مبارك وساط - صـعـــود

كانت أمطارٌ، بداخل رأسه، تتهاطل.
ثم أطلّت الشمس من هودجها العليّ، فهرول نحو بيته، محاذرا أن تنزلق قدمه إلى واحدة من تلك الحفر، حيث يوجد دائما من يُقْعي عارياً ويرفو كوابيس المياه.
في طريقه، كانت بضعة عصافير تصلب اللصّ الذي سرق قلائد شجرة الحور، وكان جمعٌ من المقعدين، ممسكين بالفراشي وأوعية المراهم، يجدون في شغلهم، إنهم يلمّعون جلد العدم.
انتابه الدّوار، وعوض أن يصعد الدَّرج نحو بابه، وجد نفسه يعتلي جبلاً، حيث موتى يتعجبون:
لكل ميْت جثَّتان.
أعاد الكرّة، وفي هذه المرة، ارتقى- لاهثاً، متوفزاً،...-سُلَّمَ ريشتر إلى أن شعر بزلزال عنيف يضرب خده الأيمن. أحياء عديدة، في جنبات المدينة، دُمِّرتْ عن آخرها. والذين فتحوا أفواههم، صدرت عنهم آهات معشوشبة. عيونهم سافرت عبر تخوم السّهاد. وخرجت غربانٌ من ليل قديم.
أخيراً، أخيراً وجد نفسه في غرفته، آسِفاً لكونه لم يحصل على سجائر فالبائع كان قد أغلق دكانه، ليقوم بمعجزات عظيمة أمام سحليّة مَهيبة لم تُخْفِ انبهارها... أشعلَ، إذن، عشيقته، وطفق يدخّن سيجارة خيالية. ولم يكن قطّ يستعمل أعواد ثقاب مقدسة، خوفاً من أن تطارده لعنة الفسفور.
رغِبَ في تقبيل عشيقته مريم، لكنّها الآن مجردُ كومة رماد. تفادى النّحيب حتّى لا يُزعجَ جيرانه اللطفاء، تلك العائلة المكوّنَة من خمسة أقواس قزَحٍ سود (قيل إنها جاءت من غانا).
وكما يحدث حين تصير أذن المرء وكراً للإجرام، فقد كان قلقاً. لا يمكنه أن يبقى بين هذي الجدران التي بدأت تتخدّد وتتهلل، فالسكاكين فيها تزحف وتتلوّى كالأفاعي، والقناني الفارغة تهبُّ منها رياح برصاء، وصمتُ الكراسي شاسع ومتلألئ مثل نوم المجانين.
ولا هو يستطيع أن يمضي إلى الخارج، ففي هذا الوقت بالضبط، تتحوّل بضع غيوم قططا وحشية، وتسقط على رؤوس المارة الصُّلع.
مَسَّد على رأسه الصَّقيل، وكان ضحكٌ في المرايا.

--------------------------------
من مجموعة: "حفوفاً بأرخبيلات..."

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى