حيدر عاشور . قربان النعمانية..



كان الرصاص ينهمر مثل سيل مطري، وتتردد في الافق اصوات الانفجارات لتحيل المكان الى مساحة ملغومة بكل ما هو غير متوقع...
اعتدل في جلسته وتمكن من اخراج رأسه قليلا خلف الجدار ليرى جزءا يسيرا من المشهد أمامه، فمنذ مدة من الزمن والرصاص يندلع بلا هوادة من مجموعة قناصين يتحصنون خلف بناية قديمة تقع بالقرب من مصفى بيجي.
شعر مثنى بالحزن لما يراه من تمكن هؤلاء الجرذان من قطع الطريق وإيقاف زحف أبطال لواء (علي الاكبر)، وقد اقسم الجميع على اقتحام المصفى، وجميع البنايات التابعة له.. حوّل الغربان المعتوهون المكان الى حرائق تتصاعد السنتها الى عنان السماء وقد ثقبوا برصاصهم الغادر خزانات النفط.
فكر مثنى مليا... النفط نعمة من نعم السماء، كان يمكن ان يتحول بعد استثماره الى خبز وأراجيح وسقوف تأوي المشردين، لكن الجرذان بارعون في اغتيال الامل وقتل الحياة.
جاءته صرخة من احد رفاقه:
- مثنى احذر ان تخرج رأسك .. فلقد كثر القناصون
ابتسم في داخله وأدرك ان قناصاً يربض خلف البناية العتيقة، هو من يقف في المقدمة ويعيق كل شيء .. قرر مع نفسه ان يركز كل حواسه ويرقب كل تفاصيل وحركة المكان لكي يصطاده، تذكر اباه قاسم وهو يصطاد الجرذان في احد بساتين النعمانية، لماذا لا يكون شجاعاً مثل أبيه..؟ كان رجلا مقاتلاً في الحياة والزراعة واقتناص الحيوانات وإثارة رعب اللصوص والغرباء.
شعر مثنى بأنه منقطع عن العالم تماماً، وليس امام ناظريه سوى القناص الذي كان حذراً مثل اي جرذ، لكنه قرر في لحظة ان يجندله وإلا لا معنى لبقائه في هذا المكان، نظر الى السماء وشفتاه تلهجان بالدعاء ان يكتب له النصر او الشهادة، وان يتمكن من ازاحة هذا الكائن المكتظ بالقبح وبعدها سينطلق لواء (علي الاكبر) ليعانق المجاهدون مصفى بيجي مثلما تندفع الجموع لمعانقة حضرة قربان الحرية الامام الحسين (عليه السلام).
وضع اصبعه على الزناد وعيناه مثل عيني صقر يراقب فريسته..امتلأ صدره بإحساس من المسرة والنشوة وهو يستحضر صورة امه التي نذرته منذ طفولته للإمام القاسم(عليه السلام)، وانداحت ذكرياته في صباه وهو يسهم في التشابيه التي كانت تتوشح بها مدينة النعمانية... أغبطه شوق غريب الى ان يقدم روحه قربانا لكي يستمر الزحف مثلما فعل (القاسم) وهو يعانق الحتوف بين يدي عمه.
هؤلاء الجرذان بحاجة الى من يجتث عفونتهم، كم تمنى ان تكون رصاصة واحدة تثقب كل رؤوسهم الخاوية وضفائرهم المليئة بالقمل والعبث والخواء.
تعبت ساقه اليمنى وتسلل فيها الخدر، حاول ان يحركها ليسري الدم فيها.. اجتاحته الفرحة الخفية وهو يرى القناص يخرج رأسه ويطلق سيلاً من رصاصاته، ركز انتباهه للحركة القادمة ودون ان يستوقفه اي شيء، ضغط بقوة على زناد (البي كي سي) وهاله المنظر الغريب حين تجندل القناص وتحول الى جثة نتنة سمع خلفه صيحات (الله أكبر... الحسين انتصر)، وشعر ان الجميع انطلق باتجاه المصفى كالزحف المهيب...
يا للهول كم كان هذا النتن مؤثراً، وقد سقط مثل جرذ خائب.. تذكر كلمة ابيه وهو يصطاد الجرذان بان الجرذ حيوان مؤذ لكنه حيوان غبي.
قبّل بندقيته وتمالكته رغبة الحاجة للهتاف وقراءة السور القصيرة والصلاة على النبي وآله رصاصة ذكية واحدة فتحت الطريق اليك ايها المصفى.. ستنال حريتك وستطاردهم حرائقك الى حيث جحورهم.
تساءل مع نفسه هل ستعرف امه وأبوه ما فعله ابنهم (مثنى قاسم الكلابي) وقد سحقت رصاصته رأساً مليئا بالأوهام..؟
تخيل المشهد فهو يعرف امه حين تسمع الخبر ستطلق الزغاريد وتوزع الحلوى على النساء والأطفال، وستحضر(صينية) القاسم، فابنها منذور له.. شعر انه اوفى بعهده، وحقق ما يتطلع اليه كل الاباء والأمهات الذين ينتظرون ابناءهم وهم يصنعون الحرية ويدسون الموت الزؤام بأرواح تفوح منها رائحة العفن.
قرر العدو مع رفاقه لكنه شعر بخدر في كتفه الايسر وبحرارة تسري في اوصاله..هجس قبل ثوان ان اطلاقه انطلقت ويبدو انها اخترقت كتفه الأيسر، صرخ بأعلى صوته فالجرح بدأ يتسع ويلتهم قواه..اقترب منه أحمد احد رفاقه في الجهاد.. وناداه:
- انهض يا مثنى فجرحك ينزف، سأنقلك الى موقع الاسعاف.
هيمن الحزن على أحمد وفي اعماقه شعر بان (مثنى) بدأ يفيض بروحه ويحلق باتجاه الأبدية، ليتحول الى قربان لمدينته النعمانية.. ولتعلو زغاريد الام وحماستها وهي تعانق ابنها البطل، شهيد الجهاد (الكفائي) المقدس، فيكفي ان شفيعه (القاسم) قربان الحرية المعطرة بالشهادة.
قرر أحمد ان يرافق جثمان صديقه الى مدينته النعمانية، فشرف كبير ان تتحول القرابين الى كرنفال مشع من الايمان وتمجيد البطولة.
بكى أحمد طويلا ولم يجد في جيب صديقه سوى صورة الام البهية ومبلغ سبعة الاف دينار وهاتف من النوع الرخيص .. انه اغلى قربان.

* حيدر عاشور
* قصة قصيرة ضمن [SIZE=6]مجموعة قصصية عن الحشد الشعبي اصدرها اعلام الامانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة في محافظة كربلاء العراقية وحازت على المرتبة الخامسة من بين عدد كبير جدا من القصص.

كلنا حشد غلاف.jpg
[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى