جوتيار تمر - آخر رسالة

آخر رسالة
أشعة باهتة تخرق ثقباً صغيراً في باب كوخ قديم ، بعيد عن الأنظار، تسقط على طاولة صغيرة قد غطى الغبار من كل جانب عليها.
بحنان هش تتحرك أصابعها التي تمسك بآخر رسالة وصلتها منه دون أن تظهر على محياها القدرة على مواصلة القراءة والتركيز .. صباحٌ آخر .. ساعات أخرى تعبٌ يتجدد .. والأشعة الباهتة تدغدغ أناملها وتخرق جدران قلبها ..!
تجلس بحذر وهدوء خطر على كرسي متآكل قرب الطاولة الصغيرة الغارقة حد اليأس في غبارها .. ترشف من الماء رشفة سريعة ثم يداهمها الصداع فتسترخي وتحاول أن تجمع قواها لمواجهة محنتها الأبدية .. تمد يدها إلى حقيبتها .. تعبث فيها .. تخرج علبة تفتحها وبسرعة تبلع قرصاً مهدئا.. تضع رأسها .. على إحدى طرفي الكرسي .. تمد ببصرها وتتأمل تلك الأشعة الباهتة التي تخرق ذلك الثقب الصغير في باب الكوخ .. تحاول أن تستجمع قواها ثانية .. لتعود إلى أوراقها المبعثرة هنا وهناك .. تمسك بواحدة تقرأ سطراً ، سطرين والثالث تتمتم مقدمة رائعة أعلم بأنه يحترق لبعدي .. ثم ما تلبث أن تهمس لكنها رسالة قديمة عفا عليها الزمن .. تضعها وتمسك بأخرى وترفعها لتضمها إلى صدرها .. وبهمس خفي كم هي رائعة هذه الكلمات كم أحبها هذه الرسالة ، وتبدأ بقراءتها بصوت مسموع كأنها في مربد شعري ومن شدة الغبطة والفرح لا تقدر على منع دموعها فهي على أنغام الكلمات تتساقط .. لكن الكلمات تقترب من نهايتها ولم يبق سوى السطرين الأخيرين .. فجأة تنتهي الكلمات ليأتي التاريخ .. بصفعته المؤلمة .. رسالة أخرى قديمة عفا عليها الزمن .. لكنها لا تيأس .. تظل تعبث بأوراقها حتى أمسكت مرة أخرى بأخر رسالة وصلتها منه تبتسم وتقول بأنه يحبني .. بل يعزني ولا يقدر على بعدي وإن كان قد هجرني لبعض الوقت فلأنه لم يعرف بعد معنى حبي وعذاب بعدي.. وحرقة غضبي ..!
لكن طال البعد .. ويكاد الشراع أن ينكسر ، وأنا لا أجيد الإبحار وحيدة بدونه.. تسترخي ثانية وبعد كل ذلك التفكير والألم تحاول مرة أخرى أن تجمع دموعها لتمنعها من الذبول والسقوط لكن هل يمكن أن تستمر على هذه الحال ؟ يداهم صدرها صوتٌ لاذع آتٍ من الأعماق لم لا؟ فهي ليست بأول امرأة داست على قلبها .. تتنهد وتعود ببصرها نحو ذلك الثقب الذي تتسرب منه تلك الأشعة الباهتة وقد غرقت في تفكير عميق .. إنها أيضاً لن تكون آخر مرة تستقبل الحزن بدلاً عنه!
(أحببته) تمتمت وكأنها تخاطب وتعاتب شخصاً تراه عيناها .. (أحببته) أعادتها ثانية وكأنه ماثل أمامها تستجوبه وكأن همساتها الرقيقة تداعب كالنسيم خصلات شعره.
(أحببته) رددتها هذه المرة بأسى شديد وقد خارت قواها واستسلمت لليأس.
شهران وبضعة أيام مضت .. دون أن يتصل بها .. أو حتى يسأل عنها .. شهران وبضعة أيام مضت ولا كلمة ولا رسالة تصلها منه.
مع أنها قد أرسلت إليه كلمات وأوراقاً هي في كل حروفها .. تناديه .. أغثني إن كنت فعلاً تحبني ساعدني .. نجّني .. من مأتمي إن كنت فعلاً أتيت لتضمد جراحي..!
أغثني..فأنا لم أعد أطيق بعدك هذا..ألا تشعر بما أنا فيه..؟ عد كفاك..فأنا صدري لم يعد يتحمل كل هذا العذاب..!


بغداد/ 11-10-1998

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى