أمي وهي تتابع المسلسلات المدبلجة أيا كان جنسها وجنسيتها، تنظر إلي بابتسامة بريئة وتخبرني أن الممثلين يشبهوننا، إنهم منا، يتحدثون بلغتنا، ويستعملون مفرداتنا نفسها. وحين أخبرها أن هؤلاء لا علاقة لنا بهم، تنظر إلي شزرا، وتؤكد لي أنهم مسلمون مثلنا بدليل توظيفهم كلمات من الحقل الديني: استمع لهم، ألا ترى أنهم ينطقون بالسلام، ويستشهدون بآيات من القرآن الكريم؟ لا أجد لدي القدرة على إقناعها، هي التي اقتنعت مسبقا بأنهم أبناء جلدتنا.
أمي امرأة لم ترتد المدرسة ولا الكتاب، طيبة القلب بريئة كالأطفال، لم تغادر المنزل إلا مرات معدودات، الآن، بلغت من العمر الثمانين، احدودب ظهرها قليلا، لكنها مازالت تحتفظ ببعض قوتها تمكنها من تهييئ طعامها بنفسها، والاعتناء بدارها كما كانت تفعل منذ أزمان، وكأنها تترقب عودة أبي في أية لحظة. فلم تقتنع بموته إطلاقا. ترى ذلك غيبة تعقبها عودة أكيدة.
تحب أن تعتني بمظهرها، وتكون في أبهى زينتها حين تتابع المسلسلات ذات الشخصيات الذكورية الوسيمة. بها تستعيد ذكريات جميلة قضتها صحبة أبي، إذ كان يهديها وردا كل مرة غاب عنها لعمل. ويصطحبها إلى المقهى البعيد عن أعين المدينة حيث يقضيان أوقاتا ممتعة من البوح اللذيذ. تلك أيام سعيدة مازالت تترقب عودتها بعودته.
كانت تقرب الكرس من الجهاز، وترفع الصوت، وتدني أذنيها منه والعينين، ورغم تحذيراتي لها من مضار مثل هذا السلوك، فلم تقلع عنه، إذ تحب أن تسمع وترى عن قرب، ولا يشبع نهمها الابتعاد. ثم إن ذلك يملأ حياتها وجوانحها ومشاعرها بعد أن ترك أبي فراغا في حايتها لا يمكن ملؤه.
وحين تشاهد مطرا يهطل، ينتابها شك ما، فتتسلل إلى الصالون، تفتح بحذر النافذة وتطل، ولما لا تجد غيثا، تعود خائبة، وتقول لي: لم لا يسقط المطر عندنا رغم أنه يتساقط هنا؟ أؤكد لها أن ذلك المطر قد سقط في زمن آخر، ومكان آخر، وأنه مطر تم تصويره في بلاتوهات، وأنه ليس حقيقيا. ثم أعود إلى نفسي نادما على ما قلته لها. ,اسعى إلى إرضائها بأنه سيسقط هنا كما هناك بعد فترة، إذ أني أدرك متأخرا أن ما أقوله لها لن تستوعبه، وأنني أحملها ما لا طاقة لها به، فكيف يمكنها أن تستوعب ما يتجاوزها، هي التي، بالكاد، تعرف كيف تشغل التفاز، وكثيرا ما تضيع القنوات، وتنادي علي لكي أعيدها أو أعيد ترتيبها حتى تتمكن من متابعة مسلسلاتها المفضلة.
حين تخرج صحبة أبي، تظل خلفه، محافظة على المسافة التي تفصلها عنه نفسها، من دون أن تزيد فيها أو تنقص، لاعتقادها بقناعة أبي، أن خلف كل رجل عظيم امرأة، هي تعرف جيدا أن أبي ليس رجلا عظيما بالمفهوم المتداول، ولكنه عظيم بالنسبة لها. فهو لم يمسس شعرة من رأسها، ولم يهنها كما يفعل الكثير من الرجال. صحيح انه لم ينادها باسمها طوال عشرتهما التي دامت نصف قرن، لكنه ناداها به يوم كان على فراش الموت، وكم أسعدها ذلك، فقد وجدت في لفظ حروف اسمها رنة بل نغمة لا تضاهيها أية نغمة، كانت عذبة كماء زلال، أطفأ لهيب رغبتها في سماع صوته يتلون بحروف اسمها، ويروي حقلها المتعطش لصبيب الصوت يغرد بالمطر يتراقص على أديمها.
لقد طفرت من عينيها دموع الفرح والحزن معا، تضافرا بحيث لم تعد قادرة على التفريق بين الإحساسين المتناقضين.
قدمت مرة باكرا من عملي، فوجدت أمي وقد تحلق حولها أبنائي، تتابع شريطا وضعه ابني البكر، ظنا منه أنه سيسعد جدته، وإذ رأست زوجها يتكلم، ارتعبت، وصرخت، ألم يمت؟ هل سخر منا؟ ولأنها كانت قد تخففت من لباسها الثقيل قليلا، فقد عدت إلى غرفتها مولولة: يا لفضيحتي! لقد رآني عارية، أين سأخفي وجهي منه؟!
أمي امرأة لم ترتد المدرسة ولا الكتاب، طيبة القلب بريئة كالأطفال، لم تغادر المنزل إلا مرات معدودات، الآن، بلغت من العمر الثمانين، احدودب ظهرها قليلا، لكنها مازالت تحتفظ ببعض قوتها تمكنها من تهييئ طعامها بنفسها، والاعتناء بدارها كما كانت تفعل منذ أزمان، وكأنها تترقب عودة أبي في أية لحظة. فلم تقتنع بموته إطلاقا. ترى ذلك غيبة تعقبها عودة أكيدة.
تحب أن تعتني بمظهرها، وتكون في أبهى زينتها حين تتابع المسلسلات ذات الشخصيات الذكورية الوسيمة. بها تستعيد ذكريات جميلة قضتها صحبة أبي، إذ كان يهديها وردا كل مرة غاب عنها لعمل. ويصطحبها إلى المقهى البعيد عن أعين المدينة حيث يقضيان أوقاتا ممتعة من البوح اللذيذ. تلك أيام سعيدة مازالت تترقب عودتها بعودته.
كانت تقرب الكرس من الجهاز، وترفع الصوت، وتدني أذنيها منه والعينين، ورغم تحذيراتي لها من مضار مثل هذا السلوك، فلم تقلع عنه، إذ تحب أن تسمع وترى عن قرب، ولا يشبع نهمها الابتعاد. ثم إن ذلك يملأ حياتها وجوانحها ومشاعرها بعد أن ترك أبي فراغا في حايتها لا يمكن ملؤه.
وحين تشاهد مطرا يهطل، ينتابها شك ما، فتتسلل إلى الصالون، تفتح بحذر النافذة وتطل، ولما لا تجد غيثا، تعود خائبة، وتقول لي: لم لا يسقط المطر عندنا رغم أنه يتساقط هنا؟ أؤكد لها أن ذلك المطر قد سقط في زمن آخر، ومكان آخر، وأنه مطر تم تصويره في بلاتوهات، وأنه ليس حقيقيا. ثم أعود إلى نفسي نادما على ما قلته لها. ,اسعى إلى إرضائها بأنه سيسقط هنا كما هناك بعد فترة، إذ أني أدرك متأخرا أن ما أقوله لها لن تستوعبه، وأنني أحملها ما لا طاقة لها به، فكيف يمكنها أن تستوعب ما يتجاوزها، هي التي، بالكاد، تعرف كيف تشغل التفاز، وكثيرا ما تضيع القنوات، وتنادي علي لكي أعيدها أو أعيد ترتيبها حتى تتمكن من متابعة مسلسلاتها المفضلة.
حين تخرج صحبة أبي، تظل خلفه، محافظة على المسافة التي تفصلها عنه نفسها، من دون أن تزيد فيها أو تنقص، لاعتقادها بقناعة أبي، أن خلف كل رجل عظيم امرأة، هي تعرف جيدا أن أبي ليس رجلا عظيما بالمفهوم المتداول، ولكنه عظيم بالنسبة لها. فهو لم يمسس شعرة من رأسها، ولم يهنها كما يفعل الكثير من الرجال. صحيح انه لم ينادها باسمها طوال عشرتهما التي دامت نصف قرن، لكنه ناداها به يوم كان على فراش الموت، وكم أسعدها ذلك، فقد وجدت في لفظ حروف اسمها رنة بل نغمة لا تضاهيها أية نغمة، كانت عذبة كماء زلال، أطفأ لهيب رغبتها في سماع صوته يتلون بحروف اسمها، ويروي حقلها المتعطش لصبيب الصوت يغرد بالمطر يتراقص على أديمها.
لقد طفرت من عينيها دموع الفرح والحزن معا، تضافرا بحيث لم تعد قادرة على التفريق بين الإحساسين المتناقضين.
قدمت مرة باكرا من عملي، فوجدت أمي وقد تحلق حولها أبنائي، تتابع شريطا وضعه ابني البكر، ظنا منه أنه سيسعد جدته، وإذ رأست زوجها يتكلم، ارتعبت، وصرخت، ألم يمت؟ هل سخر منا؟ ولأنها كانت قد تخففت من لباسها الثقيل قليلا، فقد عدت إلى غرفتها مولولة: يا لفضيحتي! لقد رآني عارية، أين سأخفي وجهي منه؟!