الثكنات الهندسية الشكل تبدو رائعة والسيارة تسبح في بحر الشارع تطوى الحقول الخضراء على جانبيها , والبحر أمامها يقترب , والشمس عذراء تتستر خلف الغٌلل البيضاء وتطل من بين الأغصان , وكان الهواء النقي يضرب وجهي بعنف , ويعبث بمعطفي الرمادي , ويخبط شعري , والشوارع المتسعة هادئة جداً تلهو فيها الشمس الباردة , والفساتين الملونة ترقص علي مناشير الغسيل , وستائر الشرفات تعلو وتهبط فتصفق في الهواء الطلق وأغصان الأشجار الوارفة الظلال يوشوش بعضها لبعض, و.... صبية صغار يلعبون بالكرة , وآخرون يتحاورون بالدراجات.....
وكنت أتخيلها وهي تجلس بجواري تشاركني المقعد الوثير, والطريق الطويل فجاء صوتها يتهادى ينبعث من أعماق الذات , ليكسر صلف الصمت القاتل .. ورنين ضحكتها الحلوة , يدغدغ مشاعري المرهفة , وتعليقاتها الساخرة من كل شيء, حتى من نفسها , حين كانت تريح يدها البيضاء في يدي, وهي تشبك الأصابع المرتجفة في أصابعي , وتضغط , فيقشعر جسدي وانتشي , ويهرب الدم من عروقي....
" كانت زهرة برية جميلة , وكان في عينيها العسليتين رعد ٌ, وبرقٌ وصواعق تدمر كل قلاعي, وحصوني المنيعة, وتحطم جدران الذاكرة وتذيب كل الفواصل بيننا والحدود , فأصيرُ طفلاً بين يديها لا يعجبها تصرفاته الصبيانية.. آآهِ ... لكم أنا مشتاق إليك يا " حنان " وأكثر مما مضى أحتاجك .. تلفيني بين ذراعيك , وتمسحي بيدك النحيلة رأسي , لتنفضين من فوقها سنيّ الاغتراب .. محتاج إلى دفء صوتك لكي يغسلني حتى النخاع .. محتاج لضحكتك الحلوة تزلزلني .. وشعرك الغجري المتمرد ينام فوق طرقات وجهي الشاحب ... هذه يدي خاوية فمدي يدك .. شبكي الأصابع المرتجفة .. واضغطي فأنا الآن مشُتاق وبي لوعة البائس , التعيس .. فبرغم الجو الماطر , الساحر, إلا إني أفتقدك , وأحن إليك بطول المسافات التي تفصل بيننا ... أناديك ... أشتهيك.."...
تنحنحت التي بجواري .. نظرت إليها فابتسمت .. وكأنها تريد أن تأخذني منك تسألني عن الزمن المتوقف في يدي, فمنذُ فارقتك كل شيء قد توقف عندي .!!
( لا تخافي , صغيرتي , واهدئي .. فالنهد المترجرج , الصابئ , المتمرد .. والفتنة النائمة في عينيها السوداويين, والجسد الأبيض اللدّن الطري, وعطرها الأنثوي الفواح .. وبسمتها الخبيثة .. كل ذلك مجرد تأثير وقتي .. وعابر ـــ سرعان ما يتبخر ـــ عندما نفترق .. وأمور عفوية .. عارضة.. فلتهدأ روحك الثائرة بداخلي ..)...
تحسست حقيبتي حتى أتأكد أنى لم أنس شيئا .. ارتخيت على المقعد .. أتابع صوت المغنى المنبعث من المذياع .. الشاكي لكل الناس أوجاعه.. وعيناي كانت تلتهم اللافتات العريضة التي سمرت على جانب الطريق, وبعض المباني المتناثرة هنا وهناك في عشوائية رائعة .. وسطر الأشجار الذي لا ينتهي .. ورائحة البحر التي لا تقاوم .. كل ذلك ذكرني .. بتلك الليلة , البعيدة , الكئيبة .. المحفورة في الذاكرة .. حين اقترضت عشرين جنيهاً.. من جارتي العجوز .. وتركت لها البلد وهربت ... نعم هربت ... رميت نفسي في آخر قطار ... متجه إلى القاهرة ... وكان الرحيل , والاغتراب .. حين رفضت أن أكون فارس أحلامها المنتظر .... لن أنساها أبداً تلك الليلة الحزينة من ليالي الشتاء القارص .. كم جاهدت معها , وحاولت كثيراً أن أكسر صخرة عنادها , أن أثنيها عن قرارها , أحميها من نفسها .. وبرغم أني أثبت لها .. أن فلسفتها للحياة خاطئة , وخبرتها ما زالت قاصرة .. إلا أنها فضلت الانتحار .. في أحضان غريبة .. كلها حفنة أيام .. وستصبح مدام فلان ... " هه .. هه " طظ " ......
( صوتها في تلك الليلة .. كانت كرابيج من نار .. ما انفكت تنهش لحمي .. وتطاردني في كل مكان .. تصفع مشاعري المرهفة , بلا رحمة .. حتى ضحكتها صارت ككلاب تنهش عقلي .. وكلاليب تمزق قلبي .. أشلاء من بين ضلوعي .. أنهرت ساعتها , وكدت أسقط أمامها .. لولا أني تماسكت .. ووددت أن ابصق عليها .. أن أصفعها بكل قوة .. أدهسها تحت حذائي الرخيص .. حتى أُسويها بالأرض .. ولكني تحاملت , وتحملت للنهاية .. ولعنت ضعفي وذلي أمامها .. وفضلت الهروب منها .. ومن الشوارع التي كانت تضمنا عند المساء ... ورحلت بعيداً عنها .. بعدما حرقت كل رسائلها , والصور .. وارتميت في أخر عربة بالقطار .. تكورت فوق حقيبتي .. أتلمس ضوء المصابيح الخافتة , المصطفة , وهي تحارب أشباح الليل وتهتك أجساد المدن الناعسة, تحت عباءة الليل البهيم .. وظل القطار يخبط , ويخبط, يوقظ صوته الليل , والمدى البعيد , يعلن عن نفسه يناوش القرى , وينادي المدائن البعيدة , والباعة الجائلين يلجون من بين الكتل البشرية المصفوفة في ردهة القطار, بأصوات مرتفعة , كل منهم ينادي سلعته بطريقته الخاصة .. ثم يسب ويلعن الدنيا , والعيشة , والحياة المرة .. والناس ينظرون إليهم ولا يتكلمون ولا يشترون , وأصوات الركاب تداخلت كدوى النحل وكنت وحيداً , شريداً, محطماً , مهزوماً , مهتماً بما للغد الأتي ..لا أعبأ بالعيون التي كانت تناوشني, وتتحسسني من حين لآخر خلسة .. حتى هدأ الليل , ونامت العيون , وملأت الجفون عن شواردها, وذهبت النجوم , وسكن الليل , وانقطع بكاء الطفل الذي كان يلقم صدر أمه )......
تنبهت لصوت التي بجواري .. وهي تطلب من سائق التاكسي تهدئة السرعة .. في تلك اللحظة تفرستها جيداً .. تحققت من ملامحها كاملة .. كانت تشبهك يا " حنان " إلى حد كبير .. نفس النظرة , نفس الابتسامة الساحرة ,التسريحة .. الفستان .. الشفاه المستديرة المحددة , المقدد , حتى العطر الذي تفضلينه يفوح من الجسد الأبيض .. مصادفة عجيبة أدهشتني .. وأعجبت لها كثيراً .. أدارت وجهها صوب البحر.. ووضعت ساقا علي ساق .. فضاق علي المقعد , قاومت , ارتبكت .. خفت , فتركت لها المقعد , وقمت من جنبها .. فاستدارت نحوي .. ترنو إليّ وهي تخرج من عينيها .. جيوشاً من علامات التعجب .. والاستفسار .. ثم وضعت يدها علي فمها في دهشةٍ .. وأخذت نفساً عميقاً .. وفضلت الصمت .. والنظر إلي موج البحر الهادر .. والحقول الخضراء الجميلة .. والشمس وهي تبتسم في كبد السماء ...........
( في أول مرة هبطت قدمي سلم القطار .. لأجد نفسي في بلد غريبة , بعيدة .. خفت .. وحدثتني نفسي بالرجوع إليك يا " حنان ".. لكن أمواج البشر المتلاطم ألقي بي في قلب المدينة الخرسانية .. لأجد نفسي أسير تحت الشمس المحرقة , وبين العربات الفارهة .. أقفز, وأجري , كي أتفاداها , كالبهلوان .. ورصيف يسلمني لرصيف حتى ناوشني التعب, فارتميت فوق قطعة خضراء, في الأرض اليابسة .. توسدت حقيبتي .. أغمضت عيناً واحدة .. والأخر أبقيتها مفتوحة للصوص المدينة , حتى لا تقلبني أيديهم , التي لا ترحم غرفتي , أتحسس جيبي لأتأكد من هويتي , وأوراقي المهمة , التي تثبت أني غريب عن هذه المدينة .. ورحت أقلب في " المتواليات " أقرأها .." أتعلم كيف يصاغ الحرف .. ليغير وجه المدن البعيدة ليعطينا " وجهاً نألفه .. ويغير فينا وجه الرحلة .. لون الأيام .. يعطينا لوناً آخر للأحلام " .. ويجئ المساء غريباً .. يشبه وجه المدينة فطوبي للغرباء أمثالي, طوبي للحزانى , والبؤساء لأن الجوع ينهش أحشاءهم .. طوبي للذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.. وتصرخ الكلمات بداخلي .. ( للثعالب أوجرة , وللطيور أوكار ) حتى كلاب الأرض الضالة لها زوايا من الأرض تعرفها جيداً , وتأوي إليها حين تشتهي الموت , أما أنا فليس لي هاهنا مكانا آوي إليه .. لأضع رأسي المتخمة بالجراح .. وآلاف الكتب الصفراء .. والأسماء , والعناوين , وأحلامي الكبيرة الملقاة في الشارع ,عارية في الطل .. غير مأسوف عليها .. يدهسها أزيز المحركات .. وهي تنهب الطريق .. وتلعقها عيون المارة .. وتلوكها الأفواه الفاغرة........
وكنت أشعر أن كل ما برأسي باطل .. وقبض الريح .. ومزيف , كوجوه نساء المدينة .. فجأة اقتربت مني سيارة شرطة حينها أسلمت قدماي للريح .. حتى لا توضع يداي في أساور من حديد .. حدث ذلك معي ـ في يوم ما ..
{{ حين كنت عائداً من محاضراتي .. وبينما كنت الهث خلف القطار .. أوقفتني سيارة زرقاء كهذه .. ابتلعتني من قبل أن أنطق ببنت شفة , كلمة واحدة لم اقلها ورضيت الاستكانة .. استسلمت .. وجبنت فيّ الكلمات .. ورضخت للأمر الواقع, شهراً كاملا .. ثلاثون ليلة متواصلة .. يفترسني الجوع وبرد الشتاء.. وثلاثون أًخر ــ كل صباح ــ تشدني خيوط الشمس .. فوق نافذة صغيرة , حتى أصبحت كعنكبوت يجري فوق الحائط ,أرمي عيناي في كل اتجاه, أنتظر قطارات الجنوب وهي عائدة .. وأنا يعاودني حنين الخيل للصهيل .... والطير للرحيل , والسفر .. ويرحل فيّ الحنين .. مهزوماً .. مكسور الوجدان .. يجفف دموع انكساراتي .}}
فررت منهم لما خفتهم .. لأني لست مثلهم .. هم معهم إقامة .. وأنا بلا إقامة .. هم يملكون بيوتاً خرسانية في المدينة.. وأنا بلا بيت , أو وطن , أو عنوان .. هم يتربصون بي , وأنا لا املك من أمري شيء .. فاخترت الفرار .. وفررت .. كحمار وحشي , ارتديت المنعطفات , والأزقة , والحواري الضيقة حتى اختفيت ــ كفص الملح ــ في الظلام .. ومشيت مهرولاً .. اقتربت من مشارف المدينة .. التي فتحت لي جناحيها عند الدخول .. واستقبلتني كمخلص .. هكذا سولت لي نفسي .. وتهيأت .. ولما احتواني ظلام المكان , ذهب الخوف , وتوقفت , عن السير , كي ألقف أنفاسي المتقطعة .. وأجفف نزيف العرق .. ويهدأ القلب المرتجف , الذي كاد يتوقف من الفزع .. هدأت .. استرحت .. لترجع إليّ نفسي .. برهة قصيرة .. غفوت فيها أحلم بامرأة بيضاء .. فارعة القوام .. بارعة الجمال , وساقطة .. في الثلاثين من عمرها تدنو مني , وهي تتكسر في مشيتها بخطوات كلها دلع , ودلال .. وبحركة لولبية .. ترمي بنفسها عليّ .. تمسح علي رأسي .. وهي تهمس في أذني .. تساومني بصوت كله نعومة , ورقة , وغنج , وعطرها الأنثوي .. يطغي علي المكان .. وأنا لا أستطيع المقاومة...............
ــ بكم تبيع هذا الجسد , المتعب اللزج المليء بالأتربة ..؟
ــ بالطعام والمبيت علي سرير وثير وحفنة نقود
ـــ هه .. هه .. هذا كثير جدا ... !
ــ إذاً فليكن بالمبيت والطعام ... !!!!
ـــ وهذا أيضاً صعب .
ـــ إذاً فاختاري أيهما شئتٍ يا سيدتي ....؟!!
ـــ وهذا أصعب
تنهض مسرعة .. وهي توسد الخد قبلة ساخنة .. وتنصرف .. تركب عربتها الشبح .. وتنطلق بسرعة البرق .. أجري خلفها .. فتختفي فجأة ...
أستيقظ فجأة من نومي .. لأجد نفسي ما زالت .. في الظلامٍ الدامس ..
علي مشارف المدينة الخرسانية , البعيدة , الغريبة .. تسكعت , تصعلكت , ضحكت من نفسي .. وضربت كفا بكف .. ثم رفعت رأسي إلي السماء .. وبكيت ومشيت بخطي ضعيفة , واهنة .. تحسست جيوبي الخاوية .. إلا من قطعتين من النقود المخرومة أخرجتهما .. ولوحت بهما في الهواء .. بحذر شديد وضعتهما ثانية في جيبي ..عصبت بطني بيدي من شدة الجوع .. وضربت الأرض برجلي , فتطاير حجر صغير من أمامي .. رأيت فتاة جميلة , على الجانب الآخر من الطريق .. تشاركني الليل .. والتسكع .. وربما الاغتراب .. اقتربت منها ............
ــ لو سمحت الساعة كم ...؟
استمرت في سيرها , وكأنها لا تسمعني , لكن شفتاها انفرجت عن ابتسامة تشجعت ثانية .. وواصلت حديثي معها ...
ــ غريب في المدينة .. وطالب منك نزهة ....
وقفت .. غرست عيناها في وجهي .. فشعرت بقلي يرفرف طرباً ... برهة .. استدارت وانصرفت .. دون أن تتكلم .. اعترضت طريقها .. وقفت في وجهها ... تشجعت أكثر .. وأنا ابتسم في وجهها قلت...
ــ كنت عارفا أن قلبك طيب ..... ؟!
قطعت سيرها ... توقفت ثانية ... التفت إلي باستغراب ... حملقت باندهاش ... ابتسمتً ... ثم فاجأتني بصفعة قوية علي وجهي ... وبصقت علي الأرض ... وانصرفت تستأنف سيرها ... بينما أنا كنت واقفاً في ذهولٍ ... ممسكاً موضع الألم .. وأنا أصرخ في ظهرها
ــ " يا مفترية " ...
أتنبه لصوت أجش ... يقطع تداعياتي ... وينتشلني من بئرها العميق ......
ــ نازل فين يا أستاذ ....؟
تنبهت ... التفت إليه .. والشمس كانت باردة .. تجنح للغروب .. والسيارة متجهة صوب البحر .. وما زال صوت المغني .. يشدو عبر المذياع .. بآخر أغنية شدي بها لحبيبته الغائبة....
" ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان ..
وتسال موج البحر وفيروز الشطأن ..
وتغوص بحارا وبحار..
وتصير دموعك انهار..
وستعلم بعد رحيل العمر ..
انك كنت تطارد خيط دخان "..
ــ شارع ( 25 ) .....
ــ ما فات يا أستاذ من بدري ........؟
ــ يعني أرجع المسافة ذي كلها .......؟؟
ــ أعمل لك إيه يا بيه .. ما أنت كنت نائم علي ودانك .....!!
ــ .............؟
وكانت السماء تكتسي عباءتها الرمادية .. وأسراب الطير تحلق في فضاء الكون المتسع .. ورائحة البحر التي لا تقاوم , تدغدغ مشاعري .. وموجه الأزرق ينتظر , الجسد المثخن بالجراح .. وانكسارات الهزائم .. ليعبث به.. يغسله من وَعْثَائه ... ويلهو معه ..... و ..............
على السيد محمد حزين
ــ سوهاج ــ مصر
وكنت أتخيلها وهي تجلس بجواري تشاركني المقعد الوثير, والطريق الطويل فجاء صوتها يتهادى ينبعث من أعماق الذات , ليكسر صلف الصمت القاتل .. ورنين ضحكتها الحلوة , يدغدغ مشاعري المرهفة , وتعليقاتها الساخرة من كل شيء, حتى من نفسها , حين كانت تريح يدها البيضاء في يدي, وهي تشبك الأصابع المرتجفة في أصابعي , وتضغط , فيقشعر جسدي وانتشي , ويهرب الدم من عروقي....
" كانت زهرة برية جميلة , وكان في عينيها العسليتين رعد ٌ, وبرقٌ وصواعق تدمر كل قلاعي, وحصوني المنيعة, وتحطم جدران الذاكرة وتذيب كل الفواصل بيننا والحدود , فأصيرُ طفلاً بين يديها لا يعجبها تصرفاته الصبيانية.. آآهِ ... لكم أنا مشتاق إليك يا " حنان " وأكثر مما مضى أحتاجك .. تلفيني بين ذراعيك , وتمسحي بيدك النحيلة رأسي , لتنفضين من فوقها سنيّ الاغتراب .. محتاج إلى دفء صوتك لكي يغسلني حتى النخاع .. محتاج لضحكتك الحلوة تزلزلني .. وشعرك الغجري المتمرد ينام فوق طرقات وجهي الشاحب ... هذه يدي خاوية فمدي يدك .. شبكي الأصابع المرتجفة .. واضغطي فأنا الآن مشُتاق وبي لوعة البائس , التعيس .. فبرغم الجو الماطر , الساحر, إلا إني أفتقدك , وأحن إليك بطول المسافات التي تفصل بيننا ... أناديك ... أشتهيك.."...
تنحنحت التي بجواري .. نظرت إليها فابتسمت .. وكأنها تريد أن تأخذني منك تسألني عن الزمن المتوقف في يدي, فمنذُ فارقتك كل شيء قد توقف عندي .!!
( لا تخافي , صغيرتي , واهدئي .. فالنهد المترجرج , الصابئ , المتمرد .. والفتنة النائمة في عينيها السوداويين, والجسد الأبيض اللدّن الطري, وعطرها الأنثوي الفواح .. وبسمتها الخبيثة .. كل ذلك مجرد تأثير وقتي .. وعابر ـــ سرعان ما يتبخر ـــ عندما نفترق .. وأمور عفوية .. عارضة.. فلتهدأ روحك الثائرة بداخلي ..)...
تحسست حقيبتي حتى أتأكد أنى لم أنس شيئا .. ارتخيت على المقعد .. أتابع صوت المغنى المنبعث من المذياع .. الشاكي لكل الناس أوجاعه.. وعيناي كانت تلتهم اللافتات العريضة التي سمرت على جانب الطريق, وبعض المباني المتناثرة هنا وهناك في عشوائية رائعة .. وسطر الأشجار الذي لا ينتهي .. ورائحة البحر التي لا تقاوم .. كل ذلك ذكرني .. بتلك الليلة , البعيدة , الكئيبة .. المحفورة في الذاكرة .. حين اقترضت عشرين جنيهاً.. من جارتي العجوز .. وتركت لها البلد وهربت ... نعم هربت ... رميت نفسي في آخر قطار ... متجه إلى القاهرة ... وكان الرحيل , والاغتراب .. حين رفضت أن أكون فارس أحلامها المنتظر .... لن أنساها أبداً تلك الليلة الحزينة من ليالي الشتاء القارص .. كم جاهدت معها , وحاولت كثيراً أن أكسر صخرة عنادها , أن أثنيها عن قرارها , أحميها من نفسها .. وبرغم أني أثبت لها .. أن فلسفتها للحياة خاطئة , وخبرتها ما زالت قاصرة .. إلا أنها فضلت الانتحار .. في أحضان غريبة .. كلها حفنة أيام .. وستصبح مدام فلان ... " هه .. هه " طظ " ......
( صوتها في تلك الليلة .. كانت كرابيج من نار .. ما انفكت تنهش لحمي .. وتطاردني في كل مكان .. تصفع مشاعري المرهفة , بلا رحمة .. حتى ضحكتها صارت ككلاب تنهش عقلي .. وكلاليب تمزق قلبي .. أشلاء من بين ضلوعي .. أنهرت ساعتها , وكدت أسقط أمامها .. لولا أني تماسكت .. ووددت أن ابصق عليها .. أن أصفعها بكل قوة .. أدهسها تحت حذائي الرخيص .. حتى أُسويها بالأرض .. ولكني تحاملت , وتحملت للنهاية .. ولعنت ضعفي وذلي أمامها .. وفضلت الهروب منها .. ومن الشوارع التي كانت تضمنا عند المساء ... ورحلت بعيداً عنها .. بعدما حرقت كل رسائلها , والصور .. وارتميت في أخر عربة بالقطار .. تكورت فوق حقيبتي .. أتلمس ضوء المصابيح الخافتة , المصطفة , وهي تحارب أشباح الليل وتهتك أجساد المدن الناعسة, تحت عباءة الليل البهيم .. وظل القطار يخبط , ويخبط, يوقظ صوته الليل , والمدى البعيد , يعلن عن نفسه يناوش القرى , وينادي المدائن البعيدة , والباعة الجائلين يلجون من بين الكتل البشرية المصفوفة في ردهة القطار, بأصوات مرتفعة , كل منهم ينادي سلعته بطريقته الخاصة .. ثم يسب ويلعن الدنيا , والعيشة , والحياة المرة .. والناس ينظرون إليهم ولا يتكلمون ولا يشترون , وأصوات الركاب تداخلت كدوى النحل وكنت وحيداً , شريداً, محطماً , مهزوماً , مهتماً بما للغد الأتي ..لا أعبأ بالعيون التي كانت تناوشني, وتتحسسني من حين لآخر خلسة .. حتى هدأ الليل , ونامت العيون , وملأت الجفون عن شواردها, وذهبت النجوم , وسكن الليل , وانقطع بكاء الطفل الذي كان يلقم صدر أمه )......
تنبهت لصوت التي بجواري .. وهي تطلب من سائق التاكسي تهدئة السرعة .. في تلك اللحظة تفرستها جيداً .. تحققت من ملامحها كاملة .. كانت تشبهك يا " حنان " إلى حد كبير .. نفس النظرة , نفس الابتسامة الساحرة ,التسريحة .. الفستان .. الشفاه المستديرة المحددة , المقدد , حتى العطر الذي تفضلينه يفوح من الجسد الأبيض .. مصادفة عجيبة أدهشتني .. وأعجبت لها كثيراً .. أدارت وجهها صوب البحر.. ووضعت ساقا علي ساق .. فضاق علي المقعد , قاومت , ارتبكت .. خفت , فتركت لها المقعد , وقمت من جنبها .. فاستدارت نحوي .. ترنو إليّ وهي تخرج من عينيها .. جيوشاً من علامات التعجب .. والاستفسار .. ثم وضعت يدها علي فمها في دهشةٍ .. وأخذت نفساً عميقاً .. وفضلت الصمت .. والنظر إلي موج البحر الهادر .. والحقول الخضراء الجميلة .. والشمس وهي تبتسم في كبد السماء ...........
( في أول مرة هبطت قدمي سلم القطار .. لأجد نفسي في بلد غريبة , بعيدة .. خفت .. وحدثتني نفسي بالرجوع إليك يا " حنان ".. لكن أمواج البشر المتلاطم ألقي بي في قلب المدينة الخرسانية .. لأجد نفسي أسير تحت الشمس المحرقة , وبين العربات الفارهة .. أقفز, وأجري , كي أتفاداها , كالبهلوان .. ورصيف يسلمني لرصيف حتى ناوشني التعب, فارتميت فوق قطعة خضراء, في الأرض اليابسة .. توسدت حقيبتي .. أغمضت عيناً واحدة .. والأخر أبقيتها مفتوحة للصوص المدينة , حتى لا تقلبني أيديهم , التي لا ترحم غرفتي , أتحسس جيبي لأتأكد من هويتي , وأوراقي المهمة , التي تثبت أني غريب عن هذه المدينة .. ورحت أقلب في " المتواليات " أقرأها .." أتعلم كيف يصاغ الحرف .. ليغير وجه المدن البعيدة ليعطينا " وجهاً نألفه .. ويغير فينا وجه الرحلة .. لون الأيام .. يعطينا لوناً آخر للأحلام " .. ويجئ المساء غريباً .. يشبه وجه المدينة فطوبي للغرباء أمثالي, طوبي للحزانى , والبؤساء لأن الجوع ينهش أحشاءهم .. طوبي للذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.. وتصرخ الكلمات بداخلي .. ( للثعالب أوجرة , وللطيور أوكار ) حتى كلاب الأرض الضالة لها زوايا من الأرض تعرفها جيداً , وتأوي إليها حين تشتهي الموت , أما أنا فليس لي هاهنا مكانا آوي إليه .. لأضع رأسي المتخمة بالجراح .. وآلاف الكتب الصفراء .. والأسماء , والعناوين , وأحلامي الكبيرة الملقاة في الشارع ,عارية في الطل .. غير مأسوف عليها .. يدهسها أزيز المحركات .. وهي تنهب الطريق .. وتلعقها عيون المارة .. وتلوكها الأفواه الفاغرة........
وكنت أشعر أن كل ما برأسي باطل .. وقبض الريح .. ومزيف , كوجوه نساء المدينة .. فجأة اقتربت مني سيارة شرطة حينها أسلمت قدماي للريح .. حتى لا توضع يداي في أساور من حديد .. حدث ذلك معي ـ في يوم ما ..
{{ حين كنت عائداً من محاضراتي .. وبينما كنت الهث خلف القطار .. أوقفتني سيارة زرقاء كهذه .. ابتلعتني من قبل أن أنطق ببنت شفة , كلمة واحدة لم اقلها ورضيت الاستكانة .. استسلمت .. وجبنت فيّ الكلمات .. ورضخت للأمر الواقع, شهراً كاملا .. ثلاثون ليلة متواصلة .. يفترسني الجوع وبرد الشتاء.. وثلاثون أًخر ــ كل صباح ــ تشدني خيوط الشمس .. فوق نافذة صغيرة , حتى أصبحت كعنكبوت يجري فوق الحائط ,أرمي عيناي في كل اتجاه, أنتظر قطارات الجنوب وهي عائدة .. وأنا يعاودني حنين الخيل للصهيل .... والطير للرحيل , والسفر .. ويرحل فيّ الحنين .. مهزوماً .. مكسور الوجدان .. يجفف دموع انكساراتي .}}
فررت منهم لما خفتهم .. لأني لست مثلهم .. هم معهم إقامة .. وأنا بلا إقامة .. هم يملكون بيوتاً خرسانية في المدينة.. وأنا بلا بيت , أو وطن , أو عنوان .. هم يتربصون بي , وأنا لا املك من أمري شيء .. فاخترت الفرار .. وفررت .. كحمار وحشي , ارتديت المنعطفات , والأزقة , والحواري الضيقة حتى اختفيت ــ كفص الملح ــ في الظلام .. ومشيت مهرولاً .. اقتربت من مشارف المدينة .. التي فتحت لي جناحيها عند الدخول .. واستقبلتني كمخلص .. هكذا سولت لي نفسي .. وتهيأت .. ولما احتواني ظلام المكان , ذهب الخوف , وتوقفت , عن السير , كي ألقف أنفاسي المتقطعة .. وأجفف نزيف العرق .. ويهدأ القلب المرتجف , الذي كاد يتوقف من الفزع .. هدأت .. استرحت .. لترجع إليّ نفسي .. برهة قصيرة .. غفوت فيها أحلم بامرأة بيضاء .. فارعة القوام .. بارعة الجمال , وساقطة .. في الثلاثين من عمرها تدنو مني , وهي تتكسر في مشيتها بخطوات كلها دلع , ودلال .. وبحركة لولبية .. ترمي بنفسها عليّ .. تمسح علي رأسي .. وهي تهمس في أذني .. تساومني بصوت كله نعومة , ورقة , وغنج , وعطرها الأنثوي .. يطغي علي المكان .. وأنا لا أستطيع المقاومة...............
ــ بكم تبيع هذا الجسد , المتعب اللزج المليء بالأتربة ..؟
ــ بالطعام والمبيت علي سرير وثير وحفنة نقود
ـــ هه .. هه .. هذا كثير جدا ... !
ــ إذاً فليكن بالمبيت والطعام ... !!!!
ـــ وهذا أيضاً صعب .
ـــ إذاً فاختاري أيهما شئتٍ يا سيدتي ....؟!!
ـــ وهذا أصعب
تنهض مسرعة .. وهي توسد الخد قبلة ساخنة .. وتنصرف .. تركب عربتها الشبح .. وتنطلق بسرعة البرق .. أجري خلفها .. فتختفي فجأة ...
أستيقظ فجأة من نومي .. لأجد نفسي ما زالت .. في الظلامٍ الدامس ..
علي مشارف المدينة الخرسانية , البعيدة , الغريبة .. تسكعت , تصعلكت , ضحكت من نفسي .. وضربت كفا بكف .. ثم رفعت رأسي إلي السماء .. وبكيت ومشيت بخطي ضعيفة , واهنة .. تحسست جيوبي الخاوية .. إلا من قطعتين من النقود المخرومة أخرجتهما .. ولوحت بهما في الهواء .. بحذر شديد وضعتهما ثانية في جيبي ..عصبت بطني بيدي من شدة الجوع .. وضربت الأرض برجلي , فتطاير حجر صغير من أمامي .. رأيت فتاة جميلة , على الجانب الآخر من الطريق .. تشاركني الليل .. والتسكع .. وربما الاغتراب .. اقتربت منها ............
ــ لو سمحت الساعة كم ...؟
استمرت في سيرها , وكأنها لا تسمعني , لكن شفتاها انفرجت عن ابتسامة تشجعت ثانية .. وواصلت حديثي معها ...
ــ غريب في المدينة .. وطالب منك نزهة ....
وقفت .. غرست عيناها في وجهي .. فشعرت بقلي يرفرف طرباً ... برهة .. استدارت وانصرفت .. دون أن تتكلم .. اعترضت طريقها .. وقفت في وجهها ... تشجعت أكثر .. وأنا ابتسم في وجهها قلت...
ــ كنت عارفا أن قلبك طيب ..... ؟!
قطعت سيرها ... توقفت ثانية ... التفت إلي باستغراب ... حملقت باندهاش ... ابتسمتً ... ثم فاجأتني بصفعة قوية علي وجهي ... وبصقت علي الأرض ... وانصرفت تستأنف سيرها ... بينما أنا كنت واقفاً في ذهولٍ ... ممسكاً موضع الألم .. وأنا أصرخ في ظهرها
ــ " يا مفترية " ...
أتنبه لصوت أجش ... يقطع تداعياتي ... وينتشلني من بئرها العميق ......
ــ نازل فين يا أستاذ ....؟
تنبهت ... التفت إليه .. والشمس كانت باردة .. تجنح للغروب .. والسيارة متجهة صوب البحر .. وما زال صوت المغني .. يشدو عبر المذياع .. بآخر أغنية شدي بها لحبيبته الغائبة....
" ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان ..
وتسال موج البحر وفيروز الشطأن ..
وتغوص بحارا وبحار..
وتصير دموعك انهار..
وستعلم بعد رحيل العمر ..
انك كنت تطارد خيط دخان "..
ــ شارع ( 25 ) .....
ــ ما فات يا أستاذ من بدري ........؟
ــ يعني أرجع المسافة ذي كلها .......؟؟
ــ أعمل لك إيه يا بيه .. ما أنت كنت نائم علي ودانك .....!!
ــ .............؟
وكانت السماء تكتسي عباءتها الرمادية .. وأسراب الطير تحلق في فضاء الكون المتسع .. ورائحة البحر التي لا تقاوم , تدغدغ مشاعري .. وموجه الأزرق ينتظر , الجسد المثخن بالجراح .. وانكسارات الهزائم .. ليعبث به.. يغسله من وَعْثَائه ... ويلهو معه ..... و ..............
على السيد محمد حزين
ــ سوهاج ــ مصر