أمنية المحلاوي - الحمّامات الشعبية كانت أحد معالم قـاهرة المعــز

بنظرة إلى بعض العادات اليومية في الشارع المصري نكتشف كم هي المفارقات التي تثير الدهشة والتعجب معا، وأهم هذه المظاهر ما حدث مع الحمام الشعبي... هذا الحمام الذي كان أحد معالم قاهرة المعز، وما زال حتى اليوم يتمسك باستماتة ببعض مواقعه القديمة في وقت تحولت فيه الحمامات الشعبية إلى حمامات مغربية في مراكز تجميل في أماكن راقية، وتحولت القروش البسيطة إلى جنيهات كثيرة، ولأن الحمام الشعبي جزء من ملامح البيئة الشرقية فإن كثيراً من الأفلام العالمية عندما تطرقت إلى الشرق كان للحمام الشعبي حضوره القوي لرسم البيئة الشرقية، مثل فيلم (حمام تركي). وفي الأفلام المصرية والروايات الأدبية كان للحمام الشعبي حضور قوي مثل رواية (حمام الملاطيلي) لإسماعيل ولي الدين والتي أخرجها المخرج صلاح أبو سيف للسينما بسيناريو لمحسن زايد وكذلك فيلم (المجرم) لنفس المخرج وسيناريو الأديب نجيب محفوظ حيث يمثل الحمام جزءا من واقعية صلاح أبو سيف .وفي جولة (للرياض) بحثا عن معالم القاهرة القديمة تم اكتشاف بقايا للحمامات الشعبية ما تزال تمارس أعمالها وتقدم شهادة على اصرارها على البقاء ، ففي إحدى الحارات الشعبية في منطقة الحسين يوجد مبنى قديم أثري شبه متهالك وبسؤال بعض قاطني المكان عنه قالوا إنه : حمام طولون للرجال، وقال (عم سعيد) الشخص المسئول عن الحمام "ممنوع الدخول إلا لزبائنه".
وقال إن الحمام الشعبي كان من إحدى وسائل الترفيه عند المصريين، فكان يقصده زائروه راغبين في الاسترخاء أكثر منه استحماما، آنذاك كان في القاهرة وحدها سبعة عشر حماما، منها حمامات للرجال وأخرى للنساء والأطفال، كما يوجد حمامات تجمع بين الجنسين لكن يفصل بينهما منديل أو قطعة قماش من الكتان معلقة عند مدخل الحمام يعرف منها الرجال أن هذا هو الوقت المخصص للنساء فلا يستطيعون دخوله.

الحمام الشعبي له شكله الخاص حيث واجهة مزخرفة باللونين الأبيض والأحمر ويتألف من حجرات متعددة مرصوفة بالرخام الأبيض والأسود ولأنه ازدهر في زمن قديم لم يعرف اختراع المولدات التي ترفع المياه من الأسفل إلى الأعلى فكان يتم رفعها عن طريق ساقية يحركها ثور فوق مستوى أجزاء الحمام العلوية لرفع المياه من البئر إلى الفسقية. ويستقبل زائر الحمام الشعبي "المكيساتي" وهو المسئول عن الزبائن من أول خلعهم ملابسهم عند الباب ،ويقوم أيضا بعملية التدليك للجسد أولا ثم طقطقة مفاصل جسمه وبعدها يقوم بفرك جلده بالمقشطة التي تكون خشنة جدا وتستعمل غالبا للرجال، أما النساء فيستعملنها، وانما مغطاة بكيس حريري. يأتي بعد الفرك الاستحمام بالصابون واللوف الخشن أيضا، وبعد أن ينتهي زائر الحمام من هذه العملية التي تستغرق ساعتين يستطيع أن يتكىء في إحدى غرف الحمام ويرتشف فنجانا من القهوة مع سيجارة ويرحل .

هناك أيضا في إحدى حارات منطقة الحسين حمام حرفوش للنساء، ما زال باقيا، يفتح أبوابه من الساعة التاسعة إلى الخامسة للنساء، ومن الساعة السابعة إلى العاشرة مساء للرجال وتقول أم محمد المسئولة عن الحمام في الفترة المخصصة للنساء :كانت طقوس الحمام عند النساء في الماضي هي نفسها عند الرجال، الفارق الوحيد أن النساء يأتين عادة في جمع، ويكون غالبا بمناسبة زواج إحداهن، فيجلسن يتبادلن الأحاديث ويأكلن ويشربن، كل ذلك مقابل قرشين فقط، أما الآن فقد تغير الزمن، كل شيء تغير حتى الحمام الشعبي الذي أزاحه عن مكانته الحمام المغربي، هو يشبهه في الفكرة وانما يختلف في الشكل والإمكانيات. وبين سعر هذا وذاك فارق مثير للدهشة، فالقروش القليلة أصبحت مئات من الجنيهات، وأضيف إلى الحمامات بعض التطور في الأجهزة فقط، لكن اللعبة واحدة..

في منطقة مجرى العيون بالقاهرة بقايا سور طويل تتخلله ممرات عالية، وفوقه المجرى الذي أنشأه محمد علي ليحمل الماء الى القاهرة كلها، أيامها لم تعرف البيوت تمديدات المياه فوجد "السقا" فرصة لتوصيل الماء للبيوت ووجدت الحمامات الشعبية فرصتها للانتعاش طالما أن البيوت خالية من ماء للاستحمام، أما اليوم فلابد أن يقف المرء مذهولا ومعقودا على كثير من الدهشة: لماذا بقيت حتى اللحظة تلك الحمامات ؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى