليك أيها الأستاذ الكبير وأنت عندي شيخ النقد النزيه وعصارة الأدب في هذا العصر.

قرأت كتاب (دفاع عن البلاغة) للأستاذ أحمد حسن الزيات فأكبرته ووجدت له شأنا أعظم من شأن غيره من مؤلفات البلاغة وعز على أن يأتيه النقص من أحد جوانبه ضنا بأدب الزيات أن يعتوره غبن في الأجيال المقبلة.

قال الأستاذ - نفعنا الله بعلمه - في كتاب دفاع عن البلاغة صفحة 72 المطبوع سنة 1945 ما يأتي:

(إن بلاغة التوراة والإنجيل في العبرية لا مساغ للشك فيها ولكنك تقرأهما في العربية فلا تجد أثرا لهذه البلاغة ذلك لأن الذين ترجموهما إلى لغة القرآن لم يكن لهم بآدابها علم فوضعوا لفظا مكان لفظ ولم يضعوا أسلوبا مكان أسلوب فجاءت الترجمة موضوعية عجماء لا تشبه لغة من لغات الناس في لون ولا طعم ولا شكل.) انتهى

يشعر الأستاذ الجليل بقوله هذا أن الإنجيل قد كتب باللغة العبرية والإنجيل مكتوبات متى ومرقس ولوقا ويوحنا وربما تناول أيضاً باقي أسفار العهد الجديد باليونانية ومعناه بشارة أو خبر مفرح.

والنصرانية تعتبر الإناجيل الأربعة سندا تاريخيا تغترف منه براهين تاريخية لتأسيسها ونظامها الداخلي وما كانت الأناجيل كتاب بلاغة في العبرية عند اصل وضعها.

فإن متى صاحب السفر الأول من الإنجيل قد كتب سفره ما بين سنة 44 - 50م بلغة التخاطب الشائعة في عهد المسيح بين يهود فلسطين وتلك اللغة هي السورية الكلدانية أو الآرامية

والإنجيل الثاني ينسب إلى مرقس وعلماء آباء النصرانية مجمعون على إن مرقس كتب في رومية للرومانيين تعاليم بطرس الرسول وكتب باللغة اليونانية بعد سنة 62م.

والسفر الثالث من الإنجيل يعزى إلى لوقا وقد كتبه في رومية زهاء سنة 62م باللغة اليونانية أيضا.

أما السفر الرابع من الإنجيل فقد كتبه يوحنا في أواخر القرن الأول من الميلاد يوم كان في جزيرة باطمس ويروى في أفسيس وقد اتخذ اليونانية أداة لكتابته.

يظهر مما سبق أن الأناجيل قد كتبت في غير العبرية ولم تترجم من العبرية إلى العربية. أما بلاغتها في العبرية بعد أن ترجمت إليها فمسألة ليس من السهل الجزم بها ولا يتأتى لمن يجهل العبرية أن يتهجم على مثل هذا الشأن عندما يتناول القارئ قطعة للأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات يحسب أن أمه كبيرة تقمصت فردا واحدا؛ فكان ما ينفحنا به قلمه يمثل لنا أن جماعة عديدة من أمراء الكتاب وقادتهم، يعملون الفكر، ويسدون المنهج لإخراج الكلمة، فيقدرون لكل عبارة قدرا، ولا ينشرون حرفا قبل أن يعرضوه على مقاييس محكمة من فصاحة في اللفظ، وبلاغة في المعنى، وشمل للحقائق؛ أما القطعة التي سبقت الإشارة إليها من كتاب دفاع عن البلاغة صفحة 72 فقد خرجت عن طريقة الزيات إلى طريقة من لا أدري.

فهل تجيز أيها الأستاذ العقاد - شملنا الله بعدلك - قوله إن بلاغة التوراة والإنجيل في العبرية لا مساغ للشك فيها. ولكنك تقراهما في العربية فلا تجد أثرا لهذه البلاغة؛ ذلك لأن الذين ترجموها إلى لغة القران لم يكن لهم بآدابها علم. . .؟

أفلم يكن للشيخ إبراهيم اليازجي علم بآداب اللغة العربية؟ أو ليست أسفار العهد القديم والعهد الجديد، المنسوبة إلى الآباء اليسوعيين في بيروت، من تعريب الشيخ إبراهيم اليازجي؟ فقد نشرت خبر ذلك مجلة الأجيال الجزء الثاني من السنة الثانية؛ ونشرته جريدة الأيام التي كانت تطبع في نيويورك في العدد الصادر بتاريخ 16 شباط سنة 1899؛ ونشريه جريدة البشير في العدد الصادر بتاريخ 16 حزيران سنه 1881؛ وأعادت نشرة مجلة الضياء في أربع صفحات بتاريخ 15 إبريل سنة 1899؛ وذكرته الكتب المدرسية المعنية بتاريخ الآداب العربية.

ومما يشهد به التاريخ أيضاً أن فارس الشدياق قد ترجم العهدين الجديد والعتيق بعناية الجمعية الإنجليزية ونفقتها؛ وطبع العهد الجديد عن هذه الترجمة سنة 1851 - ثم طبع العهدان أيضاً سنه 1857 وذلك في مدينة لندن.

أما النسخة التي قام بترجمتها مرسلو الأمير كان في بيروت فقد وقف عليها المعلم بطرس البستاني وكرنيليوس فإن ديك. (ومن الذين كان الاعتماد عليهم في ضبط الترجمة على قواعد اللغة العربية وفصاحتها الشيخ ناصيف اليازجي اللبناني والشيخ يوسف الأسير الأزهري.) راجع كتاب مرشد الطالبين صفحة 27 - المطبعة الأمريكية بيروت.

فهؤلاء جميعا كانوا ومازالوا يعدون من أولى العرفان الراسخين في علوم العربية وآدابها.

فنرجوا منك ليها الأستاذ العقاد ان تكشف لنا عن هذه الحقيقة وتعلل قول الأستاذ الزيات أمير البلاغة وصاحب الدفاع عنها بكلمة إنصاف ترد الفضل لذوي الفضل والسلام

(نابلس)

أبو بكر النمري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى