في عودتنا، كنا قد قطعنا شوطاً في طريق الإسكندرية الصحراوي، حتى وصلنا إلى الرست هاوس، عندئذ توقف السائق، وقال في حسم: ربع ساعة لا أكثر.
تحررنا جميعا من زنقة الأتويس، ونزلنا بملابس المصيف الخفيفة والأحذية الرياضية. وتفرقنا في بهو مازال محتفظاً بأثار الزمن، رغم محاولات التجديد على الحوائط والمقاعد، وسيراميك الطرقات المؤدية إلى دورات المياة.
تناولتُ زجاجة مياة باردة من الثلاجة، ورحت اتجول في المكان، لأحرك قدمي وأسلّي نفسي. حتى وجدتني أمام باب مغلق، وفيما كنت أتأمل دقة صناعته، وروعة زخارفه الذهبية، انفتح، وأطل منه وجه لنوبي معمم، في ملابس بيضاء نظيفة.
قال بلهجة جادة: تفضل يافندم.
قلت مداعبا: هل الزمبليطة في الصالون؟
لكنه انحنى، وسمح لي بالدخول، فإذا بي في بهو واسع، تتوزع على جانبيه أعمدة رخامية خضراء. فيما المقاعد مصفوفة بنظام بجوار الحوائط، والجميع جلوس عليها في صمت، عيونهم شاخصة في اتجاه الصدارة، حيث الزعيم ممسك بطربوشه، يحركة بين يديه ويتكلم، فيما هم يضعون طرابيشهم أمامهم، على موائد صغيرة مذهبة. ولا يحركون عيونهم بعيداً عن الزعيم، حتى أن أحداً لم ينتبه لوجودي، ولا لتجوالي بين جنبات البهو ببنطالي الجينز وحذائي الرياضي وزجاجة مياه معدنية في يدي.
لا أدري كم لبثت في حضرته، ولكني انتبهت أن الوقت الذي حدده لنا السائق انتهى. عندئذ هرولتُ إلى خارج القاعة، كان الأتوبيس قد تحرك فعلاً ووصل إلى نهاية شارع محمد على، ورأيته من بعيد ينعطف في اتجاه القلعة، فغمرني يأس من اللحاق به، حتى أني وقفت مكاني لا أعرف ماذا أفعل! فيما كانت نغمات الألاتية تتناهى إلى سمعي، ثم أني رأيتها، تقف بثوبها الشفاف عند أول الزقاق، يتضوع المسك من بين أعطافها، فسألتها ملهوفا، أين الطريق؟
أشارت لي أن اتبعها، فتبعتها إلى داخل الزقاق، حتى وصلنا إلى قبو في نهايته، فعبرناه منحنيين، فإذا بنا في ساحة كأنها ميدان، تعج بعربجية يتسابقون بجيادهم وعرباتهم الكارو، ويحدثون صخباً كأنهم في عراك.
توقفت خشية أن يصدمني الكارو، ولكني سمعتها تحثني على الإسراع وتشير إلى السماء. أدركت أن علينا أن نصل قبيل آذان المغرب، فحثثت الخطى خلفها، حتى انتهينا إلى سور عظيم، تطل من خلفه أشجار الكافور، ولما وقفنا أمام الباب الكبير، التقطتْ حجراً وناولته لي، وقالت:
ـ اضرب بقوة حتى يسمعك المنشدون في الداخل.
ثم رأيتها تعود في اتجاه القبو من جديد، فيما تركتْ مسكها يعبق المكان.
انفتح الباب، فإذا بالوجه النوبي المعمم، ينحني ويدعوني للدخول، فأرتج على الأمر.
ـ هل عدت إلى الرست هاوس؟
إلا أني لمحتهم من كوة الباب. إنهم جالسون، هذه المرة في هيأة دراويش، منهمكين في أذكارهم، وعيونهم شاخصة في اتجاه شيخهم. فمضيت بينهم وهم لايحفلون، وأنا أراه منكفئا كأنما يقرأ في كتاب بين يديه، ورأسه مغطى بغترة من شاش أبيض، وما أن انتهيت إليه، حتى رفع رأسه، فإذا بوجه نجيب محفوظ مبتسماً، فلم أدر ماذا أفعل، غير أني ناولته الحجر الذي طرقتُ به الباب، فأخذه مني، ووضعه في خُرْج بجواره، وعاد ينكَبُ على كتابه، فوقفت مرتبكا، لا أدري، إن كنت أجلس بينهم، أم أعود من حيث جئت؟
* منقول عن:
لمح البصر.. قصة لسيد الوكيل
تحررنا جميعا من زنقة الأتويس، ونزلنا بملابس المصيف الخفيفة والأحذية الرياضية. وتفرقنا في بهو مازال محتفظاً بأثار الزمن، رغم محاولات التجديد على الحوائط والمقاعد، وسيراميك الطرقات المؤدية إلى دورات المياة.
تناولتُ زجاجة مياة باردة من الثلاجة، ورحت اتجول في المكان، لأحرك قدمي وأسلّي نفسي. حتى وجدتني أمام باب مغلق، وفيما كنت أتأمل دقة صناعته، وروعة زخارفه الذهبية، انفتح، وأطل منه وجه لنوبي معمم، في ملابس بيضاء نظيفة.
قال بلهجة جادة: تفضل يافندم.
قلت مداعبا: هل الزمبليطة في الصالون؟
لكنه انحنى، وسمح لي بالدخول، فإذا بي في بهو واسع، تتوزع على جانبيه أعمدة رخامية خضراء. فيما المقاعد مصفوفة بنظام بجوار الحوائط، والجميع جلوس عليها في صمت، عيونهم شاخصة في اتجاه الصدارة، حيث الزعيم ممسك بطربوشه، يحركة بين يديه ويتكلم، فيما هم يضعون طرابيشهم أمامهم، على موائد صغيرة مذهبة. ولا يحركون عيونهم بعيداً عن الزعيم، حتى أن أحداً لم ينتبه لوجودي، ولا لتجوالي بين جنبات البهو ببنطالي الجينز وحذائي الرياضي وزجاجة مياه معدنية في يدي.
لا أدري كم لبثت في حضرته، ولكني انتبهت أن الوقت الذي حدده لنا السائق انتهى. عندئذ هرولتُ إلى خارج القاعة، كان الأتوبيس قد تحرك فعلاً ووصل إلى نهاية شارع محمد على، ورأيته من بعيد ينعطف في اتجاه القلعة، فغمرني يأس من اللحاق به، حتى أني وقفت مكاني لا أعرف ماذا أفعل! فيما كانت نغمات الألاتية تتناهى إلى سمعي، ثم أني رأيتها، تقف بثوبها الشفاف عند أول الزقاق، يتضوع المسك من بين أعطافها، فسألتها ملهوفا، أين الطريق؟
أشارت لي أن اتبعها، فتبعتها إلى داخل الزقاق، حتى وصلنا إلى قبو في نهايته، فعبرناه منحنيين، فإذا بنا في ساحة كأنها ميدان، تعج بعربجية يتسابقون بجيادهم وعرباتهم الكارو، ويحدثون صخباً كأنهم في عراك.
توقفت خشية أن يصدمني الكارو، ولكني سمعتها تحثني على الإسراع وتشير إلى السماء. أدركت أن علينا أن نصل قبيل آذان المغرب، فحثثت الخطى خلفها، حتى انتهينا إلى سور عظيم، تطل من خلفه أشجار الكافور، ولما وقفنا أمام الباب الكبير، التقطتْ حجراً وناولته لي، وقالت:
ـ اضرب بقوة حتى يسمعك المنشدون في الداخل.
ثم رأيتها تعود في اتجاه القبو من جديد، فيما تركتْ مسكها يعبق المكان.
انفتح الباب، فإذا بالوجه النوبي المعمم، ينحني ويدعوني للدخول، فأرتج على الأمر.
ـ هل عدت إلى الرست هاوس؟
إلا أني لمحتهم من كوة الباب. إنهم جالسون، هذه المرة في هيأة دراويش، منهمكين في أذكارهم، وعيونهم شاخصة في اتجاه شيخهم. فمضيت بينهم وهم لايحفلون، وأنا أراه منكفئا كأنما يقرأ في كتاب بين يديه، ورأسه مغطى بغترة من شاش أبيض، وما أن انتهيت إليه، حتى رفع رأسه، فإذا بوجه نجيب محفوظ مبتسماً، فلم أدر ماذا أفعل، غير أني ناولته الحجر الذي طرقتُ به الباب، فأخذه مني، ووضعه في خُرْج بجواره، وعاد ينكَبُ على كتابه، فوقفت مرتبكا، لا أدري، إن كنت أجلس بينهم، أم أعود من حيث جئت؟
* منقول عن:
لمح البصر.. قصة لسيد الوكيل