محمد مندور - التفكير المذهبي

هناك نوعان من التفكير المذهبي: تفكير تفسيري، وآخر إنشائي. فالمؤرخ الذي يحاول تفسير التاريخ وتطوره وفقاً لفكرة موحدة جامعة، يفكر تفكيراً مذهبياً، فيقول مثلاً: إن تغير وسائل الإنتاج وحلول الآلة محل الأيدي قد غير من توزيع الطبقات الاجتماعية ونقل عقلية الشعوب، وهذا هو التفكير التفسيري. والسياسي الذي يقول بوجوب فصل السلطات الثلاث تنفيذية وتشريعية وقضائية وتحديد علاقاتها بحيث لا تبغي سلطة على أخرى، ويرى في ذلك ضماناً لصلاح الحكم، يفكر تفكيراً إنشائياً ويدعو إلى المذهب الذي يؤمن به

ولقد كنت دائماً شديد الحذر من التفكير المذهبي في مجال التفسير لما لاحظته من أن المذهب عندئذ لا يمكن أن يفلت من الضيق والتحكم. فالمؤرخ في مثلنا السابق لابد متعسف في عرضه، والناظر الحر التفكير لا يمكن أن ينكر أن تغير وسائل الإنتاج لم يكن بحال العامل الوحيد في تطور الإنسانية؛ فثمة النشاط العقلي وتوليد الأفكار وإرادة البشر ونزوعهم إلى المثل وظهور كبار القادة، وما إلى ذلك مما يعمل في التاريخ قدر ما تعمل وسائل الإنتاج أن لم يفقها.

وأنا على العكس من ذلك شديد الحماسة للتفكير المذهبي في مجال الإنشاء والدعوة، ولقد زادني إيماناً بهذا النوع من التفكير ما ألاحظ اليوم من تشتت الأخلاق السياسية والاجتماعية بمصر، وأخشى أن يكون بالشرق كله تشتتاً يملأ النفس حزناً، حتى ليصبح بالقلب أمل أننا قد نستطيع علاج هذا المرض النفسي المدمر إذا حاولنا جمع النفوس حول الأفكار المذهبية

وأنا بعد لا أجهل ما في المذاهب الإنشائية بالنسبة لبلادنا من مشقات وأخطار، فنحن بعد لازلنا بظاهر الحضارة نقرع أبوابها، وجانب كبير من حياتنا لا يزال محاكاة لحياة الغرب. وما يستطيع عاقل أن يقول أننا قد وصلنا من النضوج إلى حد الأصالة. وموضع الخطر هو أن نحسب مذاهب الغرب كما هي صالحة لبلادنا مضمونة النجاح فيها. ثم إن كل تفكير إنشائي لابد مصطدم بالكثير من حقائق الواقع عندما تستجيب له النفوس فتأخذ في تطبيقه. وهنا تظهر الصعوبات، إذ ترى النفوس متعصبة لما تؤمن به، وشهوة الفكر لا تقل عنفاً عن شهوة الحس، ويأتي الواقع فيستعصي، وإذا بالتنافر في العمل وتبلبل الحياة العامة.

هذه لا ريب صعوبات حقيقية، ولكنني مع ذلك لا أتردد في الدعوة إلى التفكير المذهبي في حياتنا العامة، ومن البين أن البلاد قد أخذت تتهيأ له في كافة نواحي نشاطها سياسية واجتماعية وثقافية. وكل ما تحتاج إليه لتخطو الخطوة الأخيرة هو التوجيه القوي من رجال، وبالأصح شباب ناضج على خلق وكفاية. وأكبر ظني أننا عما قريب سنمل سخائم الأشخاص وتخبط الشهوات وتحلل الأخلاق؛ فترتفع قلوبنا إلى مستوى التفكير المذهبي الذي ندعو إليه

وليس من شك في أن خير المذاهب الإنشائية ما نستمده من رغبات النفوس، فالسياسي الحكيم هو من يتحسس اتجاه مواطنيه، والشعب بغريزة الحياة يلتمس دائماً مخرجا من محنه؛ فما علينا إلا أن نبصره بذلك المخرج جامعين آماله حول فكرة موحدة نستمد منها مبادئ العمل. ولابد لنا من أن نروضه على ما ندعو إليه حتى يستقر بوعيه أن الخير لابد آت مما ارتضاه من نظام، ولنضرب لذلك مثلاً بنظام الحكم في بلادنا: ملك دستوري نرى فيه رمز الوطن وعزته ونضعه جميعاً موضع التقديس، حريصين على أن تظل ذاته بعيدة كل البعد عما نقتتل حوله من مبادئ الحكم ووسائله؛ وحياة نيابية وضعنا أسسها وفقاً لخير الدساتير. وتلك فكرة لاشك أن الأمة مجمعة عليها اليوم. ولكنك لو أنعمت النظر لوجدت أن هذا الإجماع لم يتغلغل بعد في إيمان الشعب ولا استقرت فوائده بنفوسهم ولا أدل على ذلك من انعدام ثقة الأمة بالانتخابات ونتائجها. ولعل في موقف أغلبية الناخبين - وبخاصة المثقفين منهم - من تلك الانتخابات أكبر دليل على صحة ما نقول. فما لقيت أحداً من مستنيري العقلاء إلا أخبرني أنه لم يشترك في الانتخابات طول حياته مرة واحدة، بل ولا يعلم أهو مقيد بجداولها أم لا، وتلك حالة تستحق النظر لأننا نخشى أن تدل على أن النظم قد سبقت إيمان الشعب وعقليته. ومن هنا أما يكون من الواجب أن نأخذ الأفراد بالقسر فنرغمهم على استعمال هذا الحق بل النهوض بهذا الواجب، فنجعل التصويت إجبارياً كما جعلته إسبانياً عندما كانت حديثة العهد بالنظم النيابية، وإلا فما فائدة نظام لا يتمتع بثقة ولا يتعلق بإيمان، ثم ما عمل القادة أن لم يروضوا الأفراد على ما فيه خيرهم؟

وأنت لابد ملاحظ نفس الظاهرة في الحياة الاجتماعية؛ ومشكلتنا الكبرى اليوم هي توازن الطبقات الاجتماعية، ولا يستطيع أحدنا أن ينكر أن بالأمة قاطبة نزوعاً إلى عدالة أتم ومساواة أحكم مما نحن فيه الآن. ولكنك تنظر فترى التبلبل في وسائل ما يحقق هذا النزوع، وقد أتلفت الشهوات حقائق الأشياء. فالخصومات السياسية وبالأصح الخصومات الشخصية قد أوشكت أن تعمي عن الأمة الحقائق. ونحن في الواقع أمام ثلاث مشاكل لكل منها حلها الواضح: مشكلة الاستغلال السياسي، ومشكلة أثرياء الحرب، ثم مشكلة الظلم الاجتماعي المزمنة المتأصلة، وتلك الأخيرة هي التي يجب أن يجتمع حولها تفكيرنا المذهبي، وأما الظاهرتان الأخريان فعارضتان، ومن حق أمة تحترم نفسها أن تحسمهما بالعمل العادل لا بالتلطيخ المزري. فإذا كان هناك استغلال سياسي قد حدث فأمامنا قضاة ومستشارون لا زالت الأمة تأمل فيهم الخير ومن حقها عليهم أن يقولوا في هذا الاستغلال رأيهم فإما براءة وأما إدانة، وفي كلتا الحالتين ستبرأ كرامة هذه الأمة البائسة. ومن الواجب أن نذكر الجميع بأن الاستغلال السياسي لا يمكن أن يكون السبب الوحيد في إثراء البعض وافتقار الآخرين فنحن الآن في حرب عالمية طاحنة قد غيرت من كافة وسائل الإنتاج والتجارة، وفي جميع أنحاء العالم وفي جميع أطوار التاريخ قد صحبت الحروب دائماً أكبر الاضطرابات الاجتماعية، فآلاف من الصناع والتجار بل والعمال قد أثروا دون أن تكون لهم بهذا العظيم أو ذاك صلة قرابة أو نسب، ونحن بعيدون عن أن ندعو إلى الرفق بهؤلاء المثرين الذين امتصوا دماء الشعب، ولكننا ندعو إلى إجراءات عامة تتناول الجميع كما يفعلون بالبلاد المتحضرة بدلاً من أن نقف عند شخص أو أشخاص بذاتهم متخذين منهم هدفاً لصغائر أحقادنا. إن من حق هذه الأمة أن يحاسب جميع أثرياء الحرب عن ثرواتهم وأن يرد ما اكتسب منها بغير وجه مشروع إلى خزانة الدولة. ولا يرهبنا في شيء أن ننادي بفرض ضريبة مستغرقة على رؤوس الأموال التي جمعت أثناء هذه الحرب، وأما ما سمعناه من فرض ضريبة على الأرباح الاستثنائية فتلك في الحق مهزلة. الواجب هو أن ترد رؤوس الأموال ذاتها لا أرباحها الخارقة، ترد من الجميع، لا من هذا الوجيه أو ذاك فحسب، وذلك أكرم على هذه الأمة وأعدل في النظر الإنساني السليم مما نغرق فيه اليوم من مهاترات. وهاتان المشكلتان بعد عارضتان كما قلنا، وما ينبغي أن تصرفانا عن المشكلة الكبرى، مشكلة العدالة الاجتماعية بين الطبقات. فهذه هي الفكرة المذهبية التي لابد للأمة من التعلق بها، وسبيل علاجها أيضاً هو التشريع وإصلاح نظامنا المالي والأخذ فيه بنظام التصاعد، ومما يحزننا ألا تقتصر محنتنا الحاضرة على إتلاف سياستنا القومية، فتصرفنا عن الجهاد في سبيل استقلال الوطن وتحريره تحريراً صحيحاً إلى محاربة بعضنا بعضاً بكافة السبل، حتى أصبحنا جميعاً كفيران في مصيدة حارسها لا يجهله أحد، وكل من ثارت نخوته سنة 1919 يعرف اليوم في حزن أننا جميعاً على ضلال. نقول إن محنتنا الحاضرة لا تقتصر على هذا التلف القومي المحزن، بل تمتد أيضاً إلى حياتنا الاجتماعية فتصرفنا عن التفكير في مشكلتنا العميقة، مشكلة العدالة الاجتماعية إلى مشكلتي الاستغلال والإثراء العارضتين، وبذلك تنحرف أيضاً بتفكيرنا المذهبي عن هدفه الحقيقي

والأمر في حياتنا الثقافية مثله كمثل حياتنا السياسية والاجتماعية سواء بسواء، فمن الناس وهم كثير من لا يزال يزج بالنعرات القومية والدينية في مجال الثقافة ليتلف علينا حياتنا عن جهل، فتسمع مقابلات عجيبة بين روحية الشرق ومادية الغرب، كان الغرب لا روح فيه والشرق لا مادة به. والمشكلة الحقيقية ليست مشكلة ثقافة الشرق وثقافة الغرب، وإنما هي مشكلة الثقافة أو الجهل، وهذه أيضاً فكرة مذهبية يجب أن يستقر عندها ضمير الأمة حتى تستقيم لنا الحياة. هنالك ثقافة إنسانية موحدة نشأت في الشرق، ثم انتقلت إلى الغرب الذي احتضنها دون أن يستنكف من صدورها عن غيره. ثم نأتي اليوم نحن الحمقى فنجادل جدلاً عقيماً في وجوب استردادها منه أو رفضها. ومن عجب أن ترانا جميعاً آخذين في هذا الاسترداد بالفعل، ومع ذلك نجادل في هل نحن على حق أو باطل، إن كنا على باطل فلنتخل إذن عن جميع مظاهر الحياة المادية التي تحوطنا من جميع النواحي، فكلها غربية، بل لنتخل عن مدارسنا وجامعاتنا ومناهج بحثنا، ولنرجع إلى (الكتاب) والحفظ عن ظهر قلب، ولنستمر في (العنقلة) ومناقشة الألفاظ كما عهدها الأزهر القديم وفي هذا المجال أيضاً تعمل أمراض النفوس وعقدها ومركباتها المختلفة أسوأ العمل، فالجاهلون بلغات الغرب يرون أنفسهم محرومين من وسائل التحصيل وإذا بالعجز يرتدي في نفوسهم أزهى الأثواب، فيناهضون ثقافة الغرب زاعمين أنها مخالفة لروحنا مدمرة لأصالتنا، وهم مع ذلك لا يتعففون عن أن يأخذوا بما يصل إليهم من فتاتها

لقد حان الحين لأن يستقيم تفكيرنا على أساس مذهبي يرتفع بقلوبنا عن حزازات الأشخاص ومهاترات الشوارع. لقد حان الحين لأن يلقى النفر المثقف منا ثقافة حقيقية بنفسه إلى المعركة، فبئس مواطن يستحوز على قلبه اليأس. بئس مواطن يغطي يأسه بتعال حقير. الوطن ملك لنا جميعاً كما كان ملكاً لآبائنا وكما سيكون ملكاً لأبنائنا، ومصائره اليوم معلقة في الخارج وفي الداخل وأهول ما نخشاه أن ننصرف عن أهدافنا الحقيقية إلى صغائر الأمور

د. محمد مندور


مجلة الرسالة - العدد 590
بتاريخ: 23 - 10 - 1944

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى