عباس البغدادي - خيط وصنارة

ينهض في الصباح وكأنه يجمع رأساً فككه الليل الطويل، بصعود النهار تبتعد حالة التبعثر من رأسه، يحتسي قدح الشاي في المقهى القريب، تدور رائحة النهر في رأسه، الخيط والصنارة والطعم لا تفارق الكيس الذي يحمله، جيبه الآخر مخف باتقان يخفي فيه بعض الأوراق يقرأها أثناء الصيد، إنها مصدر كل قوته، وبقاء هذا الرأس المستقر على الجسد النحيل، على حافة النهر تتعدد الألوان في رأسه زرقة الماء والسماء، عتمة أرض الزقاق وجدرانه، بياض وجه صديقه، تنتشر الألوان كشبكة العنكبوت تبحث عن مكان تستقر فيه، تبدأ بالانشطار لتشكل ضوءاً يمكن أن يستدل به، إنها عملية صناعة سر الاحتمال والمواصلة، حين يفرح يشعر أن روحه تخرج من جسده تمسك بأطراف أصابعه تدعوه للرقص معها، النهر والتمتع بالصيد هي آخر لذائذ حياته، حسن يرتجف الخيط عند اقتراب السمكة يشعر بأنها اهتزازات شهوانية، فالدودة الملساء المثبتة في رأس الصنارة وفم السمكة المفتوح ومخاوف الاقتراب والدوران الراقص للسمكة يشده لينتظر لحظة سحب الخيط، الماء حجب عنه كل شيء، لكنه يراه على درجة عالية من الشفافية، يحزن حين تقترب لحظة انتهاء احتفالية الصيد، الخيط المتحرك زورق محمل بالمسرات يربطه بالنهر رغم كونه مهتزاً، أبهة النهر ووقاره تطرد سأم الأزقة من رأسه، الخيط يشعره بأن كل شيء يتحرك، الخيط ربيع، الأزقة شتاء، والطُعم هو العمر، يرتجف ويتراقص مع شدة التيار، لا يهم أن تقتنص سمكة، لا بل إن عدم الاقتناص أجمل، ففي كل مرة تُقْتَنَصْ فيه سمكة وتُخرج من الماء يسمعها تقول بعد أن أدمت الصنارة فمها :
ها قد جئت وسأصب بعضاً من الماء في راحتك ثم أطلب منك أن تدع الماء يسيل قطرة ... قطرة في فمي قبل أن أموت !!
السيدة المسنة بعباءة سوداء تبحث في الطين، الحصى الملون يغري، تفرح حين تزيح الرمال لتستخرج حبه حصى بيضاء مشربة باللون الأحمر، مغامرة البحث عن أي شيء، يمد الرجل الخيط في عمق النهر، يقف خلفه الصبية، يبدأ بعضهم يبلغه بضرورة سحب الخيط، الارتجاف على أشده، السمكة أدخلت فمها في الطعم، يخاف أن تنغرس الصنارة في فمها، يزداد اضطرابه الداخلي ويقرر أن يترك السمكة تبتلع الطعم بكل هدوء، يضحك الصبية من صيادهم الفاشل حسب ظنهم المكتفي بنشوة النهر والسمكة، الصنارة تفسد نظارة الكائنات الحية تحت الماء، وصيد ما لا تراه هو بوح عن وحشية الصياد، إنه الوحيد الذي ينتظر على النهر ولكنه لا ينتظر أن يصطاد شيئاً، تنجح الأسماك بابتلاع الطعم تلو الطعم وتفر ضاحكة من سذاجة الصياد، يتوسل الصياد النهر أن يخرج كائناته السحرية على السطح لتنزلق بين يديه كحبات الزئبق، حين ينهض للمغادرة بعد أن يلف الخيط والصنارة، خلفه باقات النخيل تلتف لتخفي أبنية غريبة الأطوار في قدمها، الأجر والجص المتساقط عنها، أصوات البشر تروي حكايات من نسج الخيال، السكون خط استواء يلف المدينة، الأشياء لا تتحرك رغم رغبته لأن يحرك كل شيء، يندفع نحو ممارسة هوايته ليحتمل الليل الطويل، السأم لديه أصبح يشبه التسلية ولكن بحافات حادة، يردد دوماً مع نفسه آراء مدهشة، يعتقد أن المدينة تلبس ثوب الحداد وتسكنها آلاف الحكايا المتوارثة، مخيلة تريد أن تبقى، حين تتوقف النسمات في الصيف تسترخي الأبنية العتيقة، وسوق المدينة مفتوح الفم، تنتشر الثقوب في سقفه، ينتظر حمرة الغروب لتؤشر انتهاء يوم يمضي بسرعة، يعشق ظل شجرة الكالبتوس، يسمع نساء المدينة يتحدثن رغم عدم اقترانه بإحداهن، رأسه المزدحم لم يعد فيه متسع لأحد، يرقب الجانب الثاني من النهر الرجل الثري وابنته الجميلة بحذاء رياضي تلهو على شاطئ النهر، شعرها الأسود وبشرتها البيضاء من الممكن أن يتمعن بها عبر النهر، إنه متأكد أنها لا تراه بلونه الداكن وجلسته بين أكوام الأتربة، يوم يتأخر عند النهر يعتقد أن السمك يغط في نوم عميق في القاع، إنه لا يرغب بممارسة متعة الصيد في الظلام. كلما اقترب من الأشياء وجدها بعيدة عنه !! يشعر بأنه لا يصطاد السمك وإنما يريد اصطياد شيء جديد لم يتعرف عليه بعد، لا يريد إيذاءه بل التآلف معه، لكن الخيط دائم الارتجاف يقاوم تيار النهر، عين السمكة السوداء المحاطة بهالة حمراء تبقى مفتوحة بعد اصطيادها، تنظر لوجه الصياد بأسى، كم يخيفه هذا المنظر، الدم يتباطأ في جسد السمكة بعد الصيد، تتقلب على التراب حتى تموت، من يدري قد تكون نهايته مثلها، ينظر لجسده النحيل، تفر عيونه بعيداً إلى هناك خلف قرص الشمس يخاف من نهاية لا يعرف لها زماناً أو مكاناً، يعود إلى كتبه، كلما تذكر المرأة يتلمس لحية المؤلف الكثة وكالأعمى يمرر يديه على رأسه ورقبته، يشعر أن نظارة العالم غادرته، وإن الخيط والصنارة والطعم لعبة يلعبها ليبدد كل ما يدور في رأسه.
يذوب في فكرة أن الأسماك بدأت تزدحم حول صنارته وإن لم تجد لها طعماً تأكله ستقفز كلها إلى حضنه دون أن تسيل الدماء من شفتيها ويقول هو وتردد الأسماك قولته أنه لم يكن بوسعهما أن يفعلا ما فعلاه.
وصل صديقه على غير موعد وجده يسند ظهره إلى جدار الكهف، طلب منه أن يواصل رحلة الامتلاء رغم أنه يشرب القيط والوحدة كل ساعة، خاطب صديقه قائلاً :
الفكرة التي تعلمتها كل حياتي هي، تحرسني وتنشر حولي الضباب البارد، لا أدري هل أنا مخلوقها الجميل ؟ بطيفها أكبر وأتسع، عندما تفلت من يدي مرات ويصعد اليأس كالدخان إلى رأسي، أراها أحلاماً تدور تحيط بي، أسألها مرات ومرات قائلاً :
يوم أرحل من هذه الدنيا وحيداً إني أعلم تماماً بأن ليس هناك شيء سوى ثرثرة المودعين وآخر ما تسقط عليه عيني آلاف الأطياف والأفكار تلوّح لي بالوداع، لن ترافقني في رحلتي الأخيرة بل راحت تبحث عن رأس آخر غيري لتعلمه الدرس نفسه.
مرثية :-
حين توصد أبواب النهار، تجلس وحدك عارياً، تضم يديك، ترنو للشعاع النازل، تشعر أن اقترانك بنفسك، زواج غير شرعي، سرعان ما ينفرط رغم لذائذه، للكهوف رائحة، للقمم رائحة، السكون ينظر إليك غاضباً، كم هو مُحرق في عناقه، يحمل كل الأكاذيب في محفظة فقيرة، يدفعها للمسافر، لا يدري السكون أأنت رجل قادم أم مغادر؟، سترحل ويبقى الزقاق يروي ما حصل، حين تطرق الباب تشعر بالخوف، يحسن بنا أن لا ننظر لعينيك، كأنها دخان أزرق، كم يبدو صمتك سؤالاً، تريد أن تفصل هذا وذاك، لكنهم وجدوك مطروحاً في الكهف وكتابك المفتوح يقول بالحتمية، لم تكن تخشى الرحيل، لكنك تخاف الأفول، يلتقط الحمام الحُب من راحتيك، يدك السمراء الهادئة تقطر دمعاً، يوماً قابلتك بشجاعة السؤال، عرفت إنك تريد أن تمنح العالم ما هو أكثر بقاءً من الحُب، خواطرك بلا حدود تمتد، كنت أراك كالأرق الملازم لغيري، أراه ولا أحس به، كل الساعات تريد مثلك أن تسير إلى أمام، أيها الطائر الأسمر رحلت وأنت تبحث عن إجابات لأسئلة، بعدك كنا كطائر يغرد بعذوبة السؤال، نفذ وصيتك صديقك، وصاح في القبر، نم مرتاحاً (يا كناي)، فقد رحل من حاصرك يوماً. فأنت حرٌّ الآن ومطلق السراح.
خالياً من المارة، الجسر بطوله الفارع، في منتصفه تُمسكْ بحاجزه البارد، لا تدري من أي الأزمان الخالية أنت قادم، انهمر المطر، لم يتحرك من مكانه، رسولك إلى قلبي باحَ بسره كالنداء، كأن الزمن اختزل نفسه ليلتم حولك، يشهد الحزن الراعش، مُبللاً بالمطر، صاحَ المنادي وهو يبكي :
لا تحاولوا إيقاظه، نور المطر سيوقظه، زحفاً على الطين، اقتربت منه، وجدته يقف أمامي كحلم منبثق من ظلمة النوم، يريد أن يعود إلى نفسه، كأنه ورقة جافة تتراقص في غصنها تريد أن تسقط، من يوقف تساقط الأوراق المتعبة ؟ استلقيت في الوحل على ظهري، بدا لي هو والسماء لا غير سواهما، ضربات زخات المطر بدأت تنزله إلى ركبتيه، مشبك الجسر أمام عينيه، ولما فتحت عيني واستيقظت من غفوتي ألفيته جاثياً أمامي، كم بدا الجسر طويلاً، من أعلى عرشٍ هبط، كأنه راهب ينشد، إيقاع الشكوى، يمتزج بموسيقى الكون الكبير، الجسر يستجدي منه الوقوف، تصافحنا بالنظرات، مدَّ الجسر يده اليمنى، بسط راحته، كأنه يتسول، كأنه يتوسل، سمعته يهمس، كم تمنيت لو أنني أوتيت الجرأة لأهب لك خطوتي كلها أيها الممدد.
يا ابن ((كناي)) ستُطفأ المصابيح، ستخلد للنوم، ليس ثمة وقت نضيعه، ستستقبلك المدينة، ستحييك بيدها الفارغة، في غرفها العارية، ستفرش حصير الخوص في فناء الزقاق، قل ما تريد قوله، كلنا يعرف ما تود قوله، ستقول للمدينة : عشت كالمتسول أستجدي الغسق، سيفك القوي، المتألق كاللهيب، ثقيل كصاعقة، حرمتني من شعاع الفجر، كم جلست أتأملك، لا مكان لي في ثناياك، على جسدك الهرم سقطت نحيلاً، المطر يجرحني وأنا أضمه إلى صدري، لم أكن خائفاً من جحودك، لأني أعرف إنك دوماً المنتصر، يا سيدتي المدينة، يا سيدي الجسر، المطر قالها عني إني لا أحب الانتظار، لكني غرقت فيه على الجسر الموصل.
الجسر أسورة مطرزة بالأقدام، الارتعاشة آخر الأجوبة قبل الرحيل، (كناي) سؤال العين حين يصمت الفم، ولدت تسأل بعينيك !! تركتنا وحدنا على الجسر، تركت ظل شجرة الكالبتوس، الخيط والصنارة سنرميها للنهر من منتصف الجسر، الفجر قد مضى وحان وقت الظهيرة، لم نعد نسمع وقع خطاك، أنا أعرف أين أنت الآن في عالم اليقين بعيداً عن عالم السؤال، جرار من الخزف تصب الماء على راحتيك، لأن مطر الجسر أذاب جسدك النحيل، صامتين بعدك بخجل، قبلنا كنت مُدمناً على الفكرة، لا يزال السأم بعدك يبحث عن ملاذ، أخبرك من بلاد الوحدة العذراء، الرمل في مدينتك انتشر، النهر ما عاد يأوي السمك، دفقة النور ضاقت، الزقاق يهتز ضاحكاً كلما مرت به عاصفة، التراب يغسل العين بعد الرحيل، نتلهى اليوم بصناعة بيوت الرمل، نلعب بالأصداف الفارغة، نصنع زوارق من الأوراق الجافة، نسأل عن المدى البعيد، حين ينبت الشعر الأبيض في الرأس، معناه أن النعاس بدأ يرفرف على عيني الطفل الصغير، ((كناي)) اسمح لي أن أحمل الدمى هدايا، أنشدك أن ترقص ولو وحدك، الشهد لا يستقر إلا في أكمام الازدهار.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى