مي عاشور - تَبَخُر الصيف

انبعث هواء بارد من مكان ما، فاخترق دائرة الحرارة الصيفية الخانقة، ثم تبعته رياح رقيقة متتالية. بدأ الصيف في الانسحاب تدريجيًا، وانشرحت الصدور.

باب موصد ونافذة مغلقة… ظلت روحي بهذا الشكل لأيام وشهور، معتمة، قاتمة، تفتقد الهواء، أبحث عن منفذ لأخرج منه ولا أجد. حتى ظننت أنني سأظل حبيسة هناك إلى الأبد. لكن تمضي الأيام، وأسمع صوتًا يتخلل أوراق الشجرة المظللة قبالة نافذة مكتبي، تتوالى قطرات مطر خريفية لطيفة في ملامسة الزجاج، حركة غير معتادة، ثمة شيء يحدث في الخارج، شيء يعود إلى الحياة مرة أخرى، يستيقظ بعد سبات طال أو خمول صيفي. هناك تغير في الطقس، وآخر بداخلي. أدركت أن الخريف قد حل، ورأيت الصيف يتبخر رويدًا رويدًا. مددت يدي وفتحت النافذة، جعلت الهواء الطبيعي ينساب عبرها، أصلًا كان ينساب عبر فتحاتها الضيقة الصغيرة. أخيرًا يستقبل مكتبي نسمات عليلة تداعب ستائره؛ الورق يتطاير لأعلى في حركات دائرية، وصفحات الكتب تُقلب بسرعة، وكأن هناك يدًا لا أراها تتصفحها. فوضى في المكتب، تتناثر الأشياء هنا وهناك - لا أبالي - أدعها تتراقص فرحًا مستقبلة فصلًا طالما انتظرته.

لسنوات عجزت عن تفسير هذه الحالة التي تلازمني طوال أشهر الصيف، ذلك الاختناق، والسأم والرتابة، شيء يشبه اكتئاب الصيف؛ تصير حركتي ثقيلة، وتتسارع دقات قلبي، لا أدري إذا كان ذلك بفعل الحرارة، أم بسبب الهموم التي لا أعرف مبررًا لها. يبدو لي أنه مع حرارة الصيف تأتي غيمة ثقيلة تظلل فوق رأسي، لا تحمل مطرًا، ولا تحجب الشمس؛ كل ما تفعله أنها تعكس ظلًا معتمًا ينفذ إلى صدري، فأشعر به وكأنه ينغلق، حتى أصير غير قادرة على فعل أي شيء، وتبدأ الألوان التي أراها أمامي في البهتان ببطء، حتى تخلو من أي حيوية.

أنفضل فصولًا على أخرى، نترك فيها العنان لأرواحنا تسبح في هذا الكون بحرية وانسجام وطلاقة، فنشعر وكأن شيئًا جديدًا يولد بداخلنا، كنبتة خضراء صغيرة ندية وناعمة، ويكون الفصل المفضل لقلوبنا، هو الطاقة التي تضمن لها البقاء لأطول وقت ممكن، دون أن تُنتَزع، أو تذبل، أو تموت، يَبث فيها الازدهار والتفتح والحياة بسلام.

أحاول الركض من منتصف الظهيرة للوصول إلى الغسق، آملة أن أجد قدرًا من الهواء اللطيف، يرطب كل شيء جاف من حولي. أشعر بقدر من الراحة والسكينة بحلول الليل، لكن النهار هو الغالب في الصيف دائمًا؛ عند بزوغ النهار يتوقف الهواء فجأة، كأنه صُدم بجبل شاهق منعه من المرور.

تتماهى الأفكار وتتداخل كأنها دخان متصاعد من بخور وضع في معبد. برأسي فكرة، لكنها سرعان ما تتلاشى عندما أحاول لمسها، لا أقوى على التفكير بشكل سلس وطبيعي، لا شيء أقوى من حبات العرق المتفصدة على جبهتي، ورائحة الرطوبة الممزوجة بحرارة حارقة.

يطول بنا الحال، فيخيل لنا أنه صار أبديًا، نتواءم معه على مضض، نغرق في تفاصيله التي نمقتها، ويمحى من ذاكرتنا أمل أن لكل شيء نهاية. ها قد بدا لي الصيف أبديًا، وكأن باقي الفصول ارتحلت عن العام، وبقي الصيف وحده هو المسيطر على أيام السنة.

انتظرت مُضي الصيف بفارغ الصبر، تطلعت إلى تبدل الطقس منذ وقت بعيد، واشتقت إلى تناثر أريج خريفي في الهواء، ليطرد ذلك الجمود الكامن داخلي؛ تمامًا كما تنفض حبات الرمال التي طالما حوطت زهرة، وتراكمت حولها، ثم طوقتها وكبلت فرعها الرقيق، فشلّت حركة بتلاتها وأوراقها. تزايد سمك الرمال المتراكمة حول الزهرة في لمح البصر، وارتفعت حتى حجبت الهواء عنها؛ فبقيت الزهرة حبيسة بداخلها، محاصرة بأشعة الشمس، لا تختنق ولا تتنفس. لكنها رغم كل ذلك، لم تفقد الأمل في مجيء رياح لتنجدها، ولتعصف بحبيبات الرمال، فتنثرها بعيدًا وتحررها من القيود، لتصير كروح متصاعدة إلى السماء، تحررت من جسد يحتضر.

تَبَخّر الصيف، وتلاشت آثاره، وراقت الأجواء من ضغط الحرارة والرطوبة والضجر، وبات هناك مذاق مغاير لليوم، وهواء ظريف، هواء يجعلنا قادرين على الحركة والابتسام، فنشعر بأن أجسادنا خفيفة، تستطيع مجاراته بسهولة، أشبه بورقة كان يتشبث بها شخص، ثم جرفتها النسمات، فحلقت عاليًا في الأفق.

مي عاشور

*

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى