ألقيت نظرة على الجثث المفعَّصة أسفل الجبل، وتأملت الشاحنة والمقطورة وقد تحولتا إلى ما يشبه فرن خالتي نفيسة الضخمة داكنة السواد .. عاينت الجثث التي تستلقي فوق أجولة الدقيق . كميات هائلة من الدقيق تكسو الجبل .. رجعت صاعدا الجبل مرة أخرى .. سألني أحد الأصدقاء المسافرين معي مقطبا جبينه : ألم يكن في مقدورهم أن يوسـعوا هذا الطريق الجبلي الخطِـر؟
قلت: لو وسَّعوا الطريق لما شاهدنا مثل هذه الحادثة المهمة ؟
قال: كيف؟
قلت: هذه الحادثة مهمة من الناحية العلمية، فكل علماء الطب والبيولوجيا يؤكدون أن أجسادنا تجري فيها الدماء.
قال: نعم .. ماذا تعني؟!
قلت: أعني الدماء .. أين هي؟ .. لك أن تنزل مرة أخرى إلى أسفل الجبل وتعيد معاينة الجثث .. لن ترى نقطة دم واحدة حول الجثث؟
قال: مش فاهم.
قلت: الناس اللي ماتت دي .. معندهاش دم.!! واللي عملوا الطريق برضه معندهمش دم؟!
فضحك ضحكة هستيرية وقال: هكذا أنت تشعر وتفكر في الاتجاه المعاكس.!! وسألني: متى أراك حزينا؟!.
وأجبته: لو كنتُ واحدا منهم ما حزنت.
قال: كيف؟
قلت : لو كنتُ واحدا منهم لاسترحت على الأقل من رؤية وجهك المقرر علينا ليلا ونهارا؟
ضحك ضحكته المعتادة عندما يميل بظهره للخلف، ويطلق في الفضاء ضحكته الصادحة.
سألني بعد أن خفتت ضحكته:
ـ إلى هذا الحد أنت تكرهني؟
قلت: لا .. بل الاقتصاد المصري سيتحسن بعد موتك.. بالنظر إلى الكميات الضخمة التي تزدردها يوميا من دقيق ولحوم وطيور وأرانب بريئة، وأرز وحليب وسكر وصابون، رغم أنني متأكد أنك لا تستعمل الصابون. كنا سنرتاح أيضاً من ضحكتك التي تشبه إلى حد كبير خوار ثور عجوز. لست أدري ما الذي يضحكك في كلامي وأنا أنقل الحقيقة ، هل نسيت أنك لا تقدم ولا تؤخر في هذه الحياة؟! .. أنت أعزب ، عاطل عن العمل.. لا تقدم للحياة ما يؤكد أنك تستحق الأطنان التي تزدردها كل يوم.
ساد الصمت فترة كانت كافية لصعود المسافرين مرة أخرى إلى أعلى الجبل، لنستأنف سفرنا إلى الوادي الجديد.
في الأتوبيس سمعت تعليقات كثيرة تتحدث عن التضاريس الصعبة في منطقة النقب، حيث التعاريج الكثيرة في طريق منحوت في أعلى الجبل. والحوادث الكثيرة التي تسبب فيها هذا الطريق المميت.. لم يفكر أحد منهم أن يتصل بالإسعاف أو النجدة .. وقبل أن أسأل الراكبين عن أرقام النجدة أو الإسعاف. اكتشفت غياب صديقي ، وخلو مقعده .. فصحت: أيها الناس .. لقد تركنا صديقي أعلى الجبل.
وكان على السائق أن يعود القهقري صاعدا الجبل، ليتوقف بنا مرة ثانية عند موضع الحادثة، مسح كل منا المكان بعينيه ، إلى أن سمعنا من يقول:
يا الله .. البقاء لله . لقد مات صاحبكم.. إنه هناك فوق الجثث .. بتؤدة نزلنا إلى أسفل الجبل .. وكان أن رأينا الدماء تشخب من جسده العنفواني ، لاحظت شروخًا نازفة في رأسه .. تتدفق من جسده دماء قانية تلوت بياض الدقيق.. احتضنته ، وتركت دموعي تفيض.. غزيرة ساخنة تمتزج بدمائه.. إلى أين أيها الصديق وكلانا ميت؟! .. سألني بنبرة واهنة: هل رأيت الآن الدماء؟.. قلت بصوت غضيض واهن: كنت أمزح يا صديقي، وأنا أنقل لك وجهة نظر سلطات باتت مبتهجة بموتنا ، سعيدة بعنوسة الحياة، وتجهمها في وجوهنا.!! .
سمعته يحدثني بصوت خافت : ربما أن موتي سيسعد الكثيرين فوق كراسيهم . ولكني متأكد أنك سوف تحزن لأنك لن ترى واحدا غيري، يكسر حاجز الحزن، ويميل إلى الخلف بظهره ليطلق ضحكاته الصادحة في الفضاء.
ـ نعم سأحزن .. رغم أنك أخطأت التقدير يا صديقي.. لم تدرك ـ رغم أننا نلتقي يوميا ـ أنني سبقتك إلى الموت منذ أعوام.. فاضت بعدها روحه ؛ ليتركني في هذه الحياة التي لم تعد تليق إلا بحزننا النبيل.
،
قلت: لو وسَّعوا الطريق لما شاهدنا مثل هذه الحادثة المهمة ؟
قال: كيف؟
قلت: هذه الحادثة مهمة من الناحية العلمية، فكل علماء الطب والبيولوجيا يؤكدون أن أجسادنا تجري فيها الدماء.
قال: نعم .. ماذا تعني؟!
قلت: أعني الدماء .. أين هي؟ .. لك أن تنزل مرة أخرى إلى أسفل الجبل وتعيد معاينة الجثث .. لن ترى نقطة دم واحدة حول الجثث؟
قال: مش فاهم.
قلت: الناس اللي ماتت دي .. معندهاش دم.!! واللي عملوا الطريق برضه معندهمش دم؟!
فضحك ضحكة هستيرية وقال: هكذا أنت تشعر وتفكر في الاتجاه المعاكس.!! وسألني: متى أراك حزينا؟!.
وأجبته: لو كنتُ واحدا منهم ما حزنت.
قال: كيف؟
قلت : لو كنتُ واحدا منهم لاسترحت على الأقل من رؤية وجهك المقرر علينا ليلا ونهارا؟
ضحك ضحكته المعتادة عندما يميل بظهره للخلف، ويطلق في الفضاء ضحكته الصادحة.
سألني بعد أن خفتت ضحكته:
ـ إلى هذا الحد أنت تكرهني؟
قلت: لا .. بل الاقتصاد المصري سيتحسن بعد موتك.. بالنظر إلى الكميات الضخمة التي تزدردها يوميا من دقيق ولحوم وطيور وأرانب بريئة، وأرز وحليب وسكر وصابون، رغم أنني متأكد أنك لا تستعمل الصابون. كنا سنرتاح أيضاً من ضحكتك التي تشبه إلى حد كبير خوار ثور عجوز. لست أدري ما الذي يضحكك في كلامي وأنا أنقل الحقيقة ، هل نسيت أنك لا تقدم ولا تؤخر في هذه الحياة؟! .. أنت أعزب ، عاطل عن العمل.. لا تقدم للحياة ما يؤكد أنك تستحق الأطنان التي تزدردها كل يوم.
ساد الصمت فترة كانت كافية لصعود المسافرين مرة أخرى إلى أعلى الجبل، لنستأنف سفرنا إلى الوادي الجديد.
في الأتوبيس سمعت تعليقات كثيرة تتحدث عن التضاريس الصعبة في منطقة النقب، حيث التعاريج الكثيرة في طريق منحوت في أعلى الجبل. والحوادث الكثيرة التي تسبب فيها هذا الطريق المميت.. لم يفكر أحد منهم أن يتصل بالإسعاف أو النجدة .. وقبل أن أسأل الراكبين عن أرقام النجدة أو الإسعاف. اكتشفت غياب صديقي ، وخلو مقعده .. فصحت: أيها الناس .. لقد تركنا صديقي أعلى الجبل.
وكان على السائق أن يعود القهقري صاعدا الجبل، ليتوقف بنا مرة ثانية عند موضع الحادثة، مسح كل منا المكان بعينيه ، إلى أن سمعنا من يقول:
يا الله .. البقاء لله . لقد مات صاحبكم.. إنه هناك فوق الجثث .. بتؤدة نزلنا إلى أسفل الجبل .. وكان أن رأينا الدماء تشخب من جسده العنفواني ، لاحظت شروخًا نازفة في رأسه .. تتدفق من جسده دماء قانية تلوت بياض الدقيق.. احتضنته ، وتركت دموعي تفيض.. غزيرة ساخنة تمتزج بدمائه.. إلى أين أيها الصديق وكلانا ميت؟! .. سألني بنبرة واهنة: هل رأيت الآن الدماء؟.. قلت بصوت غضيض واهن: كنت أمزح يا صديقي، وأنا أنقل لك وجهة نظر سلطات باتت مبتهجة بموتنا ، سعيدة بعنوسة الحياة، وتجهمها في وجوهنا.!! .
سمعته يحدثني بصوت خافت : ربما أن موتي سيسعد الكثيرين فوق كراسيهم . ولكني متأكد أنك سوف تحزن لأنك لن ترى واحدا غيري، يكسر حاجز الحزن، ويميل إلى الخلف بظهره ليطلق ضحكاته الصادحة في الفضاء.
ـ نعم سأحزن .. رغم أنك أخطأت التقدير يا صديقي.. لم تدرك ـ رغم أننا نلتقي يوميا ـ أنني سبقتك إلى الموت منذ أعوام.. فاضت بعدها روحه ؛ ليتركني في هذه الحياة التي لم تعد تليق إلا بحزننا النبيل.
،