مزهر جبر الساعدي - جنون منظّم.. قصة قصيرة

في الفجر

انمحت الى حد ما ظلمة الليل من أمامي فظهرت مضببه بالغبار بساتين النخيل

على جانبي الطريق، تتماوج على ذوابات السعف في هاماتها أضواء النهار الحاط عليها من الافق البعيد، ملونة اياها والغبار بألوان حمر وصفر، أسمع الأزيز الناتج عن احتكاك عجلات السيارة بأسفلت الطريق.

ــ ماما ليث ما أجه بابا ويانا، سألتي أبني يوسف.

ــ راح هو وخالك عمر الى بيت جدك.

ــ ماما والله لو كتيلي لجان رحت ويه، صار هواي مشايف جدي.

ثم سكت محدقاً فيَّ، عيونه في عيوني حتى تخيلته غير مَقَتنع بإجابتي له.وضعت يدي على فروة رأسه، أربت عليه بحنو وحب يؤلمني ما أنا فيه وما ال اليه الوضع، لم أكن أتوقع يوماً، أن ما هو كائن الان، يمكن أن يحدث، كان بعيد جداً ولا يمكن لأي أحد أن يتصوره مجرد تصور، استمرت التهديدات، لم تنقطع، يجب ان ترحل، نهضت من مكاني الى الجانب منه، تركته في مكانه، ينظر أمامه، الى شاشة التلفاز مع أن التيار الكهربائي انقطع من برهه بعد أن عاد لأقل من نصف ساعة لا غير.

أحكمت أغلاق النافذة والباب وأسدلت الستائر، لأمنع دخول الغبار الكثيف، اشتدت كثافته في هذه اللحظة، قبل أن أصعد الى الغرفة في الطابق الثاني، أشعلت فتيلة الفانوس الموضوع على المنضدة قرب الشباك، قلقي على يوسف جعلني أسرع في الصعود أليه، نام في الغرفة من ساعة، حينها تركته ونزلت الى زوجي لاطمئنه أكثر بخصوص رحيلنا مع أني أعلم أنه يعلم، لكن خوفي جعلني أقول له:- ــ أن أخي عمر رتب كل شيء، : أنا مع أبن عمي صادق في سيارته أما أنت ستكون في سيارة أخي عمر، هذا الترتيب أملته الضرورة بسبب الحمل وتأكيد الطبيبة على قلة حركتي في هذا الوقت، قاطعني

ــ أعرف، نلتقي هناك، وراء الساحة، أي واحد منا يصل قبل الاخر ينتظر، لم يكن لي من خيار غير ما عزمت عليه، نغادر غداً في الفجر. يؤلمني ما يجري، يحزنني أن أترك خلفي سنوات عديدة من عمري، قَضيتها هنا، في هذه الكلية، أشعر بها ذات فضل كبير علىَّ عرفتني بك حبيبتي. عشت فيها بسلم مع نفسي ومع الناس والطلاب والاساتذة. لم ينتابني أي أحساس بأني بعيد عن مدينتي، العمارة، المدينة الرائعة التي أحملها في كل جزء من بدني. أه ه ه كم يحزنني ما أنا عازم عليه غداً. لايزال صوت زوجي يرن في أذاني عندما دخلت الغرفة، رأيته لايزال في نومته. تمعنت فيه بعد أن أوقدت فتيلة الفانوس في غرفة النوم. فتراقصت الأضواء الباهتة في زوايا الغرفة، أخذت ظلالها أوضاع متباينة ومتداخلة، مشكلة هيئات شبحية لكائنات تبدت لي غير أدمية. تأملتها وأنا أنصت الى صوت الصمت حولي وفي الخارج. أطرقت برأسي أليه، أتفحص معالم وجه أبني النائم على السرير أمامي أذهلني ما فيه من الشبه التام مع أبيه. مع أنه أبني معي في كل لحظة على مدى أربع سنوات، هي سنوات عمرهُ. ما أثار انتباهي أليه، هو التطابق التام مع أبيه في وضعية النوم والتنفس الهادئ في سكينة تامة. متمدد على ظهره ووجهة نحو السقف، أصابع كفيه منبسطة مع جنبيه. وضعت كفي بين كفيه، أشعرتني أصابع يديه بدغدغه لذيذة عندما دفع الحلقة في أصابع كفي. تحركت الموجودات في الصالة الواسعة، لم يعد أي شيء ثابت أمامي بالإضافة الى أني لم أسمع الزغاريد من حولي، تهت مما أنا فيه، حلقت بعيداً عن مكاني ولحظتي. هبطت على درجات السلم واحدة وراء أخرى حين دخلت عليه، لا يشغلني اي شيء، حلقت مثل طير، خفيفة كما الريشة، في وقفتي أمامه، لم أشعر بالارتباك مثلما كان يحدث لي كما في أول مره، قبل أكثر من خمس سنوات. سلمته بحث التخرج أذ لم يبق ألا أقل من شهر على تخرجي من كلية التربية، قسم التاريخ قلت له:ـ

ــ دكتور عنوان البحث كما طلبت مني، أن يكون حول اطماع الكبار فينا، المتوائمة والملائمة مع صراع جوارنا الصغار علينا ايضاً. غطيت فيه التاريخ القديم مثلما أردت مني الى الأن. أخذ مني كل وقتي، لأن المصادر فيه كثيرة ومتنوعة، حاولت جهدي أن يكون البحث حيادياً وواقعياً. مما استوجب مني أن أدرس كل واقعة على حدة. عندما أنهيت شروحاتي عن محتوى بحثي لذت بالصمت، أنظر اليه فيما ملف البحث لايزال في يدي فهو لن يتناوله مني. عيناه معلقة في الفراغ وفي السكون المهيمن على الممرات ومكتبه والقاعات الفارغة من الطلاب ألاعدد قليل يجوبون حدائق الكلية، ويجلسون على المصاطب تحت الاشجار فالسنة الدراسية شارفت على الانتهاء. استأذنته بالانصراف لأستعد للامتحان. قال:ـ

ــ أنتظري لحظة، ألم يقولوا لك في البيت شيئاً… في الجمعة القادمة بعد أربعة أيام، سنكون في ضيافتكم أنا وأمي وأبي وبعض من أفراد عائلتي، بينهم أبن عمي، أمام جامع الزهراء في العمارة، أهلك على بينه، تم الاتفاق، خطوبة وعقد قرأن في آن واحد. أو مات برأسي كأشاره للعلم

ــ أعرف أنك على علم بجميع الأمور لأنها مدار حواراتنا تم أن معرفتك بها أمر مسلم به، لكني أردت تذكيرك لا غير.

أنظر الى أبني يوسف لا يزال يغط في نوم عميق، على نفس الوضعية لم يتحرك. أجدني أرتعب أذ تأتيني أصوات تشبه النواح أزداد هلعي عندما اشتدت الرياح دون لم أنتبه أليها. أذ أخذت تئن في حصاص الشباك. وفي الطريق تحت النافذة، اسمع نباح الكلاب وأصوات الرصاص القادم من جهات بعيدة. لاتزال ظلال الأضواء الباهتة المنبعثة من الفانوس قرب الشباك تتمايل على الجدران الأربعة. متحولة الى اشكال تشبه الى حد كبير الديناصورات والتي أخذت بدورها تعوي وتنبح وتخرج من افواهها حزم نارية نحو يوسف. من غير ارادة مني، ضربت بيدي الهواء الكائن قرب الجدار أمامي. وضعت كف يدي على زجاج نافذة السيارة الى الجانب مني، فسقط على مسامعي رنين ضربي للزجاج، مختلط مع صوت أبن عمي صادق وهو يلتفت مبهوتاً نحوي، احسست فيه من ملامحة مندهشة. قال:ـ

ــ أنظري الى الساحة، أصبحت قريبة منا، ماهي الا لحظات ونكون وراءها قلت له:ـ

لن يكونوا في هذه اللحظات هناك، في المكان المتفق عليه لان الحركة بطيئة على الطريق الترابي وسط بساتين النخيل فالحفر والمطبات فيه تمنع الحركة السريعة عليه.

ــ لأننا أيضاً تأخرنا كثيراً لان الزحام شديد، بسبب وجود الامريكان على الطريق، لم تنتبهي لأنك معي وليس معي

ــ أنظر قلت له:ـ

انه هناك، بين النخيل على بعد امتار من الساحة، انه وحده. اعتقد ان عمر في تلك السيارة العائدة لاتزال قريبة من نهاية الطريق الترابي الواصل الى الساحة مما يؤكد أنهم وصلوا قبل دقائق قليلة، قليلة جداً.

فغرت فمي، ضاعت الكلمات مني، غيبها الدوي الهائل والذي حط فجاءة حولي ومن غير ان اعرف من اي مكان صعد نحوي، رفعني الى الاعلى صحت في الهدوء العاصف:= اين هم:ـ اين هم،

ابن عمي صادق وابني يوسف.

اسمع رجع صدى صوتي المخيف. أكاد أختنق، يطفر الهواء من فمي. افتح فمي ملء شدقىَّ، استنشق الدخان أسأل الرياح

ــ اين الهواء تهتز تحتي النخلة العملاقة أحس بارتفاعها لان الغيوم السوداء عبرت مسرعة من فوقي وقريبة مني. رأسي في قلب النخلة، أنظر الى السماء اجدها غائبة عني، لم ارغير قطع سوداء معتمة، لا تسمح بالرؤيا الواضحة. اتلمس بقية اعضاء جسدي بيدي اليمنى، تحط في الفراغ. صحت بأعلى صوتي عندما أبصرت أبني يوسف ينظر فيَّ بالقرب مني، ظللت أصيح عليه. حين لم يرد على نداءاتي اصابني بالعجب من سلوكه فهو لم يعتمد على مثل هذا التصرف. قلت له بصوت نشيجي

ــ تعال، اسرع لأضعك في حضني.

لم يتحرك، ظل في مكانه على بعد بوصة مني. يحدق بأتساع عينيه اليَّ. ركزت عليه بحميمية الأم، لاستجلي ما هو فيه، رأيته يومأ الى الاسفل مني، جالت عيوني حيث أراد مني أن اعرف:ـ

النار ترتفع أعلى من سعف النخيل وغيوم من الدخان غطت الساحة فيما انتشرت في الخارج منها قطع إداميه مهشمة. أنتشلني عن الذي يجري تحتي، ضجيج المروحيات الأمريكية وهي تطوف في الاعلى. تحف هامات النخيل، تكاد تمس السعف فيها. ارتفعت احداها من بين نخيل البستان القريب من الساحة. دارت دورتين وفي الثانية صارت قريبة مني، مسافة نصف متر. ذهلت ودار رأسي اليه، رأيته من خلال زجاج النافذة أمامي. بالتأكيد انه هو، زوجي عرفتني عليه بزتهُ، أرتداها قبل ساعة عندما تركنا خلفنا بيتنا:ـ حتماً هو انه هو رغم ان رأسه في الكيس الأسود. تأكد لي يقيني بلحظة زمنية زمنها أقل من زمن حركة رمش العين، عندما سمعته يصرخ في الامريكان لمَ ـ انا الدكتور عبد الرضا حسين، أستاذ التاريخ أردت من اعماق روحي أن يهرب منهم ويأتي معنا ناديته، لكن في اللحظة التي هممت فيها ان اطلب ذلك، كانت المروحية الأمريكية قد اختفت وراء حزم الدخان تاركة خلفها الضجيج والصخب يتصادى بين النخيل

ظل الرأسان معلقين في قلب النخلة، لم ينتبه اليهما احد من المسعفين والناس ورجال الاطفاء الذين اخذوا الأن ينظفون الساحة من بقايا المفخخة والسيارات المحترقة.


* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى