حيدر عاشور - رجلٌ من قش


لم يبق له من شاغل سواها منذ ان تعرف عليها.. قبل ثلاثة أشهر، وظل يتردد على الدائرة التي تعمل، وفي كل مرة كان يبحث عن حجة وتبرير الى ان استعصى عليه ان يذهب مرة اخرى، وبدأ يتصل بها بالنقال وينفق الكثير من المال مقابل سماع صوتها وطريقتها المميزة بالكلام، وشعر وهو يسير بجانبها في حديقة ابي نؤاس انه امتلك الدنيا بأسرها وصرخ بصوت أدائي
- انا مثل شهريار وبين يديه فاتنة بغداد كلها.. فماذا اريد من الدنيا.. انا الملك عادل.
قالت له بهمس حازم :
- لدينا الكثير لكي تحتفظ بالشيء يجب ان تضحي من اجله.
وضع بين يديها هدية مغلفة فتحتها بسرعة وارتباك واطلقت صوتها اعجاباً.
وظل في كل لقاء او نزهة يحمل لها كل ما يحلو لها من الهدايا فلقد قرأ في يوم ما بأن ليس هناك من يجعل المرأة مطواعة سوى الهدايا مهما كان نوعها فالهدية تلعق العقل وتوحي بالإغراء، وظلت هي بين الحين والاخر تذكره بجدوى هذه العلاقة حتى قال لها يوماً :
- اعتقد ان الزمن الذي عشناه يكفي لغرس الثقة بيننا..
نظرت اليه وكأنها تختبر صدقه :
- الثقة تؤدي الى علاقة حقيقية وقرار مصيري.
اسرع بالإجابة وقد فهم مغزى كلماتها المؤطرة بنظرات خاصة :
- تقصدين الزواج.. هذا ما اخطط له، ولكن انت تعرفين الأمر ليس سهلا ً في هذا الزمن الأغبر.. علي تدبر الأمر من كل النواحي الاجتماعية والاقتصادية.
وعاجلته بالتساؤل :
- وكم تحتاج من الزمن ؟
- أشهر معدودة ويكتب لنا الله اللقاء الأبدي.
كانت تسير قرب الماء واخذت ترمي الحصى القريب منها .. التي تخلف دوائر متداخلة تنهدت:
- انه يوم عيد حقيقي.
- ثقي انه قريب وان زواجنا لناظره قريب.
وها قد مضى اسبوع على اخر لقاء بينهما، كانت تفكر به وبسبب هذا الغياب المفاجئ الذي لم تعتد عليه لا سيما وانه كثير الشوق طافح المشاعر إزاءها.. وحين خروجها في نهاية الدوام فوجئت به وهو ينتظرها بالجانب البعيد ويؤشر بالصحيفة التي بين يديه..
التقيا بلهفة شرح لها ظروفه الاخيرة وقد استأجر مكتباً تجارياً مع صديقه حامد فهو يضاعف جهده من اجل توفير المال.
واوحى لها وهو مستبشر بأنه سيأخذها الى المكتب الجديد لكي تراه فذلك افضل من التسكع بالشوارع والمتنزهات.
وحين طرقت سمعها كلمة (مكتب) ارتدت هواجسها وأبدت رفضها بحجة وجود صديقه او شريكه.
ضحك باحتراف، واخبرها بأن حامداً لن يكون موجوداً، وظلت تصارع رغبته بالذهاب طيلة الطريق المؤدي الى شارع الرشيد وحين اقتربا من المكان لم تشعر إلا وهي ترتقي السلم المتآكل الحواف وكلما تصعد درجة تقف لتطمئن نفسها ازاء الاسئلة المحيرة والقلق الذي يساورها بظهور هذا التطور في تفاصيل العلاقة وحين دخلت الغرفة الضيقة في الطابق الثالث ذات الاضاءة الرديئة شعرت بأنها دخلت في عالم آخر غير العالم الذي اعتادت عليه ومضت السويعات مسرعة امتدت يدها لترى الزمن والاشياء في الخارج قفزت من مكانها وهي تنظر الى ساعتها ونادته بان يخرجها من هذا المكان بسرعة.. كانت تصرخ.. أفسدت عليه متعة الانتشاء بالماء البارد بعد جهد جسدي وصراع مع الجسد غير مطواع ارتدى ملابسه على عجل ونزل بها، ارتطمت في اذنها اصوات الباعة وبقايا من البشر، شعرت بوخزة غريبة تتأجج في مفاصلها رغبت بنوبة هستيرية من البكاء في هذا الأصيل الحزين والذي يشهد تراجع وانسحاب اخر خيوط النهار كان يبحث عن سيارة اجرة وكأنه يهرب منها ومن التقاء العيون وفجأة امسكها واقسم لها بأغلظ القسم ان الأمر عادي وليس ثمة مشكلة طالما ان النهاية ستتوج بالزواج الشرعي..
ولا داعي لهذا الرعب والقلق..
لم تصدق انها وصلت البيت أغلقت باب غرفتها.. بكت بعنف وهي تحطم كل شيء وتعاقب نفسها وهي تصرخ:
- كيف سلمت نفسي بهذه السهولة. كم انا رعناء.
ولكن كلماته وتطميناته ومكالمته التي وصلتها قبل لحظات أعادت اليها بعض الهدوء، اخذت بعض الاقراص وخرجت الى حيث افراد اسرتها.
وفي اليوم الثاني فوجئت بزيارة لامرأة متوسطة العمر انزوت بها في زاوية من الدائرة واخبرتها بانها زوجة عادل، سقطت على الارض وهي تصرخ :
- عادل متزوج.
اومأت لها المرأة وهمست بإذنها :
سأتركه لك خذيه.. انا اعلم بعلاقته بك وستنتهي بعد ايام اوراق الطلاق، فالرجل الذي لا يحترم الرباط المقدس مكانه حاوية النفاية.
لا تعرف ماذا تفعل، وهل هناك من يفهم موقفها او قانون يحميها ؟
وبدأت تتصل به وتهدده واخبرته بانها اكتشفت خيانته وكذبه واضطرت ان تختلق الاكاذيب بأن اخوانها واباها سيأتون اليه وهي تعرف العنوان ومحل عمله وقبل ان تنتهي المهلة اخبرها انه سيأتي لخطبتها.
أقنعت امها حول قناعتها بـ(عادل) وهي تدرك ان الام هي بوصلة الاسرة.. وتم الأمر بسرعة للجميع ما عداها هي فلقد مرت الايام والساعات والثواني ببطء مر، وبكت بعمق ولاتعرف معنى هذه الدموع الساخنة، هل هو التطهر من الخلاص..؟ وبدأت لا تفهم نفسها..
بعد مضي اربعة اشهر على الزواج اتصلت فاتن بزوجة عادل وطلبت منها الصفح، وشرحت لها تفاصيل مأساتها، تعانقتا بعد ان طلبت منها عنوان المحامي فهي الاخرى قررت ان تتطلق منه... لم توافق الزوجة الاولى لكنها صمتت حين لمست وشعرت بإصرار الثانية.. في المساء تحدثت معه بخشونة وقسوة وقالت له بانها ستخرج من هذه الشقة البائسة للمرة الاخيرة ولقاؤنا في المحكمة..
رمت بوجهه ما امتدت اليه يدها وهي تصرخ:
- المرأة ليست سلعة للزينة او قنينة عطر تستبدلها.. المرأة عقل وروح وذاكرة..
- لكني كفّرت عن ذنبي.
- صدقني من يهن يسهل الهوان عليه ومن يخن مرة يخن الف مرة.. يا شهريار الليالي الملاح.
- صفقت الباب ونزلت الى الشارع بغضب وسرعة وتنفست الصعداء وشعرت بأنها حرة..

*حيدرعاشور
* قصة قصيرة من مجموعة ( بوح مؤجل )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى