نيروز مالك - الحديقة الخلفية

التفوا حوله في قبو مهجور، اعتاد ان يقضي فيه ايامه في الاونة الاخيرة.. في القبو رتب حياته الجديدة، جلب معه لوحا خشبيا، جعل منه سريرا بعد ان فرشه ببعض الخرق، وقطع من الابسطة والسجاد القديم، كان قد التقطها عن المزابل، كما انه جلب اربع قرميدات ليضعها تحت اللوح، تمدد فوقه وراح يهز جسده ليختبر متانته وجودته لكنه شعر انه لن يقدر عن النوم بسبب الزقزقة التي كان اللوح يصدرها اثناء تقلبه فوقه.. ولكنه، مع مضي الايام، اعتاد صوت الزقزقة وبات لا يقدر على النوم من دون ان يسمعها! التفوا حوله وهم ينظرون فيما حولهم. قبل ان يسألوه عن أي شيء. ظن أول الأمر، بأنهم اصحاب القبو، جاؤوا ليطردوه كما طرده صاحب الخان من قبل.. الا انه فكر: لماذا يطردونه؟ فهو تخلى عن كل كلب او قطة من حيواناته التي اعتادت ان تجيئه من تلقاء ذاتها يوم كان في الخان. حاول ان يقول لصاحب الخان ذلك، ان يقول له، هي التي اتت اليه وليس هو الذي جلبها.. الا ان صاحب الخان لم يستمع اليه، قال له: لابد ان اراك في الغد هنا.. واشار له الى الباب، ان يخرج.. عندما التفوا حوله، كان متمددا على سريره، فقام وجلس على طرفه وهو ينظر اليهم. كانوا مازالوا وقوفا، يتأملون جدران القبو وارضيته الترابية، ثم يرفعون وجوههم الى الاعلى، يحدقون في السقف الداكن، او يتطلعون الى تلك النافذة الكبيرة التي غطاها ببعض القطع الخشبية التي لمها من الشوارع، او تلك التي اعطاها له بعض النجارين، عندما طالبهم بها، ثم جلب، في تلك الليلة التي ابترد فيها الجو، قطعا من القماش وغطى بها النافذة لتمنع عنه تيارات الهواء الباردة التي راحت تقرصه في الليل وهو نائم..لم يسألهم: ماذا تريدون، وعن ماذا تبحثون، ظل ينظر اليهم وهو حائر من أمرهم.. ينتظر ان يخبروه عن سبب مجيئهم، وما هي بغيتهم من ظهورهم لديه في القبو ـ قبوه ـ هكذا اطلق عليه في الاونة الاخير. نعم، انه قبوه.. فهو الذي نظفه من الاوساخ والاتربة وركن في زاويته اليسرى وابورا وبراد شاي، وبعض العلب التي وضع فيها السكر والشاي وأحيانا القهوة.. نعم، انه قبوه.. رآهم يلتفتون معا وينظرون اليه، او ينظرون عبره الى الجدار الذي يلاصق لوحه الخشبي ـ سريره ـ كأنهم لا يرونه، او كأنه غير موجودا بالنسبة لهم.. كانوا هكذا خمن، يريدون ان يقولوا له، سنجعل من هذا القبو مكانا متميزا.. كأنهم يريدون ان يقولو له، لم تعد لديك حجة في البقاء هنا، فهو، اي القبو، اصبح ملكنا.. ولكنهم لم يقولوا له ذلك، انما اقتربوا منه، لقد رأوه على ما يبدو اخيرا، والتفوا حوله.. وقالوا له بعد ان ابتسموا: ماذا.. الا تريد ان ترحب بنا كضيوف؟ اهتز شيء ما في داخله عندما سمع كلمة «ضيوف» وتهدم في نفسه كثير من الاشياء الثابتة، واقلها ان يكون لديه ضيوف.. قام دفعة واحدة، وظل واقفا ينظر اليهم من عل.. ما لبث ان قال بارتباك: اهلا وسهلا بكم.. ولكن. لم يستطع ان يكمل. انما اشار بيده الى ما يحيط به من العراء، واراد بذلك ان يقول لهم، كما ترون، لا املك شيئا يمكنني ان اقدمه لكم. ابتسموا له وقالوا: لا بأس.. لقد جلبنا معنا قليلا من الشاي والقهوة والسكر.. وايضا كمية لا بأس بها من الزهورات.. كل ما نريده منك ان تجهز لنا ما تريد ان تتناوله من هذه المشروبات، لنشربه معك. ضحك لهم، وتحرك بارتباك متوجها الى الوابور ليشعله ويجهز فناجين القهوة.. قالوا له: وفي الغد سنجلب لك «بوتغازا» فهو اسرع في تحضير الشاي والقهوة.. لم يصدق ما سمعه. التفت اليهم ليرى ان كانوا صادقين في قولهم ام لا.. كانت وجوههم تدل على الصدق.. اشعل الوابور، ووضع براد الشاي فوقه، وراح يغني اغنية قديمة جدا وهو يحاول ان يتذكر اصحاب الوجوه التي التفت حوله. لقد رآها.. نعم. رآها.. ولكن اين؟ لا يتذكر.. وربما ايضا لم يرها.. انما كل ما في الامر يهيئ له ذلك.. لا .. لا .. يقينا رآها فهي وجوه مألوفة لديه.. وربما رآها في السوق، او في اقبية الابنية الاخرى التي تحيط بقبوه، او عمل معهم ذات يوم.. يقينا ليست وجوها جديدة عليه.. والامر الذي يؤكد ذلك، هو لحظة دخولهم عليه، لقد شعر بأنه يعرفهم، وهم ايضا يعرفونه. سيسألهم نعم يجب ان يسألهم ان كانوا يعرفونه.. وعندما فعل، التفتوا الى بعضهم وضحكوا ضحكة كبيرة مجلجلة.. حتى ان صداها تردد طويلا بين حيطان القبو. ثم قالوا له بصوت واحد: «طبعا نحن نعرفك.. لو لم نعرفك، هل كنا نتطفل عليك وعلى قبوك هذا؟ قال لهم: انا اسف.. لم اقصد. تغامزوا فيما بينهم وسألوه: وأنت.. هل تعرفنا؟ نظر اليهم بعد ان احمر وجهه، وتضرجت بشرته بالدم خجلا.. فاطرق وقال: كأني اعرفكم.. لانني منذ قليل كنت افكر واسأل نفسي، اين رأيتكم؟ سألوه وهم لا يزالون يضحكون: وهل تذكرت اين رأيتنا؟ عاد واطرق وجهه الى الارض خجلا وقال: بصراحة لا.. ولكني رأيتكم.. ربما في السوق.. هزوا رؤوسهم وقالوا: المهم اننا نعرف بعضنا.. اليس كذلك؟ اجابهم وهو يبتسم لهم برضى: نعم.. قالوا له، وهم يشربون الشاي: الا تعتقد معنا ان قبوك هذا خال، لا يوجد فيه شيء يسر النظر ويشيع الرضى في القلب؟ ابتسم لهم بخجل وقال: نعم.. ولكن.. اقصد اني مرتاح.. هزوا رؤوسهم وقالوا: لا يهمك.. غدا سنجلب لك بعض الأغراض تفرح قلبك بها.. لم يصدق ما سمعه منهم. ظل ينظر اليهم. ينقل نظره من واحد الى آخر وهو يقول في نفسه، أي رجال رائعين هؤلاء.. ايمكن ان يجلبوا لي بعض الاغراض..؟ ان فعلوا ذلك فلا شك بأنهم اناس طيبون، اشبه بالملائكة.. نعم سيجلبون لي بعض الاغراض، هم قالوا ذلك.. لا يمكن لهم ان يكذبوا، ثم لماذا يكذبون علي فأنا لم اطالبهم بشيء.. هم تبرعوا وقالوا سنجلب لك بعض الاغراض.. وضحك ثانية. كانوا قد شربوا الشاي وغفا كل واحد منهم في مكانه. ظل ينظر اليهم كان بوده لو كان لديه بعض الحرامات الصوفية، لكي يقوم ويغطي كل واحد منهم بحرام او اكثر لقد ابترد الجو ولكن يا للأسف ليس لديه سوى خرق بالية يخجل من ان يقوم ليغطي بها احدهم. ظل ينظر اليهم ويتأملهم. لا يدري ان كان ما رآه على وجوههم كان في يقظته ام في نومه، الا انه رأى على وجوههم تلك البسمة البريئة التي لا يمكن للمرء ان يراها سوى على وجوه الاطفال الصغار، الاطفال الذين يشبهون ملائكة الجنة.. نعم انهم اشبه بملائكة والله العظيم هم ملائكة انظر اليهم لقد غفوا كأطفال صغار ثم هاهي الارياش تنبت على ظهورهم تشكل لهم اجنحة انهم ملائكة لو لم يكونوا ملائكة لما كان لهم أجنحة بأرياش بيضاء. ومد يده الى خلف ظهره أراد ان يتأكد ان كانت الاجنحة قد نبتت له ايضا كما نبتت لاصحابه.. حرك يده خلف ظهره الى الاعلى والى الاسفل ابتسم وقال: ليس بعد.. ولكن يقينا سينبتان.. لابد لهما ان ينبتا نعم ها هما ينبتان اصبح له ايضا جناحان بريش ابيض ثم اخذت السماء الزرقاء تمتد امامه بل امامهم جميعا لانهم هاهم يستيقظون من غفوتهم التي امتدت اكثر من ساعة. ضحك وسألهم: كيف كان الشاي؟ قالوا له: كان ممتازا ثم قالوا له: ما رأيك لو نخرج من قبوك هذا، الى هذه السماء الزرقاء الواسعة لنطير قليلا على صفحتها الصقيلة؟ أجابهم بحماس: نعم أنا موافق.. هيا بنا. وخرجوا جماعة.. اصطفوا فوق المصطبة الى جانب بعضهم بعضا وقالوا: سنطير معا.. قال احدهم: سأعد ثلاثا.. ثم نقفز لنحلق في السماء. اجابوه: نعم.. هيا.. عد. واحد.. اثنان.. ثلاثة.. هب. وقذفوا بأنفسهم في السماء. ولكنه لم يطر مثل اصحابه، انما سقط على الارض.. فاستيقظ مرعوبا.. كان قد سقط عن لوحه الخشبي. اما اصحابه فلم يكن احد منهم موجودا كانوا قد ذهبوا.. قام عن الارض وجلس فوق طرف اللوح الخشبي وهو يتساءل: هل كان يحلم؟ فرك عينيه. كانوا هنا.. بحق الله كانوا هنا، حتى ان الاكواب التي شربوا بها الشاي مازالت فوق الصينية.. ولكن اين ذهبوا؟ فكر طويلا طوال الليل فكر الا انه لم يستطع ان يجيب على سؤاله فنام في تلك الليلة حزينا حزنا أسود.. في المنام اتوه لم يتغير فيهم شيء بلباسهم كانوا، وايضا بأحذيتهم ووجوهم. لم ينظروا اليه. كانوا يتكلمون مع بعضهم ويقومون بحركات خرقاء مضحكة. كانوا يشيرون الى هذه الزاوية من القبو، او تلك ثم يتقدمون من الحائط الايمن يهزون رؤوسهم بغباء كأنهم ينفون امرا ما، او ينقضون اتفاقا كانوا قد اتفقوا عليه أو كانوا قد تجاهلوه تماما، كأنهم لم يروه، او انه غير موجود.. رآهم يتحلقون حول بعضهم يقتربون برؤوسهم حتى تصبح متلاصقة الوجوه يتهامسون، ثم ينفجرون بالضحك يعودون الى همسهم، ولكن لا ينجرون بالضحك هذه المرة، انما يعودون الى التباعد عن بعضهم والى حوارهم ايضا بصوت عال.. الا انه ويالغرابة الامر، لا يعرف معنى نقاشهم لم يفهم عليهم كأنهم يتحدثون بلغة يجهلها. ظل ينظر اليهم وهو ينتظر منهم ان ينتهوا مما هم فيه من نقاش صاخب.. شعر كأنهم في معركة، كل واحد منهم يريد ان يكسبها كل واحد منهم يريد ان يكون رأيه هو السديد.. لا يعرف لماذا في اللحظات التالية ارتفع الغضب في نفسه، وأراد ان يصرخ بهم قائلا عندما تملكون هذا القبو يمكنكم ان تتناقشوا بهذا الصوت العالي، عندما اتطفل عليكم يمكنكم ان تتجاهلوني اما لأني اول من سكن هذا القبو، وقام بترتيبه وتنظيفه فلا يحق لكم معاملتي هكذا. وأراد ان يقوم، ليعلن لهم بصوت صارخ ان يكفوا وأن يصمتوا وأن يستمعوا اليه.. وقبل ان يتحرك من مكانه التفتوا اليه ضاحكين. تقدموا منه وتحلقوا حوله.. ولولا ضحكهم لظن بأنهم التفوا حوله لكي ينالوا منه.. يقتلونه قتلا.. قالوا له: هناك مفاجأة!! اننا نحضر لك مفاجأة.. فأغمض عينيك. تطلع الى وجوههم واحدا بعد الآخر بعد ان انتابه شعور بالخوف.. قالوا له: مابك قلنا اننا نحضر لك مفاجأة.. هيا اغمض عينيك.. ابتسم لهم ابتسامة بلهاء وتردد في اغماض عينيه، الا انه اغمضهما في النهاية بعد ان ارهف سمعه.. وتحفزت اعماقه لردة اي فعل يمكن لهم ان يقوموا بها باتجاهه. ومر وقت سمع صوت اقدام بقرب الباب، اشياء ترفع عن ارض القبو وأخرى توضع في مكانها او الى جانبها، او في مكان آخر كان خاليا ماذا؟ هل يسرقونه؟ ولكنهم لم يتحركوا من حوله، لا يزال يحس بهم الى جانبه، حتى ان انفاسهم تعلو وتهبط امام وجهه.. ورأى على صفحة خياله السوداء ابتسامتهم.. كانوا فرحين لماذا؟ لا يعرف.. نعم انه يحس بفرحهم.. فشعر بضيق بعد ان مضى مزيدا من الوقت وهو مغمض العينين. وعندما قالوا له: افتح عينيك.. رأى القبو قد تغير بفعل سحري.. لقد امتلأ بالأغراض تذكر انهم وعدوه في اليوم الفائت انهم سيأتون بأغراض له. نعم تذكر هاهم وقفوا بكلامهم.. بوعدهم نظر الى وجوههم وهو لا يصدق ما رآه كان هناك سرير معدني مكان لوح الخشب القديم، وفوق السرير فراش من الاسفنج المضغوط، مع لحاف بغطاء كله ألوان وزهور وهنا بوتغاز فوق صندوق صفيحي صنع خصيصا لهذه الغاية والى جانب جهاز البوتغاز جرة السائل الزرقاء اللون.. كما انه رأى خزانة معدنية رصاصية اللون يقبع وراء زجاجها مجموعة من الصحون الزجاجية والمعدنية، كما انه رأى ايضا مجموعة من العلب الصغيرة التي يوضع فيها الشاي والسكر والبن الاسود.. والملح والبهارات والفلفل وطشتا لغسيل الثياب.. وهنا قالوا له، نحن آسفون كان بودنا ان نجلب لك غسالة ثياب ولكن قبوك غير مجهز بالكهرباء.. ثم قالوا له: سنحاول ان نمد اليه اسلاك الكهرباء ولكن هذا الامر سيكون في المرحلة التالية. ثم راحوا يتحدثون اليه بكلام غامض بينما سؤال يدور في نفوسهم، من هؤلاء البشر؟ ومن أين أتوا؟ ولماذا يساعدونه ويهونون عليه ايامه التي كانت قاسية وصعبة قبل ظهورهم الفجائي في حياته. سأل نفسه كثيرا من الاسئلة الا انه لم يفلح ابدا بايجاد الجواب لها كانوا يصبون الشاي ويشربونه بأكواب كبيرة ويقولون له: اشرب.. ماذا؟ هل انت خجل منا ويضحكون وهم يقولون: تصوروا كأنه هو الضيف بيننا وليس نحن ضيوفه.. ويقولون له ايضا ان كنت برما بوجودنا يمكن ان نقوم ونختفي من القبو لا، بل من حياتك كلها.. من دون ان نسعى اليك مرة اخرى ابدا. قال لهم وهو يداري ارتباكه وخجله ابدا انتم في مقلة العين ولكن لا أعرف ماذا يجري حولي.. كأنكم هكذا احس «أمي وأبي!» ويهز رأسه ويقول لا حتى أمي وأبي لم يعاملاني هذه المعاملة التي تعاملونني بها ولكن ماذا ويهز رأسه لا يكمل، يخاف ان يجرحهم، ان سألهم ماذا يريدون منه؟ ويسمع ضحكهم.. وهم يشيرون اليه ويقولون، أتعرف بماذا كنا نتناقش بينما كنت نائما؟ نظر اليهم مستفسرا، قالوا: لقد نظرنا اليك وأنت متمدد فوق لوحك الخشبي القديم.. لقد ذكرتنا قامتك بقامة احد الضباط! طول وعرض سأله احدهم كم هو طولك؟ هز رأسه انه لا يعرف، فهو لا يكترث بهذه الامور ابدا.. اخرج احدهم من جيبه مترا مددوه وراحوا يقيسونه نعم قال احدهم وهو ينظر الى المتر نعم طوله مئة وخمسة وثمانون سنتيمترا. وفجأة سأله احدهم: اخبرنا هل كنت ذات يوم.. ترتدي لباسا عسكريا.. وتضع بعض الرتب على كتفك؟ نظر اليهم باستغراب وأجاب: كلا.. ضحكوا وقالوا، يا الله كم كان يشبهك.. ويتغامزون وهم يتابعون: كنا صغارا، في العاشرة تقريبا.. اكبرنا كان في العاشرة.. وأشاروا الى احدهم. ثم تابعوا، كنا نراه.. كان بقامتك اليوم، بطولك وعرضك.. حتى ان وجهه كان يشبه وجهك اليوم.. ثم سألوه بجدية، اصدقنا، الم تلبس ذات يوم لباسا عسكريا؟؟ ولم يتركوه ان يجيب. تابعوا: يا الله كم كان يشبهك.. لقد مضى على تلك الايام اكثر من خمس وعشرين سنة.. كنا اطفالا صغارا.. لاشك تتذكرنا.. يوم كنا اطفالا.. كنا ندور حولك ونهتف لك هتافات عسكرية.. كنت تضحك لنا، وتقول، ما هكذا يخاطب الضباط الكبار.. ثم تقول لنا كلاما عسكريا لم نفهم منه شيئا ابدا.. ويسألونه: أتذكر.. يستغرب كلامهم واسئلتهم وهو ينقل نظره من وجه إلى آخر من الوجوه المحيطة به.. ثم يضحكون ويقولون، بصراحة.. كنت اشبه بجنرال كبير.. يهتف احدهم، لا، بل كان جنرالا حقيقيا.. يا حسرتي على تلك الايام، ايام كنا اطفالا صغارا اما أنت فكنت جنرالا كبيرا.. ويسألونه: هل تعرف لماذا نحن اليوم نتحسر على تلك الايام؟ لم يرد ان يجيبهم، لأنهم يقولون كلاما غريبا، ولكنه قال: لماذا؟ اجابوه لأننا كنا صغاراً! كما كنا نود ان نكون كبارا في تلك الايام البعيدة التي كنت فيها جنرالا، كنا نود ان نكون كبارا لنكون من جنودك.. لنذوق المجد على يديك كما ذاقه الذين من قبلنا.. التفت حوله شعر كأنهم يتكلمون الى شخص غيره.. لم يجد أحدا غيره.. تساءل، ماذا؟ هل يرون فيه شخصا آخر؟ نعم.. لابد انهم يرون فيه شخصا آخر.. لقد تاهوا عن طريقهم.. فأتوا اليه.. اراد ان يقول لهم ذلك، إلا انهم تابعوا: مازلنا نتذكر تواضعك في تلك الايام.. جنرال كبير مثلك كان يقف معنا نحن الاطفال الصغار لتداعبنا وتعطي كل واحد منا «سكرة» او حبة شكولاتة.. هل تذكر تلك الايام؟ ويتابعون وهم لا يتركون فرصة ليقول لهم: كلا.. لا اتذكر.. ولكنك، يقولون، فجأة اختفيت من حياتنا.. قالوا لنا عندما سألنا عنك، انه في مهمة ضخمة، جسيمة لا يمكن لأي كان ان يقوم بها.. انها مهمة خالدة، لا يمكن الا لكبير مثلك ان يقوم بها.. فتح عينيه واغمضها عدة مرات، ظن انه مازال نائما، إلا انه كان في كامل يقظته، ولم تكن شدة يقظته في يوم من الايام كما هي في هذه اللحظة.. ورغم هذا سأل نفسه: ان كان حقا جنرالا ذات يوم؟ ويتابع: هناك الكثير من الناس ينسون ماكانوا عليه.. هل يمكن ان اكون واحدا من هؤلاء الذين نسوا ما كانوا عليه؟ تابعوا، هل تعلم.. كم نحن بشوق ان نلعب لعبة.. او بالاحرى ان نعيد مجدا رأيناه كبيرا ونحن اطفال صغار؟ سألهم بتردد: اي مجد تقصدون؟ ضحكوا وقالوا: مجدك.. التفت حوله وهو يقول بشك: مجدي! قاموا دفعة واحدة وهم يهتفون: نعم مجدك. ثم اضافوا وهم يتصايحون: وعلينا ان نعيده لك.. ان نعيده لنا.. لم نعد صغارا.. لقد اصبحنا كبارا، ونحن نستطيع وبقوة ان نعيده لك، لنا.. هيا.. ورآهم وهم يقومون الى الرقص.. تهالك فوق السرير وهو لا يصدق ماتراه عيناه، ايعقل ان يرقص الجنود؟ هز رأسه مستنكرا وهو لا يصدق ما يرى، ولكنه ما لبث ان شعر بالذنب، لانه اساء اليهم في تفكيره. انهم رغم ذلك طيبون. والتفت حوله، مسح الاشياء التي جلبوها له بنظرة مريرة حانية.. لقد اصبح قبوه الذي كان مهجورا بيتا حقيقيا.. فرشوه بكل مايلزم، وجعلوا له بابا حقيقيا، له مفتاح وايضا جعلوا له نافذة بزجاج يمكنك ان تغلقها ساعة تشاء، وان تفتحها لحظة تريد.. وان تسمح للهواء بالعبور الى الداخل او تمنعه من ذلك.. والتفوا حوله قالوا بصوت صاخب: نعم.. علينا ان نعيد المجد الذي فقدته وفقدناه جميعا.. هيا.. وشدوه يريدون منه ان يذهب معهم. استغرب تصرفهم وهو يتساءل، الى اين.. تريدون اخذي.. قالوا له: الى المكان الذي سنبدأ فيه، لنعيدك جنرالا حقيقيا.. قال: ولكن.. قالوا: هيا.. لقد فاتنا كثير من الوقت.. ويجب الا نضيع المزيد منه.. قال: الى اين؟ قالوا: أولا الى الحمام.. يجب ان نغسلك بأيدينا.. يجب.. واخذوه عنوة، ولكنه مالبث ان استسلم لهم، ثم راح يضحك وهو يحاول ان يتذكر آخر مرة استحم فيها.. لم يعرف، ولم يتذكر، ولكنه استطاع ان يخمن، اعتقد بأنها كانت منذ سنة.. أو ربما اقل بقليل او اكثر بقليل من السنة.. ولكن لايهم.. قالوا له وهم يدفعونه الى داخل الحمام ضاحكين، من الآن فصاعدا، عليك بالسكوت، وعدم فعل اي شيء.. اترك كل الامور لنا.. نحن.. نحن الذين كنا صغارا، يوم كنت جنرالا كبيرا، نحن الذين سنعيد اليك المجد الذي فقدناه عندما اصبحنا كبارا، يوم فقدت مجدك.. لا تسأل كيف؟ دع الامور لنا.. من الآن.. نقصد من هذه اللحظة التي ندخل فيها الحمام الى اللحظة التي ستجد نفسك رافلا بالمجد من جديد.. وهتفوا به: هل فهمت؟ هز رأسه وسلم نفسه لهم وقال لنفسه: ليفعلوا بي ما يشاؤون حتما لن اجد منهم إلا كل خير.. لأنني منذ ان وجدتهم في قبوي وبرفقتي لم اجد منهم سوى الحب والمنفعة.. واغمض عينيه وهو يتذكر، عندما دخلوا الى الحمام كانت الساعة تشير الى التاسعة، اختاروا مكاناً فيه ثلاثة اجران ماء، مع مرحاض افرنجي، وآخر عربي، وبركة ماء، ومصطبة عالية مغطاة بالابسطة والمآزر.. كانوا يغنون عندما بدأوا بتدليكه.. ولم يبدأوا بذلك الا بعد ان قام «الحمامجي» بتفريكه أول الامر.. حتى ان «الحمامجي» شعر بريبة وهو يفرك هذه الرمة والجيفة.. منذ متى لم يغتسل رجلهم هذا؟ ولماذا هم فرحون كل هذا الفرح؟ وعندما سألهم عن اسباب اهتمامهم به، التفتوا الى بعضهم ما لبثوا ان قالوا له: انها حكاية طويلة. قد لا تصدقها.. إنه ابونا.. لقد اضعناه ونحن اطفال صغار.. فتزوجت امنا بآخر، وكان غنيا، وعندما مات منذ سنة، اصبحنا نحن ورثته.. وعندما وجدنا ابانا منذ ساعات وهو في الحالة التي تراها، الا يحق لنا ان نفرح به ونهلل؟ اجابهم «الحمامجي» وهو في شك من حكايتهم: طبعا.. يحق لكم ذلك.. نظر اليهم، ايمكن ان يكون اباهم؟ ولكنه ابعد الفكرة من رأسه عندما رآهم يضجون بالضحك وهم يحدقون به.. ظلوا بالحمام حتى السادسة صباحا، اصبح جلده كجلد المسلوخ، بات يوجعه كل مكان في جسمه.. لقد اصبح كالشوندرة الحمراء.. تمنى لو تركوه لحظة لينام. فقد كاد يموت من النعاس، إلا انهم لم يدعوه.. كانوا يطلبون الطعام والشراب والفاكهة، يتحلقون حوله، يقولون له بهمس وهم يبتسمون: يجب ان تأكل.. يجب ان تشبع عينك من الأكل يا جنرالنا، يجب، عندما نبدأ بجعلك جنرالا، ان تكون زاهدا في الأكل والشراب واللباس والذهب والمال.. في كل شيء، سوى الحياة.. نعم الحياة وحدها يجب ان لا تزهد فيها.. ويهز رأسه من دون ان يستوعب شيئا من كلامهم. كان يود ان يقول لهم: دعوني انام ساعة.. ساعة فقط.. الا انهم كانوا لا يسمحون له بذلك.. وفي ساعة من ساعات الصباح خرجوا من الحمام بعد ان البسوه ثيابا غريبة.. هكذا ظن.. نظر اليهم باستغراب وسألهم: ما هذا اللباس الغريب الذي البستموني اياه؟ ضحكوا وقالوا: ماذا؟ هل نسيت ثياب مجدك.. يا جنرال؟ ثم سألوه: قل لنا، ماذا كنت تلبس يوم كنت جنرالا.. يوم كنت تبني امجادنا ونحن اطفال صغار.. نظر الى صدره الذي غطوه بالنياشين وقال لنفسه، حقا.. ماذا كنت ألبس؟ اجابوه: هذه الثياب وهذه النياشين وهذه الاشرطة والرتب.. هز رأسه موافقا. لقد اشتد عليه النعاس، ود ان ينام إلا انهم لم يدعوه.. قالوا له، لا بأس.. ستنام ولكن ليس بعد ان ندخل الى المكان الذي سنبدأ فيه رحلتنا نحو مجدك.. اصبر قليلاً ياجنرال.. سألهم: أين.. وكيف؟ وضعوا اصابعهم على فمه يسكتونه وقالوا له معا: ألم نقل لك ان لا تسأل، ان تترك الأمر لنا.. هز رأسه آسفا وقال: المعذرة.. استقلوا سيارة اجرة.. ذهبوا به الى مكان غريب. كأنه سوق.. سوق كبير. فيه بشر كثير.. ناس وخلق.. نساء ورجال واطفال وشيوخ.. ولكن اكثر ما ازعجه هو اصوات زمامير السيارات الهادرة، وحركة الناس وضجيجهم وصراخهم على بعض. ود لو وضع قطنا في أذنيه. قالوا له: اصبر نكاد ان نصل.. وقفت السيارة، نزلوا منها. قالوا له: كما قلنا لك.. دع الامر لنا، لا تنطق بكلمة.. اسكت.. دع الامر وتسييره لنا.. أنت عليك فقط ان تزهو ببزتك ونياشينك.. ارفع رأسك الى الاعلى وانظر بكبرياء الى الناس وايضا الينا.. نحن جنودك الذين سنجلب لك المجد الذي فقدناه معك.. دخلوا الى زقاق ضيق، مالبث ان توسع في نقطة فيه، كان الزقاق اشبه بزجاجة لها عنق ضيق تنتهي بقعر مسدود.. وجد الدكاكين الموزعة على طرفي الزقاق تلمع وتبرق وتخطف انوارها الابصار.. اهذا هو الذهب الذي سمع عنه يا ترى؟ ربما.. يذكر ان سوقا للذهب كان هنا ذات يوم، يعبر خياله السوق كالطيف، لقد زاره يوم كان طفلاً صغيراً مع امه.. يوم زوجوا شقيقته.. ابتسم وقال.. كان ذلك زمناً بعيداً وقديماً.. قالوا له وهم يقتربون من احد محلات الصاغة: دع الامر لنا. اصمت.. اسكت.. ترفع عما تراه من الذهب.. انه معدن لا يرتقي الى رفعة نياشينك. وامام الباب، تقدمه اثنان، اما الثالث فسار وراءه. استغرب، لماذا يدفعونه برفق الى محل صياغة.. ماذا يريدون ان يشتروا له..ذهبا؟ لا يمكن. ولكن ما لبث ان قال، ربما يريدون ان يصنعوا له اوسمة من الذهب الخالص.. أو ان يصنعوا له مزيداً من الاوسمة والنياشين الذهبية. سمعهم يقولون: تفضل يا سيادة الجنرال.. تفضل.. هرع صاحب المحل من وراء مشغله المزين بأفضل مشغولات الذهب الى الباب بعد ان جّمد الرعب تقاسيم وجهه وهو ينظر الى الضابط الذي يقف في باب المحل.. أيّ خطأ ارتكبه؟ اي كلام تفوه به امام بعضهم من دون حذر؟ اي عقاب ينتظره.. نقل نظره ما بين وجه الجنرال الجامد وبين وجوه مرافقيه القاسية.. الذين سمعهم يرددون: تفضل .. تفضل يا سيادة الجنرال.. فانتفض مرة اخرى وخرج الصائغ من جموده وهو يمد يده امامه ويهتف بعد ان زايله بعض الخوف مكرراً ما قاله مرافقي الجنرال: تفضل.. تفضلوا.. سيادة الجنرال.. كان لابدّ له ان يصعد وهو يلتفت حوله. صعد الدرجة الوحيدة، اصبح داخل المحل.. رآهم يهرعون وراءه، داروا حوله، يقومون على خدمته، اراد ان يقول لهم: ليس هناك حاجة لعمل شيء له، انه يقدر على التصرف بنفسه ولكنه تذكر ما قالوه له: لا تفعل شيئاً دعنا نحن نتصرف. قدموا له كرسياً من الجلد وهم يتسابقون في القول: تفضل.. تفضل يا سيادة ال... كان لابد له من الجلوس.. خيراً فعلوا، لانه كان بأشد الحاجة للجلوس والراحة والنوم ايضا.. نعم كان بحاجة شديدة للنوم.. فهو منذ ليلتين لم ينم. عندما جلس، ظل واحد منهم واقفاً الى جانبه كالرمح.. اما الآخران فتقدما من الصائغ ودفعاه برفق الى طاولة المشغولات وهما يتحدثان معه حديثاً لم يستوعب منه حرفاً.. لانه كان شديد النعاس والتعب.. ولان النظافة التي يحس بها منذ الصباح لم يتعود عليها بعد. كانت تزعجه وكذلك الثياب تشد على جسده، وبخاصة صدره حيث النياشين تجثم بثقلها، وعلى رقبته حيث ربطة العنق تشد عليه وتكاد ان تخنقه.. رفع نظره الى الاثنين اللذين كانا يتحدثان الى الصائغ، كان احدهما يقول، أو هكذا سمع: اسمع يا سيد.. علاوة على اني اعمل صائغاً، فأنا خبير في هذا المجال ايضا.. وكما ترى، واشار الى الجنرال، جئت مع سيادته من اجل ان اختار لزوجه افضل ما لديك من المصوغات الذهبية المطعمة بالاحجار الكريمة.. كانت عينا الصائغ، هكذا رأى، تبرقان في محجريهما وهو يفرك يديه فوق الطاولة التي يقف وراءها ويقول: نعم.. واضح.. اؤمر.. ماذا تريد بالضبط.. اقصد.. استغرب ما سمعه وهو يتساءل، ايمكن ان يكون متزوجاً؟ متى تزوج؟ فهو لا يذكر بأنه تزوج.. صحيح هو اراد ان يتزوج ذات يوم، الا ان واحدة من النسوة لم ترض به زوجاً.. ابتسم وهو يغالب نعاسه وقال، لابد انهم يتحدثون عن غيره، عن شخص غير موجود هنا.. ولكنه سمع مرة اخرى كلاماً غريباً. سمع الرجلين يقولان للصائغ، انها تنتظرنا في السيارة.. نعم.. زوجة سيادته.. غريب! اي سيارة يقصدان.. صحيح انهم جاؤوا بالسيارة، ولكنها تركتهم في مدخل الزقاق ومضت.. ثم لم يكن معهم امرأة ما.. عن اي امرأة يتحدثان؟ كان احدهما، ذاك الذي قال عن نفسه خبيراً، يقول للصائغ، ارنا افضل المشغولات لديك.. لنر ماذا سنختار.. راح الصائغ، هكذا رأى، رغم ان عينيه كانتا تتغلقان، فهو لم يعد يستطيع ان يبقيهما اكثر من هذا مفتوحتين، الا انه رأى الصائغ بصورة مغبشة، كيف اخرج مشغولاته الذهبية المطعمة بالاحجار الكريمة، ويضعها فوق الطاولة وهو يقول: انها افضل مشغولات السوق.. راح من ادعى بأنه خبير ينظر اليها، ويهز رأسه مبدياً اعجابه بها، ما لبث ان سمعه يقول للصائغ: اهذا كل ما لديك من النماذج؟ عندما توقف الاخير عن تقديم المزيد من مشغولاته. اجابه الصائغ: نعم.. وفي الغد. ان اردتم.. ستأتيني بضاعة جديدة لا تقل جمالاً عن هذه.. علق الخبير.. هكذا سمع: لا بأس ثم اشار بيده الى الذي كان واقفاً كالرمح وهو يبتسم للجنرال، ان يتقدم وهو يقول: ارفع هذه القطعة.. ثم بحث بأنظاره عن اخرى واشار، وهذه.. اما انت، واشار الى الذي كان واقفاً بقربه: خذ هذه.. وهذه.. لا.. لا.. دعك من هذه.. اعتقد بأن هذه افضل.. فانا اعرف ذوق «المدام». ورمى سيادته بنظرة باسمة وهو يقول: انا اسف ياسيادة الجنرال.. ذوقها من ذوقك. اراد الجنرال ان يسأل، ماذا يقصد؟ الا انه فضل السكوت، وعدم التعليق، لانهم هكذا قالوا له: وقالوا له ايضا: دعنا نتصرف.. دعنا نعيد لك مجدك الذي هو مجدنا.. فابتسم له.. هكذا ظن، لانه لم يعرف ان كان قط استطاع الابتسام ام لا من شدة نعاسه؟ تابع: وارفع هذه.. خمس قطع.. ثم رفع وجهه الى صاحب المحل وقال له: ان كان لديك رأي آخر بالذي اخترناه فقله.. فأنت ايضا خبير.. ابتسم الصائغ وقال: الحقيقة انك اخترت افضل النماذج واجملها، واضاف: واغلاها ايضا.. ضحكوا وقالوا: اسمع يا سيد.. لايهمك ثمنها او غلاؤها.. وقطعوا حديثهم. تابع الخبير فقط: اسمع يا سيدي.. لم تستطع السيارة الدخول الى هنا.ان سوقكم اشبه بزجاجة، فلا يمكن ان تدخل اليها سيارة.. لا ادري لماذا اخترتم انتم الصاغة هذا السوق لعرض بضائعكم.. وضحكوا.. ابتسم الصائغ وقال: معك حق.. تابع الخبير: سيبقى سيادة الجنرال جالسا لديك ريثما نذهب بحملنا.. وضحك الخبير.. نذهب الى «المدام» التي تنتظرنا في السيارة في اول الشارع.. لنر ماذا ستختار مما اخترناه.. قد تختارها جميعاً.. وضحك وهو يلتفت الى الجنرال ويقول: وهنا سيكون المبلغ كبيراً يا سيدي.. ماذا؟ انهم يتحدثون اليه.. اراد ان يقول لهم: عمّ تتكلمون؟ الا انه كان شديد النعاس.. ثم انهم قالوا له لا تتكلم فقط اصمت.. دعنا نعمل نحن.. لنعيد لك مجدك.. نعم هكذا قالوا له، لذا راح يستمع اليهم من جديد، نعم قد تختارها جميعاً.. فأنا اعرف ذوق «المدام». لابأس. هز الصائغ رأسه وعاد وكرر: لابأس.. وهو ينظر الى سيادة الجنرال الجالس على الكرسي الجلدي العريض.. لماذا ينظرون اليه؟ ثم هاهم يخرجون.. لماذا يخرجون؟ اراد ان يقوم ويقول لهم: الى أين؟ لماذا تتركوني وحدي.. ولكنه لم يفعل. كان شديد النعاس، رأى الصائغ يذهب وراءهم ثم يقف بباب المحل.. واحدهم يقول، مجرد دقائق ونعود.. ريثما تختار «المدام» ما تريد وما تراه مناسباً. عاد الصائغ يكرر: لا بأس.. لا بأس.. وعاد. هكذا رآه.. كأنه يذهب، أو يعود.. لم يعد يميز امامه، لم يعد ير الصائغ بوضوح، او يميز اتجاهه الذي يقصده، ان كان يذهب الى خارج المحل ام يعود الى الوراء، ليقف وراء طاولة المشغولات.. كان ناعساً.. شديد النعاس.. لا بل يكاد النعاس يقتله.. نعم.. لقد فرح لذهابهم.. لانه سيستطيع ان يسرق بضعة دقائق من النوم.. لن يحاسبه الصائغ بسبب نومه.. لاشك انه سيدعه ينام.. اتاه صوت غناء بعيد.. ارهف سمعه.. نعم.. انه غناء يعلو.. في جو السوق.. لا.. ليس هذا وحسب.. انما راح صوت الغناء يتسلل الى داخل المحل.. كأن الصائغ يغني، أو يصفر بلحن. كانت الشمس قد انصفت النهار.. والناس يمرون بازدحام.. لقد انفصلوا من حوله.. لابد انهم تركوه ينام قليلاً.. حاول ان يلتفت فيما حوله وهو يتساءل، لماذا أتو به الى هنا؟ الا انه لم يستطع ان يحرك رأسه. كان النعاس يشده ببطء.. ولكن بإصرار الى عالمه.. كان يريد ان يسأل الصائغ.. هل عادوا؟ ولكنه لم يسأل.. لأنه رأى قلقاً على وجهه.. كما أنه رآه يخرج من وراء طاولة المشغولات ويتجه الى الباب.. يميل بنصف جذعه الأعلى الى الخارج، ينظر باتجاه اصحابه الذين تركوه هنا.. اراد ان يسأل مرة أخرى، لماذ تركوه هنا، بين ايدي رجل غريب لا يعرفه؟ ولكنه لم يفعل.. قال، لقد تأخروا على ما يبدو.. ربما لن يأتوا اراد ان يقول هذا للصائغ.. الا انه فضل ان يغفو قليلاً.. ان ينام. قاص وروائي سوري من جيل السبعينيات تمتاز كتاباته بالواقعية والمحلية الراصدة لأحوال مجتمعه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى