ريم محمود - مجرد نص

الساعة الآن تمام الثالثة و النصف صباحا ، انا الان في أحد مشافي الخرطوم ، انظر عبر نافذة الغرفة رقم 7 إلى اتساع الظلام بين أزقة الحي الهاجعة حول المشفى . الان هذه غرفتي وحدي ، إلى حد ما تشبه غرفتي تلك في المشفى الاردني قبل عام من الان ولسخرية القدر كانت تحمل الرقم 77 . . . هل علي ان اتشاءم من الرقم 7 إذن؟!
ليست هي المرة الأولى التى احجز فيها غرفة لنفسي داخل مشفى كمريضة فقط و كعرابة موت ايضا . . .
منذ نصف ساعة علقت الممرضة محلولا وريديا غرست داخله حقنة مملوءة بسائل اصفر . . . ضبطت إيقاع القطرات إلى إيقاع نبضات ساعة معصمها. . . . و قبل ان تخرج قربت إلي سلة المهملات ذات الكيس الأزرق السميك ، و قالت : هذا إن شعرت بالغثيان.
أغلقت باب الألمنيوم بإحكام و مضت .
كنت لا أزال اتتبع خيال المارة خلف زجاج الباب الضبابي و هم يذرعون خطواتهم في الممر المضاء بأضواء ساطعة تنفذ خلال زجاج غرفتي المظلمة بخفة ، لتمنحها اضاءة خافتة تكفي لتحريك الوهم برأسي .
مع كل قطرة لزجة تمر عبر انبوب المحلول الوريدي إلى ذراعي الأيمن ، يزداد الطنين برأسي . . . . أزيز دائم طوال الوقت يعلو داخلي حتى ما عدت اسمع صوت نفسي و هي تهدهدني طوال الليل : اصبري . . . اصبري. . . اصبري .
من وقت لآخر ، أصاب بتنمل في ساقي حتى لا أدري حقا هل أمتلك ساقين ام لا ، و قبل أسبوعين عندما خضعت لجلسة علاج سابقة تورمت إحدى ساقي فجأة ، و أصبحت من الألم اتمنى بترها و لكنهم بعد الفحص طمأنوني ان لا شئ يدعو إلى القلق و حتى الان هذه مضاعفات طفيفة للدواء القاتل« يمكنك تحملها. !!. . »
يمكنني تمييز الذين يمرون امام باب الغرفة ، و يكتفون بالانصات إلى الأنين الصادر من تحت أسناني المطبقة ، دون قصد مني لاني لم اقو على الاحتمال . . . ثم لا يدخلون ، حتى لا أرى دموعهم . . . اعرف تلك المرأة الباهتة ذات العينين السائحتين خلف زجاج الباب كانت تصر على ان تسقيني منقوعا لحبة البركة ممزوجا بالعسل كل صباح . . .
اعرف انها دخلت الي بعد ان فركت عينيها بطرف ثوبها لتلقي علي نظرة قلقة و تجلس بجانبي يفترسها الصمت . . . ترفع قدمي فوق فخذيها وتمسحهما بمنديل مبلل . . . تعرف كم يؤلمانني و كأن مسامير تتنافس لنهشهما . . . لا تتوقف عن تلاوة الآيات لتمنح القدر رشوة تبقيني بها لعام آخر . . . لشهر آخر. . . ليوم آخر حية . . فقط لانها أمي .
طنين . . . طنين . . . يعقبه طنين اخر كأزيز محرك طائرة تتأهب للإقلاع لم أعد اسمع شيئا غيره . .
ألم ، يكاد يقتلع عظامي عن أماكنها و كثيرا ما ظننت اني إذا قمت من السرير الأبيض هذا فسوف أخلف عظامي فوقه لاني ما عدت أقوى على حملها .
لا يزال علي ان أبقى متيبسة فوق هذا السرير لساعة أخرى حتى ينتهي هذا الدواء اللزج الذي تنفذ رائحته الكريهة في انفاسي و عرقي و في كل شيء حتى دموعي . . . هو لا يشفيني بقدر ما يمتزج بي ليحولني إلى كائن لزج يتعلق بالموت اكثر من تعلقه بالحياة . . .
لست أدري كم مضى من الوقت . . . انظر إلى الساعة هي الان تجاوزت الرابعة صباحا بأربعين دقيقة . . .
لست أدري لِمَ يتلكأ الوقت ،لِمَ يصبح الان هلاميا كلوحة ساعات سلفادور دالي ، لِمَ يتماطل في المضي قدما . . . لِمَ لا يتركني الوقت و شأني و يمضي بدوني . ؟! لِمَ لا يتركني منسية و حسب ؟!.
قبل عام من الان كنت اكثر شجاعة ، عندما ذهبت لاجري فحصا إشعاعيا ليظهر ماهية و حجم ذلك التلبك في صدري ، و كنت اكثر شجاعة لاجري ذلك الفحص المخبري المؤلم ، عن طريق غرس ابرة غليظة إلى عمق التلبك في صدري ليحصلوا على قدر من الخلايا لفحصها، و كنت اكثر شجاعة و انا اذهب لاستلام النتائج المخبرية بنفسي . . لم يكن برفقتي سوى صديقتي . . كنت اعرف النتيجة مسبقا ، وأمضيت اياما عدة و انا أدرب نفسي على تقبل الأمر ،و ادعاء ان الله يحبني . . . و برغم ذلك أصابني دوار هائل جعلني أهوى على الارض، و انا اقرأ تقرير الطبيب ،بأني في المرحلة الثانية من المرض سيئ السمعة . . . لما لم أتمالك نفسي وقد تمرنت على هذا الموقف بالذات ؟! لم أكن متفاجئة او خائفة حتى ، كنت فقط اتساقط بلا توقف إلى أعماق مجهول لا قرار له.
أسوأ ما كان في الأمر ، انه كان علي مواجهة اهلي و مصارحتهم بالحقيقة . . . . و كان هذا يتطلب من الشجاعة قدرا لم أعد أملكه .
جلسنا معا بعد الغداء وقد تصادف انهم جميعا كانوا موجودين يتسامرون و يحتسون الشاي . . .
بدأت بجدية أخبرهم عن الأمر تدريجيا حتى ألقيت جملتي الأخيرة .
قلت : النتائج ايجابية ، وانا مصابة بلا أدنى احتمال للشك. . . . . او أمل في النجاة. .
كانوا ينظرون إلي في ذهول و بصمت مربك . . . و بأفواه ودعت آخر ابتسامة مهملة من سمرهم الوديع . . . كانوا ينظرون إلي بأعين زجاجية لا تطرف
في انتظار ان اتراجع . . . ان اضحك و اقول . . . كانت تلك مزحة !!!. . .
اقترب اخي مني ، هز كتفي قال: قولي انك تمازحيننا . . قولي انها دعابة ثقيلة . . . لم انبس بكلمة لكن لم استطع منع نفسي من النشيج . . بدأ زوجي يبكي خائرا على مقعده كنت قد أخبرته في الصباح و كان مذهولا طوال اليوم . . .
قام أبي من مقعده . . . اخذ الفحوصات من بين يدي أعاد قراءتها غمغم : سنعيد إجراء الفحوصات في أحسن مشفى و نقابل احسن طبيب لعل هنالك خطأ ما ، لا بد من وجود خطأ.
اكتفيت بإمعان النظر إليهم لم استطع الكلام . . . و ددت ان أخبرهم انه قد فات الأوان كثيرا ، و بدلا من ذلك طلبت منهم الا يصدروا جلبة فقط . . . .
أعدنا الفحص و قابلنا أفضل الأطباء ، و للمفاجأة قالوا جميعا نفس الشئ . . . ورم من الدرجة الثانية !
سافرنا إلى الأردن لإجراء عملية استئصال ، و هناك طلبت منهم استئصال الشق الآخر المعافى من صدري ايضا لأصبح امرأة امزونية لا تعير اهتماما
لرمز أنوثتها . . . ماذا سأفعل بالآخر؟ قلت للطبيب الأردني و انا أوقع على إقرار عملية الاستئصال .
قطرات المحلول الوريدي تهوي ببطء ، أمعن النظر فيها و افكر كيف تفتك بجسدي كل يوم دون رحمة. . تنتزع الحياة من كل الخلايا دون تميز بين خلية صديقة و أخرى خبيثة . . .
انها معركة مع الموت ، و علي ان أقاوم الدواء قبل ان أقاوم المرض ، و لأني طبيبة كنت اعرف كيف ان الدواء هو من يقتل المرضى و ليس المرض. . . كان تحديا كبيرا ان اجتاز اختبار الموت هذا لأعبر إلى الحياة و لا يحدث هذا كثيرا هنا . . لا أثر لأي معجزة. .
عندما بدأت جلسات العلاج هذه منذ شهر قمت بأخذ صورة لنفسي قبل ان اقوم بحلق شعري و الاستعاضة عنه بشعر مستعار بنفس لونه و طوله حتى لا أصاب باكتئاب .
و الان اعتدت على شكلى هكذا صلعاء بوجه امرد تساقطت عنه الحواجب و الرموش ، و كلما نظرت إلى المرآة ، عرفت ان هذا ما هو الا تمرين على الموت لم يكن هذا سوى وجه إنسان ميت منذ أعوام . . . غدا سينقل إلي دم لان الدواء حطم جميع خلايا الدم و اتلف النخاع ايضا . . . أتساءل و انا انظر إلى سقف الغرفة المنمق . . من سينجو من هذا . . من يستطيع ان يكسب معركة الموت هذه . . الموت لا يخسر !!
منذ ايام و الموت ضيف على حواسي جميعها ، و اعرف ان الأمر بيننا ما هو الا مسألة وقت وحسب . . . إحدى ابنتي اوصتني ان اجلب لها حلوى عندما أعود . . ستعرف يوما ما ان عودتي تلك سخاء كبير من جبروت هذا الموت الذي اتذوق طعمه الان ، مرا وجافا في حلقي. . . مرا وجافا، هذا هو طعم الموت لمن لم يذقه بعد. . . . مراً وجافا. ً

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى