محمد نوري جواد - صفوة القول..

قوله تعالى "وتله للجبين"
أشير أولا إلى معاني هذه الآية ومن ثم أتناول ما قيل في بيانها . (تلّه) من مادة (تلّ) وتعني في الأصل المكان المرتفع , والجبين : أحد جانبي الجبهة أو الوجه , وللوجه جبينان وسطهما الجبهة , أما ما قيل فيها فهو أني سمعتُ أحد أصدقائي يقول رأيا جديدا وغريبا في تفسيرها لم أعهده من قبل ولم أعرف حقيقة مصدره , وها أنا أذكره , وعليّ أن أذكر ما قبل الآية وبعدها ليتضح المعنى , قال تعالى ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ  فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ  وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ  قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ  إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ  وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) . الفكرة التي طرحت أن قوله (وتله للجبين) تعني : أنهما أسلما أمرهما إلى الله وتلّ إبراهيم بنيان الكعبة للجبين , أي : أوصل بنيانه إلى مستوى ارتفاع التل متوافقا مع الجبين , وأن الله سبحانه وتعالى أعطاهما الكبش نتيجة عملهم هذا , وقال الصديق : علينا أن نبتعد عن صورة الدم والذبح في مشهد الآية.
قلتُ : بحثتُ في أكثر التفاسير وجدتها في بحثها الروائي متفقة على رأي واحد يقول باختصار : إن رؤيا النبي تكون صادقة وتحقيقها يحصل بعدها في الواقع ما يماثل صورة ما رآه الرائي , وأن قوله تعالى (وتله للجبين) تعني الواقع , والمعنى : وضع إبراهيم (ع) أحد جوانب وجه ابنه على مكان مرتفع من الأرض ليمرر السكين على رقبته . ومن جهة البحث اللغوي نجد أن النص يبدو مترابطا متماسكا يظهر فساد المعنى الذي ذهب إليه الصديق , وتظهر الإشكالية في أن قوله : (وتله للجبين) فيها إشارة إلى أنّ الفاعل واحد , وأن الهاء في (تله) تعود على البنيان , وأن حقيقة البناء قد اشترك فيه إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) , وكان ينبغي أن يقال (فلما أسلما وتلّاه للجبين) لأنهما اثنان , قال تعالى ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ) فضلا عن عودة الضمير الهاء على البنيان بعيدة عن سياق الآية ؛ لأن قوله : ( قد صدقت الرؤيا ) الآتي غير مرتبط ببناء الكعبة , وإنما الرؤيا هنا هي إشارة إلى قوله ( إني أرى في المنام أني أذبحك ) , فيكون التقدير : وتلّ إبراهيمُ ابنه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا أي : ما رأيت في منامك , وإذا أيّد قوله تعالى (كذلك نجزي المحسنين) المعنى الذي يريده الصديق وهو بناء الكعبة , فإن قوله (إن هذا لهو البلاء المبين) لا ينسجم معه ألبتة , وأما قوله : علينا أن نبتعد عن صورة الدم والذبح , فقلتُ : هذه أمنية إبراهيم (عليه السلام) في تقديم القربان لله التي أصبحت سنة للأجيال القادمة التي تشارك في مراسم الحج وتأتي إلى أرض (منى) , وحاليا يذبح في كل عام أكثر من مليون أضحية تيمنا بذلك الذبح العظيم ولا تبديل لسنة الله .


د. محمد نوري جواد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى