حسن المسعود - الخط العربي والفن التشكيلي

عن كيفية تطبيق الخط الـعـربي في الفنون المعـاصرة، أرى من الأفضل أن أتكلم عن تجربـتـي الشـخصية فـقـط، لأني فنان تشــكـيـلي ولسـت ناقدا، وكما يقول المثـل الياباني: ـ الخط هو الإنسان نـفسه ـ أي إن كل خطاط له تجربة مميزة تعكس مســيرة حياته الـفـنـيـة.
منذ طفولتي كنت محاطا دائما بالخطوط العربية مكبرة على جدران المعالم المعمارية في مدينة النجف بالعراق.على جدران المساجد والمقابر والمدارس الدينية والمكتبات.
اكتشافي للخط يعود أيضا إلى خالي الذي كان خطيبا وكاتبا وخطاطا هاويا، رايته يخط بقلم القصب وبالحبر الأسود وعمري خمس سنوات.
في العاشـرة من عمري كنت اعمل خطوطاً جذبت انـتـباه المعلم في المدرسة الابتدائية ونلت تـشـجيعه، كما ساهمت بمـعارض الرسم والخط لكل سنوات الدراسة الابتدائية والمتوسطة. ومن جهة اخرى عملت بعض اللوحات الإعلانية لمحلات تجارية في مدينة النجف.
في عام 1961 وعند إكمالي المتوسطة رحلت من النجف الى بغداد وعملت مع بعض الخطاطين هناك، فتعلمت بعض أساليب الخط وتقـنياتة، ولكني بقيت في عمل تجاري يسـتجـيب لمطالب الدعاية والإعلان، بينما تـنبض في داخلي احساسات عميقة بالرغبة في التعبير الفني، ويراودني باستمرار حلم الذهاب إلى باريس لدراسة الفن.

بعد ثمانية أعوام من العمل كخطاط في بغداد سنحت لي الفرصة للذهاب إلى باريس عام 1969 فدخلت المدرسة العليا للفنون الجميلة ـ البوزارـ واثناء دراستي كنت أريد معرفة الفن الغربي منذ أصوله الاغريقية مرورا بفنون عصر النهضة الاوربي في القرن السادس عشر حتى القرن العشرين حيث تنوعت وتعددت الحركات الفنية الحديثة.
وفي ـ البوزارـ درست أيضا الـتقـنيات الأسـاسـية للعـمل التـشـكيلي في التصوير الزيتي وتحضيرالألوان، اضافة لدراسات جانـبـــية في المنـظورالهندسي، والمعمار، والموزاييك، والفريسك، ودروس نظرية متعددة.

عندما تركت العراق كنت قد جلبت معي بعض أقلام القصب للخط، أعانـتـني على دفع مصاريف الدراسـة بعـمل بعض الخطوط العربية لصحيفة جزائرية تصدر في باريس.

دراسـتي في ـ البوزارـ استـمرت خمس سنوات، في عام 1975 حصلت على الدبلوم الوطني العالي للفنون الـتـشـكيلية، ولكن في ذلك الوقت بدأت اشعرانني اتجه نحو طريق مغلق وأحســسـت بضرورة إيجاد اسلوب شخصي، فاتجهت أولا نحوالتأثر بفـنانـين أعطوا أهمية للتعبـير في رسومهم بخطوط قليلة، حركات تبسط الشكل في اقل كمية من الخطوط، ثم بدأت انظر للفن التجريدي واهتم به محاولا إدراك ُكنهُ ما أراه، وفي هذه اللحظات بدأ الخط العربي يدخل لوحاتي، فشعرت بالسعادة لهذا الاقتراب من الخط، ولكن الخط في البداية كان مجرد مادة تزويقية ، اذ مازلت استعمل المادة الزيتية وقماش اللوحة واللذين لايتجاوبان مع الحس الداخلي العميق عندي، فأدركت ان المادة التي ُتستخدم في انجاز العمل الفني هي شي مهم جدا.

بعد العمل لمدة ثماني سنوات كخطاط في بغداد ثم خمس سنوات لدراسة الفن التـشـكيلي في باريس. كنت اشعر في عام 1975 باني لست خطاطا بالمعنى المتعارف عليه تقليديا ولست فنانا تشــكــيلياً بمستوى الدبلوم العالي الذي منحتني اياه ـ البوزارـ فالخط الذي كنت أمارسه في بغداد لم يعد يقـنعني والتصوير الزيتي الذي علمتـني اياه ـ البوزارـ كذلك.
مالعمل اذاً؟ والى أين الذهاب؟ تذكرت آنذاك مثلا افريقيا يقول: ـ عندما لاتعرف أين تذهب تذكر من أين أتيت ـ فبدأت ادرس الخط العربي من جديد.
ماهو الخط العربي؟ ومن أين ياتي؟ كيف عاش الألف سنة الأخيرة؟
خلال ســت سنوات أقدمت على تحليل كل الوثائق التي استطعت دراستها في الكتب وفي المتاحف، أوعلى جدران المعالم المعمارية. ثم ذهبت اطرق أبواب اخر كبارالخطاطين، كالخطاط حامد الامدي في اسطنبول ومجموعة من خطاطي القاهرة، طارحا عليهم الأسئلة حول ما لم اتمكن من إدراكه.
ثم إن الثـقافة التاريخية والمعرفة الـتـشـكيلية التي حصلت عليها في ـ البوزارـ أعطتـني منظاراً آخر لرؤية الخط العربي القديم، فبدأت أتحسس الفروق الرهيفة في هذا الفن، وملخص نتيجة هذه السنوات الســت من البحث صدرت في كتاب اسمه ـ الخط العربي ـ ظهر بباريس عام 1981 يتـناول لمحات عن الجوانب التـقـنـية والتـشـكيلية والاجتماعية باللغـتـين العربية والفرنسية، مع صور وخطوط متعددة.

وفي هذه الفترة، أي في بداية الثمانــيــنات، تركت الزيت والقماش ورجعت إلى الحبر والورق، بدافع من رغبة داخلية غامضة. ولكني الان اشعر بان الحبر والورق هي مواد الكــثـيـرمن الفنون الشرقـية، بينما الزيت والقـماش رافـقا مسيرة الفـن الغـربي منذ قرون عديدة. وحتما إن المادة اللونية تلعب هنا دورا نفـسـيا، فالماء الملون ليس كالدهن الملون، والورق الذي يمتص جزءاً من الحبر ليس كالقماش المغطى بمادة صمغـية تمنع امتصاص الألوان.
وفي هذه الفترة أيضا قررت ان أعمل تكوينات تجريدية أساسها الحرف العربي ولكن دون أي معنى غير شكل الحروف، اكـتـشـفـت بعد فـترة قصيرة إن هذا الطريق لايناســبـني، لأني أضع اشكالا ً تـتـشـابه باسـتـمرار أي إنني أضع دائماً التساؤلات نفسها والأجوبة نفسها من الناحية التــشــكيلية، بـيـنما إن الكلمات يمكن ان تفرض بمعناها اشكالاً لم أفكر بها مسبقا. مثلا ً إن النارمن طبيعتها الصعود إلى الأعلى، وخط هذه الكلمة يوحي بتكوين عمودي يرتفع بيـنما خط كلمة ماء سيأتي بشكل أفقي، يود الهبوط الى الاسفل.
وهنا جاءت الحاجة إلى نصوص لخطها، أي عبارات سأخطها؟ فضرورة التحطيم للعبارة وإعادة بنائها تـتـطلب أن أجد نصوصا أدبية يمكنها تحمل هذه المعاناة. وهكذا فرض الشعر العربي دوره، كمادة أدبية لعملي الفني.
أولا، لان الشعراء سوف يزيدونني ثراءً بصورهم وأفكارهم وأحاسيسهم. وثانياً لان الشعر يعطي للتعـبـير الـتـشـكيلي الحرية في كسر الكلمات من جهة وإعادة بنائها من جهة اخرى.
فالشعراء هم أيضا يلعبون بالكلمات.
وهكذا فان توجهي نحو الشعر فرض علي تأمل المنظر الشعري العربي منذ الأفق البعيد الذي يتــيه في لانهائيات الفضاء الصحراوي، أي منذ زمن المعلقات.
في الوقت الذي عبر فيه العرب القدماء بواسطة الشعر كان الخط في طفولته، لكنما الابداعات الشعرية آنذاك كانت تخفي بداخلها ما سوف يكون عليه الخط العربي فيما بعد. لا نهما كليهما يفخمان الشكل ويحجبان المعنى.
الشعراء العرب القدماء الذين الذين كانوا يعيشون في الصحراء تركوا لنا أشعارا تجعلنا نشعر بالفضاء الواسع، فالزمن والفضاء الصحراوي كانا لانهائيــين، وكان كل إنسان هناك يشعر بألامتلاء لانه مركز دائرة واسعة يرسمها الأفق ، فالمسافة نحو كل الأفاق ومن كل الجهات في الصحراء متساوية إزاء عيون الإنسان، والإنسان يكون وسط دائرة فسيحة جداً يحاور الضوء في النهار والنجوم في الليل.
الشعر العربي ماقبل الاسلام كان في أكثره إنشــادا، وقد صاغه الشعراء كالحلى، أو كتكوين خطي ماهر، وجعلوه يعكس هذا الفضاء الصحراوي، بأسلوب رزين وكلام بسيط.
هنالك شئ مهم في الشــعر يقترب من الخط، فالشــاعر لايبـوح بكل الكلمات ولا يعطي كل المعاني، إنما يترك لذكاء السامع إكمال الصور الشعرية، وإعطاء معنى قد يختلف عما أراده الشاعر، فيسمح له بان يلبي رغباته الذاتية، وبالتعـبـيرعن احساساته وأفكاره الشخصية. فتـمتـزج كلمات الشاعر بافكارواحساسات السامع.
وهذه الإمكانية المعطاة للقارئ ما بين الكلمات، لكي يخلق صورهُ هو أيضاً، لها أهميتها الكبرى للإنسان، لان العقل البشري بحاجة لتحرير صورُه وأفكارُه وإخراجها كل يوم، وهكذا إن الشعر يكون هنا ككل الأعمال الفنية، يعطي للإنسان امكانات إخراج فيض العواطف من القلب، وبالشعور بأنه هو نفسه شاعر، عند سماع أو قراءة الشعر.
الخط يشارك الشعر جوهريا في هذه القدرات التعبـيرية. ولما كانت كل الفنون أخوة، وكل فن يضئ الطريق للاخر فان اقـتراب الخط من الشعر يزيد من قدرات التعبـير التــشــكيلي للخط.

اتجه دائما نحو الشعراء، آ ملا ان يغذواعملي التــشــكيلي بصورهم الشـعرية، وهكذا تمكنت باستمراران أجد أجواء جديدة، فاني ابحث عن الإيحاءات ككل فنان، ورغبتي أن تلــتقي صوري الخطية بصور الشعراء لكي يولد طريق جديد، أريد أن أضع صورا مرئية بجانب صورهم الافتراضية.
واني متأكد هنا من صحة استعمالي كلمة ـ صورـ عند التكلم عن الخط، فبالنســــبة لي الكتابة هي بنت الصورة، فالكتابة السومرية والمصرية القديمة لم تكن إلا صور مبسطة، والحروف الأبجدية فيما بعد كانت كذلك، والخط ماهو إلا جوهر صور، ولكن أي نوع من الصور؟ إنها صور أصلية وليست صوراً طبيعية أو فوتوغرافية، صور كالعلامات تنـشـط نظر وتفكير المشاهد.

*

مابين عام 1972 وعام 1985 شاركت مع الممثـل الفرنسي كي جاكه والموسيقي فوزي العائدي بإقامة حفلات في قاعات مليئة بالحضور. كان الممثـل يقرا الشعر باللغة العربية واللغة الفرنسية، والموسيقي يعزف ويغني المقاطع الشعرية نفسها، وأنا أخطها على جهاز يعكس الخطوط على شـاشـة كبيرة كالســينما، وقد لاقى هذا العمل نجاحا فرض علينا الإبداع والابتكار المتواصل.
من خلال الاحساسات المكثـفة داخل الصالات وجدت نفسي اقترب في خطوطي من الموسيقى تارة، وتارة اخرى من نص الشعر، فأصبحت خطوطي ملتــقى لأكثر من فن لوأضفنا صوت الممـثـل وقدراته التعـبـيــرية. فكنت أسرع أحيانا للحاق بزملائي، مما جعلني اكسر العهد الذي فرضته علي مهنة الخط بالبطئ في الإنجاز، ولكني كنت واعيا بضرورة عدم التضحية بجماليات الخط العربي، فالاسراع نعم، ولكن بشرط الحفاض على هذه الجماليات.
في الخط أمام الجمهور وتحت تأثير مشاعر مختلفة، وتحت رقابة عيون مئات الأشخاص في القاعة تبرز صعوبات جديدة كل مرة، فالضوء المسلط علينا لكي يرانا الجمهور في صالة مظلمة، يكون بالنسبة للعيون كالنظر با تجاه قرص الشمس المحرقة، وهنالك المفاجئات الغير منتظرة، فكل ماهو مفاجئ في العمل الفني الحي أمام الجمهور تتطلب مواجهته طاقات واسعة، يبحث عنها الذهن والجسم هنا وهناك لحظة الخط. ومقابل هذا الكفاح تأتي لحظات حاسمة يولد فيها مالم يكن منتظراً، إذ تتداخل الفنون فيما بينها بما هو أساسي وجوهري.
وبعد هذه التجربة التي امتدت اثـني عشر عاما، قدمنا خلالها العشرات من الحفلات الثـقافـية، وجدت ان معالجات جديدة للحرف أخذت تظهر في خطوطي على الورق، ففي هذه الحفلات كان الشعر يتكلم عن الألم ويدعوا للأمل.فتخللت خطوطي حالات متنوعة المظاهر كفصول السنة، حيث إن الشتاء الحزين يختفي ازاء الربيع الزاهر. وهكذا كنت اعكس في خطوطي التي اعملها بمرسمي الشحنات الدراماتيكية لهذا العمل الفني امام الجمهور. فان كان الشعر يعكس الألم استعمل آلات عريضة تغلق الفضاء وتـثـقـل التكوين، وان تحشرج صوت الممثل تبطئ يدي في هدوء وقور، ولكنه إذ يغضب ويثور تتبعه اليد في حركات هوجاء. كنت أحاول أن أزج الخط العربي القديم نحو تعبير خطي جديد يوازي التعبير المسرحي للممثـل والموسيقي.
وفي كل اسبوع كنت اعتزل وحيدا بمرسمي لبضعة ايام، لأعمل خطوطا على الورق، فلاحظت تدريجيا مدى التأثر والتبادل مع ما أعمله على خشبة المسرح، فتركتُ هذه التأثيرات تأخذ مكانها في أعمالي الخطية على الورق، وتدريجيا أخذت الحروف العريضة والحركات الراقصة تكون تشكيلاتي الخطية، خطوط حديثة. ولكن تجاورها دائماً بعض السطور من الخط الكوفي القديم، لعدم الـتـنكرلأول خط عربي يقترب من الرسم. والخط الكوفي في لوحاتي الخطية يكون كخط أفق تحت الكتلة الخطية الموضوعة كتـمثال كبـير في الصحراء.
خطوطي الحديـثة تبـدي بوضوح انتماءها للخط العربي، لأنها نابعة من كل ماتعلمته اثناء عملي مع الخطاطين لكنها بنفس الوقت لا تشـابه الخط العربي المعروف، فبعد سنين عديدة من الاغتراب لايمكن أن يبقى الإنسان كما هو سابقا، فالخط ماهو إلا مرآة تعكس حياة الخطاط نفسه.
لو نمعن النظرجيداً في كل الخطوط القديمة، فإننا سنرى انه في كل قرن شهد الخط العربي تحولات وابتكارات، وفي كل منطقة جغرافية سافر اليها الخط

العربي ظهرت عليه ملامح تحولات لم تكن متوقعة وعلى سبيل المثال فهل يقبل الخطاط الكوفي القديم ماعمله المهني في الطابوق بما يسمى الخط الكوفي الهندسي؟
لا اريد هنا القول إن على كل الخطاطين أن يتركوا أساليبهم التقليدية نحو خط حديث، فنحن بحاجة لان يمتلك الخط العربي تيارات متعددة، وغالبا ما ارجع للنظروالتمتع بما تركه لنا خطاطون كبار كالاماسي والحافظ عثمان وراقم وهاشم. وأثمن وأقدر كذلك محاولات جديدة داخل نطاق الخطوط الكلاسيكية لخطاطين معاصرين. أراها هنا وهناك في بعض البلدان العربية والإسلامية.

*

أعود ألان لأذكر بعض الشعراء الذين دخلوا في خطوطي بأشعارهم، وعلى سبيل المثال منصور الحلاج من القرن العاشر، حيث يبتكر في شعره وببضع كلمات تكويناً موسيقياً كديكورعالٍ مليء بالانفعالات، اسلوبه الشعري لايشابه أي أسلوب اخر بقوة صوره الشعرية وتكويـناتها المتـناظرة، أبياته الشعرية المدهشة تطرب الإذن كما يقول مثلا:
روحه روحي وروحي روحه إن يشـــــا شـــئت وان شــــئت يشــــا
كلماته المتــقــابلة كالمرآة ألهمت الكثــير من الخطاطين في الماضي ، وفتحت أسلوبا بالخط، كما نرى في اللوحات الكثــيرة التي تزين الجامع الكبير في مدينة بورصة بتركيا. ولكن هذا الهدوء في التـناظر في شعر الحلاج يخفي انفعالات واندفاعات آتية من الداخل مما يميل بخطورة الخط الشاعري كالقارب المتماوج وسط العاصفة:
مازلت أطفو في بحار الهوى يـــرفــعــني الموج وأنـــحـط
فــتارة ً يرفعـــني موجـــهـــا وتـــارة أهوى وأ نــغـــط
إن صورة شعرية كهذه لايمكن خطها دون التأثر بعواطف قائلها، ولا يمكن للخطاط أن يتجاهل الانفعالات للشاعر، ففي عبارة كهذه تكون أحاسيس القلب طريقا ً للمعرفة، ولاسيما إن هذا الشعر واضح ويتميز بالبساطة الموسيقية. ويقـترب شعر كهذا من الخط عبر التنغيم الموسيقي والهندسية للشكل العام، كما انها كلمات ـ مسموعة كانت أو مكتوبة ـ تخفي أسرارا تجعل كل واحد يفسرها حسب وعيه لها. وهكذا فان هذه الأبيات دخلت عالم الفن بسبب كونها تسمح بتفسيرات متعددة.

مثال آخرلشاعرآخرعملت له خطوطا أيضا وهو ابن زيدون ـ القرن الحادي عشرـ ترك لنا ديوانا ًكبيراً يتناول قسم منه حياته السياسية، لكنما الجانب الخالد من أشعاره ماهوموجه للأديبة الشاعرة ـ ولادة بنت الخليفة المستكفي ـ وحبه لها. فقد كتب لها أشعارا طيلة حياته، تعتبر اليوم من الأبيات التي تمتاز بالقدرات الجمالية العالية في بناء الشعر العربي. فإزاء الم الفراق يوجه ابن زيدون كل أحاسيسه نحوالابتكارالفني، فان يرى غيوما تمرفي السـماء يكلمها:
ياساري البرق غاد القصر وأسق به من كان صرف الهوى والود يسقينا
ان هذه الصورة الشعرية عند ابن زيدون إنما انبعــثـت من أحاسيس القلب مباشرة، لشاعر هضم الـتراث الأدبي العـربي الـقديم، وكل صور ابن زيدون ملونة وديناميكية، فبمجرد ان يمر النسيم يكلفه ابن زيدون بنقل رسالته إلى ولادّة:
ويانســيم الصــبا بلغ تحيـتـنا من لو على البعــد حيا كان يحـيــينا
وأمام الآلام القلب يجد الشاعر مايؤاسيه في الخلق الفني، بكلمات عفوية بسيطة، إذ يرى ـ ولادّة ـ عبر كل مظاهر الطبيعة.
وهكذا، إنني دائماً أرى منظرا طبيعيا عند قراءتي لأبيات ابن زيدون، فأشاركه الأفراح والأحزان والأمل. وتدخل هذه الرؤى خطوطي فيما بين الحروف ومعنى الكلمات.

*

كيف يتحول بــيت من الشــعر إلى لوحة خطــية؟
كيف تتحول الكلمات إلى تكوين خطي؟ بالنسبة للخطاط في الماضي إن أراد ان يخط بيتا من الشعريختار اسلوبا كالـثـلث أو الديواني أو الفارسي ...الخ، ويحاول إتقان الخط بشكل يوحي باحترام القواعد المعترف بها من الكل، وان ما يضيفه الخطاط من عنده، إنما هو إعطاء الخط حيوية وقوة أكثر مما يستطيع من جهة، ومن جهة أخرى يحاول ابتكار اشكال جديدة للتشــــكيلة الخطية، بإيحاءات طرق كبار الخطاطين القدماء.
بالنسبة لي فأنني استخدم الخط بطريقة أخرى، وتغلب على خطوطي تأثيرات المناظر والصور. ابتدئ دائما بتخيل الصورة الشعرية وانتظران تفرض احدى الكلمات نفسها لكي أكبرها وأعطيها مظهرا جديدا، أحسب عدد الحروف المستــقــيمة ثم الحروف المنحنية لكي أكوّن بناء متــناغما من خلالها، فأبقى أتصورأشكالا مختلفة لهذه الكلمة، أفكر بها بكل الأساليب التي اعرفها، فاعمل بقلم الرصاص تخطيطا سريعا للشكل الجديد، أغير أشكال بعض الحروف التي لاتريد المشاركة بالشكل العام، أو أبدل مكانها في الكلمة. وكمثال يمكن رفع حرف الالف من أول الكلمة وتصعيده الى الأعلى ليساهم في بناء سقف التكوين الجديد، ولا أنسى في هذه اللحظات الصورة الافــتراضية للشــاعر، وأخمن بالحدس ما أراد قوله خلف الكلمات.
في البداية دائما ماتكون الصورة الشعرية غير واضحة لي، بعض السطور تظهر أسرع من الأخرى، أحيانا في أول يوم وأحيانا لشهور، وهذا البطء يعني إنني لم استطع حل لغزالبيت الشعري ولابد من الاصرارعلى الاستمرار في البحث.
الحروف عندي ليست مجرد كتابة إنما هي عمل فني بحد ذاتها، والحرف هو نفسه طاقة، ولابد ان يعكس شـيـئـيـن، الأول هو القوة والدقة والثاني هو الاسترخاء والرهافة، فيجب ان يعكس الحرف مسيرته هو نفسه، الدفع مرة والسحب مرة اخرى، السرعة أو البطء، الثقل أو الخفة، الاستقرار أو الانفجار.
إن عملية ولادة خطوط جديدة هي معاناة أيضا، إذ لابد من المروربحالة التمرد على الخط القديم والانفصام عنه، ومن ثم العودة للحوارمع هذا الخط القديم نفسه، ففي يوم اشعر باني مع الخط القديم وفي يوم اخر أجدني بموقع مضاد له. أدرك جيدا ضرورة الاستلهام من تركة الخطاطين القدماء، ولكن في الوقت نفسه أريد التغلغل عميقا في الحياة المحيطة بنا، ومعرفة موقعـنا في العالم، ودورنا الثقافي نحو مجتمعنا ونحو البشرية جمعاء، وهنا تبرز كلمة رهيبة للفــيلســوف الصيني كونفــســيوس: ـ من لايتقدم كل يوم، إنما يتراجع كل يوم ـ

*
إن معرفة تحضير المواد لمهنة الخط ضرورة لابد منها، فالخطاط القديم كان يحضر أقلامه وحبره. مثلا إن قلم القصب يبقى رفيعا بالنسبة لحجوم لوحاتي، وأردت أن أعمل آلات تخط مباشرة بالعرض المطلوب. فقد شاهدت في عام 1979 أكثر من مائة خطاط ياباني جاؤوا إلى باريس للخط أمام الجمهور في جامعة السوربون، بقوا اســبوعا كاملا شــاهــدت خلاله كل هولاء الخطاطين يضعون أوراقهم الكبيرة على الأرض، وبفرشــاتهم ا لعريضة كالمكنـسـة الكبيرة، يرقصون بحركاتهم الخطية كالـبرق الســريع على الورق. ومنذ تلك الســـنــين أعمل خطوطا عريضة بشــكل مباشــر، محاولا الاســراع قدر الامكان، وابتكر الالة للخط بالعرض المطلوب. فالخط العربي التــقـــليدي يخط بالقصبة، بينما كل الخطوط العريضة التي عُملت على الجدران كانت ُترسم وُتملا بفرش دقيقة.
وأعرض آلة عملتها أنا لحد الان كانت بعرض 50 سنتمتر والخط المباشرعلى الارض كان على ورقة بقياس 3 أمتار × 5 أمتار.
إن رؤية الخطاطــين الـــيابــانيـــين أثمرت بعد سنوات عديدة. وهكذا إن تقـنيات الخط الياباني أضافت جديدا لتـقـنيات الخط العربي. ثم إن ماعـملته لايمت شكليا بأي صلة للخـط الياباني، إنما هو خط عربي حديث وان الخط الياباني اعطاني فكرة فقط ، فكرة الخط العريض والسريع، فكرة لاقت لها صدى في احساساتي الداخلية.
أكثر خطوطي أعملها بآلات مصنوعة من الكارتون السميك أو الفرش، الات تشابه منقار القصبة الخطية المعروف سابقا ولكن مُــكبراً عشرات المرات. أغمسها بالألوان وأسحبها ضاغطا على الورق، دائما ابتغي المحافظة على مظهر للحروف يوحي للمشاهد بان هذه الحروف آتية من الخط العربي. وذلك عبر الانحناءات للالة على الورق. بعض الحروف تشبه تماما شكل الحروف القديمة وأخرى تغيرت بســبب الظرف الجديد، أحاول ان أبقي على اشكال الحروف من حيث شكلها العريض والرفيع حسب قوانين الخط العربي القديم، كما أعي ضرورة الابقاء على كل ما هو جوهري في الخط العربي، أحاول ذلك قدر الامكان وأود ان يبقى هذا مرئيا ً في خطوطي، فالهدف بالنسبة لي هو إضافة تطوير وتـجديد في الحروف العربية كما حصل باستمرار في تاريخ الخط العربي بالماضي، وكذلك أريد فتح مجالات جديدة للخط تتلائم مع حياتنا المعاصرة كادخال الخط في العمل المسرحي مثلا. أريد أن تكون خطوطي نابعة من الخط العربي القديم ولكن لاتشابهه. اهتم كذلك بفضاء الخط العربي، أي البياض المحيط بالشكل للحروف. أرى التكوين الخطي كشجرة وحيدة في فضاء الصحراء حولها وخلفها فراغ لاحدود له.
هنالك أشياء كثيرة آتية من الخط العربي القديم تبقى تفرض جمالياتها، كالأناقة التي صاحبته منذ البداية، وغلبة الاستدارات في أكثر أساليبه واتصال الحروف ببعضها، فيكون للكلمة مظهر جسم مكتمل، والمقادير السليمة التي درست منذ قرون عديدة، أي نسبة الطول للعرض ... والخ، كل هذا الحساب يتم من قبل الخطاط نفســه بتخمين وحدس شخصي و يرتبط بذوقه وثقافته.
في الخط الحديث يمكن ان نستـفـيد من كل هذه الـتركة الـثرية ، وان نضيف لها كل ما تعطينا الحياة المعاصرة ، من معلومات وثـقافة جديدة واكتـشافات بمجال الفضاء، اهتم بالفضاء في كل خط أعمله وأرى اشكالي الخطية كتماثيل عالية في السماء، تقاوم ضغط الفضاء وتكافح ضد سحب الجاذبية الأرضية.
استلهم من الطبيعة اشـكالها، فكم من مرة أرى منظر شجرة مائلة يثــيرعندي الحزن لأنها توحي بالسـقوط بينما تتجول عيوني نحو شجرة أخرى منتصرة في الصعود، يدفع النســغ أغصانها نحوالأعلى، وعندما أرجع لمرسمي أحاول إن أجد مظهر تلك الشجرة الزاهية، فأعمل الحروف كالأغصان، فالخط هو فن يعكس ماهو جوهري، وليس ما هو منظور طبيعيا، وصعوبة عملي الخطي انه يحاوراللامرئي دائما، أي إنني أريد إن اسـتلهم من الاشكال ما هو خلف المظاهر كالهياكل. مثلا هيكل دارهوالقوة في الأعمدة وليس الشكل الكامل للدار.
عندما أريد الخط وتتراءى في ذهني الاشكال واضحة، أجد إن ولادتها على الورق شئ آخر، وعلى الرغم من كل التحضيرات لولادة سهلة.فربما ان المادة الصمغـية لاتـتعايـش مع مادة البودر الملون، أو ان الآ لة تكون يابسة وتجهض عملية الخط.
أحيانا أخرى على العكس، فبعد نهار كامل من العمل المتعب تأتي لحظات استرخاء، حيث تكون الحركات لا أبالية وغير مطيعة فتعطي شكلا مدهشا، تكون بالنسبة لي مفاجأة غير متوقعة، إذ أجد خطوطا تـتمتع بحرية واسعة، حركات طائرة دون خطر السقوط، خطوط عريضة جدا ولكنها ليست ثـقيلة، رهيفة ولكنها لاتـنكسر، وكلها بقياسات صحيحة وسليمة.
وفي اليوم التالي أتحضر للاستمرار في نفس ما عملته بالأمس، وأعتـقد باني وجدت أسلوبا حرا رائعا، ولكن هيهات، إذ لابد من العودة إلى البداية من جديد، ولاياتي شيء يشــابه الاندفاع الحر بالأمس، فان الجمال يأتي ويذهـب عندما يقررهو ولسـت أنا.
وهكذا أعود للبداية من جديد، أعمل تخطيطات للكلمات، أتخيل الشعر وصوره، أبحث عن الكلمة التي يمكنها ان تصعد عاليا بثـقلها دون السقوط، وبحركة ديناميــكية دون كـسر للشكل، أدع اللون يخـترق اشـــكال الحروف، وعبر هذه الحروف الصاعدة أتحسس الفضاء البعيد خلف الكلمة الكبيرة.
كلمة مبسطة ولكن هذا التبسـيط ليس تـفـقـيرا لها، كلمة مجردة ولكنها توحي بصورة ما. وتبقى دائما في عملي الفني إمكانية العثورعلى الحروف وتهجي الكلمة.
اشعر وأدرك باستمرار ان طاقــاتي الـتـعبـيـرية تـتـأثـربالمجموعة البشــرية التي انتمي إليها، وأدرك أيضا إمكانية الـتـأثـيرعليها بعملي الفني.
الهدف أيضا من الخط كل يوم في بناء اشكال متيـــنة إنما هو بــبـناء نفســي من جديد كل يوم، وكل بحث اقوم به للإتــقان، فإن ما أريده ايضا هو ان أكون أنا نفسي متـقـنا. لذلك لابد ان يكون الهيكل الهندسي واقفا بتعادل ولا يوحي بالسقوط، وان لا أحقق التعادل في خط الكلمة العالية فمعنى ذلك الفــشل، ولابد من إعادة الخط من جديد، ولكن هذا يوضح لي حدود امكاناتي كشخص، وان لاأصل هذا اليوم إلىالتعادل فمعنى ذلك فقدان التعادل في داخلي أنا أيضا. ولابد ان انتبه الى نفسي، وهكذا تكون تجربة الخط هنا معرفة للذات، وربما ستكون تطورا، ان انهض بعد السقوط للعودة للخط من جديد.
التناقضات التشــكـيلية هي انعكاسات لتـناقـضات الحياة اوانعكاسات لتناقضات نعيشها نحن كأشخاص. كل هذه التجارب إنما هي الرغـبة في التطور، ولايوجد تطور دون سقوط ـ فالســقوط ليس فــشلا، انما الفــشل ان يـبقى الانسان حيث سقط ـ كما يقول سقراط. الخط يســمح بالســيطرة على طاقات الجســم وقيادتها نحو الحركات المضبوطة، فعندما تكون الكلمات خفـيفة يطـير معها، وأحيانا يصبح الخطاط ســيد نفــسه ولو للحظات قصيرة.
ولكن في كل عودة جديدة للخــط لابد من التـفكير بتغـيـيرالاتجاه ، فربما سيكون من الأفضل اختيار البطء بدل السرعة، ولكن السرعة تبقى دائما من اهتماماتي الآنية، إذ أنها تعكــس الزمن المعاصر، وبالتالي تســمح بقطف فاكهة الاندفاع الداخلي. تســمح للاحســاســات بالمرور بســرعة امام الفــكر وعدم الرضوخ لطغيانه باستمرار. كما في الموسيقى المعاصرة اوالرقص الحديث، عندما انظر إلى الراقص يطير في الفضاء اشعر وكأنه يترك جسمه يخط الكلمات في الفضاء ولكن كيف يمكن الطيران بحرية دون السقوط؟
كيف تعمل الطيور؟ لابد من طاقات كبيرة للتغـلب على الجاذبــية والسـماح للاحساسات الجسـدية بان تخط بسرعة فائــقة، أريد لخطوطي إن تعكــس انتماءها للـقرن الواحد والعشــرين، هذا الــقرن الذي يعيـش عصر السرعة سرعة أوصلت الإنسان إلى القمر.



* حسن المسعود ـ باريس 2002


** نقلا عن:
Massoudy Calligraphe

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى