نزار حسين راشد - أرزاق

لقد استيقَظَت الشّمس للتو، وأطلّت من مخبئها، لا يزال الضّوء مشرّباً بالغبش، والحصّادون ماضون في مهمتهم، يعرّون مفاتن الأرض، يرفعون ثوبها الوثير شيئاً فشيئا، حاسرين طيّاتهِ عن جسدها الحي! بعد قليل سيشتدّ القيظ ، وتُجلّي الزرقة وجه السّماء، باسطة لهم حضن الأفق وكأنّهُ وعدٌ بالوصول، إلى نهايةٍ لهذا الجهد المثابر!

أحدهم تلكّأ خلف الصفوف، وتراكمت سطور الّزرع، الّتي لم يطَلها منجله بعد، خلف الحد الذي رسمته أيدي الفريق المتناغم معاً، مشكّلةً مستطيلاً ناشزاً، يرمقه الآخرون شزراً من فوق أكتافهم، وأخيراً هبّوا لمساعدته، وكأنّهم لا يطيقون عدم الإنتظام هذا، كان ذلك تسويةً، أكثر منه تعاطفاً، ولكنهم حين جلسوا لتناول الغداء، في استراحة منتصف النهار، سأله أحدهم إن كان هنالك خطبٌ ما، ولكن الحصّاد لم يجب اكتفى برفع عينيه والنّظر مباشرةً في عيني سائله، والّذي لم يلحّ عليه بدوره، ولم يُكرّر سؤالهُ مرّةً أخرى! ولماذا يسأله أصلاً وهو يعرف جيّداً، أنّها المشكلة القائمة بينه وبين أهل زوجته التي تتجدّد بين حينٍ وآخر، بسبب عدم الإنجاب، وفي كلّ مرّة يهددون بإجباره على الطلاق، لأنّ الطبيب قال إنّ القصور من طرفِه هو لا من طرف الزّوجة!

كان ذلك قبل الحرب بسنوات، وقد مضى على ذلك عشرون عاماً على الأقل، وها هو صديقه القديم يقلّه، بعد أن أوقف التاكسي بإشارة من يده، دون أن يعرفه، بل دون أن يدير وجهه ليتأمّل ملامج هذا الرّاكب الّذي يقلّه، ولكنه هو ميّزه على الفور، بينما انهمك الآخر في مهمة القيادة، ومراوغة أخطار الطريق وعلّق محدّثاً الرّاكب الغريب:

- تصوّر أنني في هذه السن، ومضطرٌّ أن أعمل ليل نهار! لماذا ؟ لكثرة الأطفال يا صديقي، من سيعيل ثمانية أطفال لم يُنهِ أحدٌ منهم المدرسة بعد، متدرّجون في الصّفوف! معك من الأوّل حتّى الأوّل الثانويّ!

قرّر أن يلقي إليه بالطّعم ليجرّه لمزيدٍ من الحديث، وهو يذكر تماماً قرار الطّبيب بخصوص عجزه عن الإنجاب!قال:

- يبدو أنك تزوّجت في سنٍّ مُتأخّرة!

- لا لم يحدث هذا يا صديقي، لقد تزوّجتُ وأنا في عزّ الشباب!

- تأخّر في الإنجاب إذن، كلّ شيء مرهون بإرادة الله!

- آآآآآآآه!ماذا سأقول لك! الله يمتحن طيّبي القلوب، ولكنّي نجحت في الإمتحان، لم أنجب من زوجتي الأولى، فألحّ عليّ إخوتها بالطلاق، رفضت احتراماً للعشرة، فهي لم تسيء إلي بشيء، ولم تطلب الطلاق بعظمة لسانها! المهم، شوبدّك بطولة السيرة، جاؤوا وسحبوها من تحت أنفي، واضطررت أخيرا للطلاق، لم يتركوا لي خياراً آخر! المهم تزوّجت بأخرى وربّك رزقني.. والسبب في كل هذا هو طبيب حمار، قال لهم بأنّ "العوق" مني! هكذا جرت الأقدار يا صديقي!

وصلوا إلى مقصدهم واستعدّ الراكب للنزول، وحين نقده الأجرة ، مع إكراميّة دسمة، رفع عينيه إلى وجهه، ليتعرّف إلى هذا الزّبون السخي، والتمعت في عينيه نظرة، وكأنّه ميّزّ ملامحه، ولكن الآخر لم يتريّث، ليمنحه فرصة لحسم رأيه، ترجّل ومضى على عجل وهو يبتسم، مُتفكّراً بكرم الله ، وقصور الإنسان، ومذاهب القدر!



نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى