داود سلمان الشويلي - انتهاء الصلاحية.. قصة قصيرة

خمسة أيام والمطر البارد يهطل على مدينة الناصرية، كأنه يبكي هزيمة فريقها في كرة القدم أمام فريق العاصمة بغداد. مطر خريفي لا شتائي طويل، وقوي لم تعهده المدينة في سنواتها السابقة. كانت تمطر بغزارة شلال "ڰلي علي بيڰ" أحيانًا، وبهدوء صامت أحيانًا أخرى، والسماء تشهر سيوفها الذهبية كخاطرة مرت في البال، وهي متأخرة إلا انها لم تتضح معالمها أبدا.
كانت السماء من شمالها الى جنوبها ترتدي بدلة رمادية، فهي مغطاة بغيوم كثيفة رمادية اللون. وفجأة تباطأ المطر مثل متسكع لا عمل له، ولا شغل يذرع الشوارع دون هدف، ثم جاء قراره النهائي في التحول إلى مطر غزير، وكثيف. وانقطع الطريق السريع بين مدينة الناصرية، ومدينة الشطرة، وحتما سأتأخر على عملي الذي يتعين علي إنجازه في هذا القضاء الذي يبعد مسافة نصف ساعة بسيارة الأجرة.
كانت قيادة سيارة نوع سوبر كراون موديل 1982 في هذا المطر الكئيب صعب جدا لقدم السيارة، فيحتاج التنقل في هذا الطريق الى تماسك في الأعصاب، و"قلب ميت" كقلب شاب متهور، وكنت آمل من هذه الرحلة أن تكون ممتعة، لكنها هذه المرة لم تكن ممتعة لسوء الأحوال الجوية.
وأنا في سيارتي على الطريق عادت السماء مرة أخرى، وأمطرت مطرا غزيرا، واسود الفضاء، كما أن مساحات الزجاج الأمامي للسيارة لم تعمل جيدا بعد أن كانتا تسابقان قطرات المطر، فهي بين الحين، والآخر، تتوقف عن مسح خطوط الماء المطري النازل على الزجاج فتغبش أمامي الرؤية إلا ان ما يصبرني على هذه البلوى هو انني أحب رؤية الماء، وهو ينسكب، أما رؤية المطر، ليس هذا المطر حتما، فشيء يفرح الروح، ويهديء النفس.
***
كنت منهكا عندما وصلت فسارعت الى أقرب مقهى مليء بالناس ليحتموا من المطر فأخذت استكان شاي ساخن، ورحت أشربه بتلذذ، فعادت لجسمي بعض حيويته المفقودة على طول الطريق.
كنت قد ارتديت بنطلون مصنوع من قماش صيفي، وقميص خفيف بنصف كُم، وانتعلت حذاء صيفيا "چركز"، عندها تذكرت الدكتور عبد الجبار عبد الله الذي جاء الى الجامعة وبيده مضلة المطر، والفصل صيفا يلتهب حرارة.
***
انتهى العمل الذي أتيت بشأنه، والسماء ما زالت غير أمينة، فهي ترسل مطرها فترة، وتقطعه عن النزول فترة أخرى، ولونها بين الأزرق اللازوردي الصافي، وبين اللون الرمادي الكئيب. والغيوم مرة تتكدس حتى ينقلب لونها الى الأسود النيلي، ومرة تصبح بلون رمادي فاتح كخمار أمي الذي تضعه على شعر رأسها لو زارنا غريب.
أوقفت سيارتي قرب المقهى مرة ثانية، وكان خاليا سوى أثنين من الرجال، وهم يلعبون لعبة الدومينو. شربت استكان شاي دافيء كالمرة السابقة، ثم تركتها بعد أن نقدت صاحبها الذي يجلس بالقرب من باب الدخول بثمن استكان الشاي الساخن.
صحيح ان سيارتي ذات موديل قديم إلا انها قد أوصلتني الى قضاء الشطرة رغم تأخرها إلا ان السبب ليس سببها بل هو سبب الجو الماطر، وها أنا أخرج من الشارع الرئيسي للشطرة الرابط بين الجسر، والطريق العام، ومن ثم أصعد على الطريق العام الرابط بين الناصرية وبغداد عندها بدأ المطر ينزل بهدوء على شكل رذاذ خفيف ما برح أن اشتد في النزول، وسيارتي لم تقطع سوى أمتار من الطريق العام، ثم أصبح على شكل حالوب صغير، ما برح ان انقلب الى حالوب كبير، وسريع النزول فيخلف أصواتا على "قمارة" السيارة كرمي اطلاقات نارية من بندقية وضع زنادها على الرمي المستمر.
كنت قد أغلقت النوافذ الزجاجية للسيارة، وصوت رمي الاطلاقات النارية للمطر على "قمارة" سيارتي موديل 1982 يأتي عاليا، ومدويا، وكأنني في ميدان حرب.
كان الطريق خاليا من السيارات، وهو خال من الماشين كعادته دوما، ربما امتنع سائقوا السيارات عن الخروج بهذا الجو الماطر. أو ان "الڰراج" خلى من ركابه. فيما الحالوب ما زال يعزف على "القمارة" المعدنية للسيارة معزوفة الحرب حتى ظننت انها ستتطعج في أماكن عديدة لا تأتي بثمن جيد لو بعتها.
***
مللت من هذا المطر، ووصل الازعاج النفسي الى منتهاه، والسماء ما زالت كدرة غير منفتحة الأسارير، وقد غطى اللون الأسود لازورديتها الصافية، وبين الفينة، والأخرى، يشق السيف الذهبي غمده فيقرقع لثوانٍ في الفضاء عاليا بصوت كطبل وحشي في غابة نائية.
كان الوصول الى مدينة الناصرية في هذا الجو يحتاج الى معجزة، وها هي المعجزة تحصل، وقد وصلت سالما سوى ان السيارة سوبر كراون موديل 1982قد انطفأ محركها قبل أن أطفأه أنا قرب باب داري.
***
قالت زوجتي وقد امتلأت خوفا:
- كيف تستقلها في مثل هذا الجو الممطر، وتذهب بها الى الشطرة؟
قلت لها ضاحكا:
- انتهت صلاحيتها الآن.
قالت بعد أن غطت شعر رأسها الأبيض الذي غزاه الشيب بفوطتها الرمادية:
- نعم انتهت صلاحيتها مثلك.
وضحكت بفم خال من الأسنان.
***
٢٠٢٤/٠١/٠٨

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى