لضحكتها لون الشفق ، ولعينيها رائحة الغروب . عندما يلتقى هذا الأفق بالبحر عند آخر نقطة للمدى ، كنتُ هناك ، حيث الأسماك التى تتهيأ للمبيت ، والطحالب التى تتثاءب ، والموج الأزرق يحط رحاله على الشاطئ البعيد .. لماذا عندما أقابلها يتهيأ الوجود للمغيب ، ولماذا يحملنى الموج إلى الشاطئ البعيد ؟! كانت ها هنا فى الشارع .. تقف لها العيون فى محاجرها عندما تمر ، وتتهيأ الأحداق لاستيعاب الدهشة .. آخر مرة قابلتها كنت على وشك السفر ، وعدتها بأننى سأدبر الأمر ، وكانت أن ابتسمت وقالت : الأَوْلى أن تدبر قرشين . نعم .. نعم سأدبر القرشين ما دام الدخول من الأبواب يستوجب هذا . حقيقة لم أعد مستوعبًا لفكرة العيش بعيدًا عن الرياح التى تعصف بنا منذ كنا صغارًا .. الحلم بالشهادة الدراسية ، والطلبات مستوفاة التمغة ، والتعيين فى الوظائف الحكومية ، ثم القفز إلى ..... فى لحظة أخرى كانت اللعبة أعظم من هذا بكثير : الجامعة والمحاضرات ، والانكفاء على الكتب .. التقدير بامتياز .. معيد بالجامعة ..الدكتوراة .. الأستاذية ، ثم القفز إلى ........ وكانت تحلم معى بالقفز ، هى فعلاً تجيد الجمباز ، ولها تطلعاتها إلى مواصلة القفز إلى البطولات ، والساحات الكبرى ، ومطارات العالم ، وكثيرًا ما كانت تنتهى بنا الأحلام إلى اللقاء فى " الفيلا " الصغيرة التى تحيط بها حديقة متواضعة ، وإن كانت غنية بالألوان والأصوات .. اقترحت عليها مرة أن أهيئ فى أحد أركانها أرجوحة بيضاء لصغيرين لنا ، واقترحت عليها أن تفتح النوافذ للشمس والهواء فى الصباحات ، وألا تتأخر فى النوم .
كنا على وشك أن نتفق بخصوص العصافير ، وكانت قد أصرت على حبسها فى أقفاصٍ فى الغرف ، وهى تردد : " عصفور فى اليد خير من عشرة على الشجرة " وكنت مصرًّا على أن عصفورًا على الشجرة خير من ألف فى قفص . لكننا لم نكن نتعنت إزاء هذه المسائل الهامشية مادمنا نمتلك الأشجار والعصافير والأقفاص . والمبادئ دائمًا محل نظر ... هكذا اقترحتُ : إعادة النظر . واقترحتْ أن نترك المسألة للزمن .
لم أكن قد أخذت رأيها فى مسألة السفر إلى الخارج ، لكننى فاجأتها فى هذا اللقاء الأخير بأننى مسافر كأى طالب جامعى لقضاء الصيف فى الخارج . لاحظت أنها بدأت تشرد ، وهى الواقفة قبالتى داخل عتبة بيتهم ، وأنا خارج الباب أتلفت يمنة ويسرة . أعرف أن الوقوف مخجل جدًّا ، لكنما .... وهل كان أمامى عير أن أطرق بابهم هذا ؛ لأخبرها بهذا القرار المفاجئ .. كانت المرة الأولى التى أصر فيها على لقائها فى منزلهم ، لكنها فيما بدا لم تكن تملك حرية إدخالى إلى البيت.
ـ لا داعٍ للحزن أو الخوف .. سأعود ، وربما كان معى ما يكفى لأن نبدأ خطوة أولى . اعتـذر أبى ، وربما عجز عن تحمل مصاريف الدراسة . جدتى أعطتنى خلخال فضة ، وبعض العملات القديمة ، وأقرضنى صديق ثرى ثلاثين جنيهًا .. لم أكمل لها بقية الأحابيل التى تصيدت بها هذا المبلغ الذى أضعه فى جيبى .. استأذنتْ فى دقيقتين عادت بعدهما وهى تغمض كفها على شىء ما، وقالت بصوتٍ غضيض : كل ما أدخره سبعة جنيهات ونصف . وضعتُها فى جيب قميصى. قلت : هذا مبلغ يجب ألا أنفقه ، ربما لأنه يحمل رائحة هذا اللقاء . فاجأتنى والدتها بوقوفها فوق العتبة . كانت نظراتها حادة ، فيما لاحظت أن جسدها منتفخ وثدييها متهدلان ، وعينيها بغير رموش . كيف تنجب هذه الحيزبون حوريَّة ؟!
ـ بلاش لعب عيال يا نجاح .
قالت جملتها هذه ، وحدجتنى بنظرات تنم عن استهانة فظيعة الوقع ...
لقاء قديم ، لكنما رائحته لا تزال تضوع ، عشر سنوات كاملة عشتها فى العراق ، لم أتحدث فيها مع أنثى ، ربما لهذا كانت " نجاح " هى الأنثى التى أقابلها كل يوم ، قبل النوم وبعده ، هكذا مثلما أغسل يدىَّ قبل الأكل وبعده ..يبدو أنه ليس من السهل أن يغير الإنسان عاداته ، من عاداتى – أيضًا – أننى أقرأ ، هكذا قالوا لنا صغارًا : " اقرأ باسم ربك الذى خلق .. اقرأ وربك الأكرم .. اقرأ علشان تطلع دكتور .. اقرأ .. اقرأ .. اقرأ " .. ربما لهذا لم أكن أفعل شيئًا غير القراءة .. قرأت كثيرًا فى مكتبات بغداد ، وعندما انتقلت إلى البصرة قرأت كل المكتبات العامة .. وماذا بعد؟! .. بائع جرائد يتجول فى ساحات البصرة وبغداد ! ، ولم أعد إلا ببعض أمهات الكتب ، حتى الدعاء المفضل لدىَّ لا يخلو من " أم الكتاب " .. عدت إلى أم الدنيا بأمهات الكتب ، لست أدرى كيف سترضى عنى " أم نجاح " ؟ .. على أية حالة قررت الذهاب إليها .. أعرف أنها ستقول : - " فُضَّها سيرة "0 وربما تكون قد ماتت ، ونبدأ أنا ونجاح سيرة جديدة .
كان الشارع على غير ما ألفته فى الماضى مزدحمًا بعربات الكارو والعيال ، ومتشحًا بأوراق الجرائد والخضراوات الساقطة وروث البهائم ، وثمة أكشاك كثيرة وغُرَز ، ومطبات و..... أعوذ بالله . عندما وصلت إلى بيتها هالنى أن حوائطه فقدت طلاءها ونَخَرَتْ ، وأن ..... الباب كان موصدًا تمامًا ، وثمة قضيبان على شكل " × " كبيرة مثبتان على الخشب ، وثمة لافتة صغيرة متربة كانت مثبتة بينهما تقول : " الباب من الخلف " .
هَبَطَتْ بعض صقور ميتة من السماء ، وربما أن الذى كان يدوى فى أذنَىَّ نهيقٌ صاخٌ .. يبست الحديقة فجأة ، والطيور التى فى الأعشاش والأقفاص جميعها ماتت ، بعض السحالى والورل المحنط على واجهات محال العطارين تُخرج لسانها لى ، وثمة رجل أسود ذو بثور طافحة على وجهه بدأ يحرك رأسه الضخم باتجاه رأسى ، وعيال قذرة كانت تتبرز تحت الحوائط ، وامرأة شبه مجنونة كانت تتلفظ بألفاظ نابية .. قرأت اللافتة المتربة جيدًا : " الباب من الخلف " ، وكان علىَّ أن أستدير . عند أول منفرج جانبى اتجهت إلى الشارع الخلفى .. لم تكن الشوارع هكذا ، ولا البيوت .. أتذكر أن بيتهم كان يطل على فضاء ، ولم تكن تلاصقه هذه البيوت والأكشاك والغرز .. السماء غائمة ، والشمس أظنها على وشك الغروب ، ثمة دكنة بدأت تحط فوق عينىَّ .. إلى أين قفزتِ يا نجاح ؟ ! .
لم يكن بالخلف باب ولا يحزنون .. ثمة فتحتان كبيرتان لمحلين كبيرين تعلوهما لافتتان : " تسالى الحرمين " و " عصير الأمانة " وفيما رحت أتساءل مع نفسى عن علاقة الحرمين بالتسالى ، والعصير بالأمانة وقعت عينى على " عم لبيب الصرماتى " .. الوحيد الذى بدا لى بهيئته القديمة ، حتى محله كما هو ، لايزال يستعمل المخرز اليدوى ، ويضئ محله بمصباح الكيروسين.
ـ فين بيت عبد اللطيف ؟
ـ الراجل – بعيد عنك – جاته داهية ، اتمسك فى قضية مخدرات ، ومات فى السجن ، والمرة ماتت من الحسرة ، والولد غار .. أخدوه الجيش ، وبعدين باع البيت ، وسافر للخارج .
ـ جاته داهية .. ماتت .. غار .. سافر .. ؟! أعوذ بالله ، والبنت ؟
ـ أخدها واحد مجنون شغَّال فى البلدية ، وساكن بيها فى العمارات الحكومية .
ـ واحد مجنون شغال فى البلدية .. ساكن فى العمارات الحكومية ؟!
مضت ثلاث سنوات على هذا الموقف ، ومن يومها وأنا مُصِرٌّ على الذهاب إلى العمارات الحكومية فى المواسم والأعياد ، أسأل الناس والمارة عن واحد مجنون شغال فى البلدية .. كان الناس يضحكون أحيانًا من السؤال ، وأحيانًا يجيبون بإجابات ساخرة ، غير أن واحدًا منهم كان جادًا اليوم فى الإجابة عندما سألته عن واحد مجنون شغال فى البلدية ، امتعض قليلاً ، ثم .... أشار إلىَّ .
( تمت )
فى 13 / 1 / 2005
كنا على وشك أن نتفق بخصوص العصافير ، وكانت قد أصرت على حبسها فى أقفاصٍ فى الغرف ، وهى تردد : " عصفور فى اليد خير من عشرة على الشجرة " وكنت مصرًّا على أن عصفورًا على الشجرة خير من ألف فى قفص . لكننا لم نكن نتعنت إزاء هذه المسائل الهامشية مادمنا نمتلك الأشجار والعصافير والأقفاص . والمبادئ دائمًا محل نظر ... هكذا اقترحتُ : إعادة النظر . واقترحتْ أن نترك المسألة للزمن .
لم أكن قد أخذت رأيها فى مسألة السفر إلى الخارج ، لكننى فاجأتها فى هذا اللقاء الأخير بأننى مسافر كأى طالب جامعى لقضاء الصيف فى الخارج . لاحظت أنها بدأت تشرد ، وهى الواقفة قبالتى داخل عتبة بيتهم ، وأنا خارج الباب أتلفت يمنة ويسرة . أعرف أن الوقوف مخجل جدًّا ، لكنما .... وهل كان أمامى عير أن أطرق بابهم هذا ؛ لأخبرها بهذا القرار المفاجئ .. كانت المرة الأولى التى أصر فيها على لقائها فى منزلهم ، لكنها فيما بدا لم تكن تملك حرية إدخالى إلى البيت.
ـ لا داعٍ للحزن أو الخوف .. سأعود ، وربما كان معى ما يكفى لأن نبدأ خطوة أولى . اعتـذر أبى ، وربما عجز عن تحمل مصاريف الدراسة . جدتى أعطتنى خلخال فضة ، وبعض العملات القديمة ، وأقرضنى صديق ثرى ثلاثين جنيهًا .. لم أكمل لها بقية الأحابيل التى تصيدت بها هذا المبلغ الذى أضعه فى جيبى .. استأذنتْ فى دقيقتين عادت بعدهما وهى تغمض كفها على شىء ما، وقالت بصوتٍ غضيض : كل ما أدخره سبعة جنيهات ونصف . وضعتُها فى جيب قميصى. قلت : هذا مبلغ يجب ألا أنفقه ، ربما لأنه يحمل رائحة هذا اللقاء . فاجأتنى والدتها بوقوفها فوق العتبة . كانت نظراتها حادة ، فيما لاحظت أن جسدها منتفخ وثدييها متهدلان ، وعينيها بغير رموش . كيف تنجب هذه الحيزبون حوريَّة ؟!
ـ بلاش لعب عيال يا نجاح .
قالت جملتها هذه ، وحدجتنى بنظرات تنم عن استهانة فظيعة الوقع ...
لقاء قديم ، لكنما رائحته لا تزال تضوع ، عشر سنوات كاملة عشتها فى العراق ، لم أتحدث فيها مع أنثى ، ربما لهذا كانت " نجاح " هى الأنثى التى أقابلها كل يوم ، قبل النوم وبعده ، هكذا مثلما أغسل يدىَّ قبل الأكل وبعده ..يبدو أنه ليس من السهل أن يغير الإنسان عاداته ، من عاداتى – أيضًا – أننى أقرأ ، هكذا قالوا لنا صغارًا : " اقرأ باسم ربك الذى خلق .. اقرأ وربك الأكرم .. اقرأ علشان تطلع دكتور .. اقرأ .. اقرأ .. اقرأ " .. ربما لهذا لم أكن أفعل شيئًا غير القراءة .. قرأت كثيرًا فى مكتبات بغداد ، وعندما انتقلت إلى البصرة قرأت كل المكتبات العامة .. وماذا بعد؟! .. بائع جرائد يتجول فى ساحات البصرة وبغداد ! ، ولم أعد إلا ببعض أمهات الكتب ، حتى الدعاء المفضل لدىَّ لا يخلو من " أم الكتاب " .. عدت إلى أم الدنيا بأمهات الكتب ، لست أدرى كيف سترضى عنى " أم نجاح " ؟ .. على أية حالة قررت الذهاب إليها .. أعرف أنها ستقول : - " فُضَّها سيرة "0 وربما تكون قد ماتت ، ونبدأ أنا ونجاح سيرة جديدة .
كان الشارع على غير ما ألفته فى الماضى مزدحمًا بعربات الكارو والعيال ، ومتشحًا بأوراق الجرائد والخضراوات الساقطة وروث البهائم ، وثمة أكشاك كثيرة وغُرَز ، ومطبات و..... أعوذ بالله . عندما وصلت إلى بيتها هالنى أن حوائطه فقدت طلاءها ونَخَرَتْ ، وأن ..... الباب كان موصدًا تمامًا ، وثمة قضيبان على شكل " × " كبيرة مثبتان على الخشب ، وثمة لافتة صغيرة متربة كانت مثبتة بينهما تقول : " الباب من الخلف " .
هَبَطَتْ بعض صقور ميتة من السماء ، وربما أن الذى كان يدوى فى أذنَىَّ نهيقٌ صاخٌ .. يبست الحديقة فجأة ، والطيور التى فى الأعشاش والأقفاص جميعها ماتت ، بعض السحالى والورل المحنط على واجهات محال العطارين تُخرج لسانها لى ، وثمة رجل أسود ذو بثور طافحة على وجهه بدأ يحرك رأسه الضخم باتجاه رأسى ، وعيال قذرة كانت تتبرز تحت الحوائط ، وامرأة شبه مجنونة كانت تتلفظ بألفاظ نابية .. قرأت اللافتة المتربة جيدًا : " الباب من الخلف " ، وكان علىَّ أن أستدير . عند أول منفرج جانبى اتجهت إلى الشارع الخلفى .. لم تكن الشوارع هكذا ، ولا البيوت .. أتذكر أن بيتهم كان يطل على فضاء ، ولم تكن تلاصقه هذه البيوت والأكشاك والغرز .. السماء غائمة ، والشمس أظنها على وشك الغروب ، ثمة دكنة بدأت تحط فوق عينىَّ .. إلى أين قفزتِ يا نجاح ؟ ! .
لم يكن بالخلف باب ولا يحزنون .. ثمة فتحتان كبيرتان لمحلين كبيرين تعلوهما لافتتان : " تسالى الحرمين " و " عصير الأمانة " وفيما رحت أتساءل مع نفسى عن علاقة الحرمين بالتسالى ، والعصير بالأمانة وقعت عينى على " عم لبيب الصرماتى " .. الوحيد الذى بدا لى بهيئته القديمة ، حتى محله كما هو ، لايزال يستعمل المخرز اليدوى ، ويضئ محله بمصباح الكيروسين.
ـ فين بيت عبد اللطيف ؟
ـ الراجل – بعيد عنك – جاته داهية ، اتمسك فى قضية مخدرات ، ومات فى السجن ، والمرة ماتت من الحسرة ، والولد غار .. أخدوه الجيش ، وبعدين باع البيت ، وسافر للخارج .
ـ جاته داهية .. ماتت .. غار .. سافر .. ؟! أعوذ بالله ، والبنت ؟
ـ أخدها واحد مجنون شغَّال فى البلدية ، وساكن بيها فى العمارات الحكومية .
ـ واحد مجنون شغال فى البلدية .. ساكن فى العمارات الحكومية ؟!
مضت ثلاث سنوات على هذا الموقف ، ومن يومها وأنا مُصِرٌّ على الذهاب إلى العمارات الحكومية فى المواسم والأعياد ، أسأل الناس والمارة عن واحد مجنون شغال فى البلدية .. كان الناس يضحكون أحيانًا من السؤال ، وأحيانًا يجيبون بإجابات ساخرة ، غير أن واحدًا منهم كان جادًا اليوم فى الإجابة عندما سألته عن واحد مجنون شغال فى البلدية ، امتعض قليلاً ، ثم .... أشار إلىَّ .
( تمت )
فى 13 / 1 / 2005