محمد إبراهيم الحاج صالح - ابنة عمي نورا.. قصة قصيرة

ابنة عمي (نورا) عذابي وبلواي في الصغر - خرجت مشلولة, ومات أبواها وهي ابنة خمس سنوات, إثر حادث سيارة من تلك السيارات القديمة, التي كان الناس يسمّونها (البوسطة). فتكفلها جدي, الذي لم يكن يسمح لأي من أعمامي المتزوجين ولا أبي بالخروج عن البيت الكبير.(الأرض كبيرة وتحتاج إلى العمل. في حياتي لن ترثوني. متى مت افعلوا ما تريدون) يقول جدي دائما. فيردد الجميع: (بعيد الشر!). يذهبون رجالا ونساء إلى العمل في حقل القطن صيفا, وإلى حقول الشعير والقمح شاء, ويتركون نورا وديعة لدي, مع الكثير من الوصايا الحازمة من قبل جدي الذي لا ينسى أن يختم وصاياه بالجملة التي لا تتغير: (حطها بعينك إنها عروسك في المستقبل) فأنقهر وأخجل, وتبدأ هي بالدلال: (دخيلك اسحب فراشي عن الشمس) أو (اعطني حسوة ماء). في البداية كنت أراعيها خشية من قسوة جدي, الذي لم يترك طبيبًا إلا وعرضها عليه. كل الأطباء أجمعوا أنها سليمة الأعصاب وأن الأمر غير مفسر إلا بالصدمة التي تعرضت لها. شيئا فشيئا رحت أكرهها, وأتحيّن الفرص كي أنتقم منها.

مرة ارتقيت شجرة التوت الضخمة ومن الأعلى تفننت في إزعاجها بهز الأغصان حتى تخمش شعرها ووجهها, بينما هي تستعطفني وتبكي, ثم تهددني بجدي وتبكي, وأنا أزداد حقدًا وانتقامًا. ولما شكتني إلى جدي وزادت كذبًا: (يا جدي ركب فوق الشجرة و...بلل ثيابي) أضافت ما لم أفعله. عندها صرخ جدي: (تعال يا جرو... كله إلا قلة الأدب). أردت أن أكذبها لكن خوفي من جدي ربط لساني. يومها رأيت جدي يؤشر بحركات نحو أعمامي وزوجاتهم وإلى أمي إشارات تعني أنه لا يريد لأحد أن يتدخل. ربطني إلى جذع شجرة التوت بحبل وهو يقول بصوت عال: من يفكه أو يعطيه ماء قبل صباح الغد سأربطه بدلا عنه. تخيلتني طوال الليل مربوطًا إلى الشجرة والدنيا ظلام والكلاب تعوي من بعيد, ونظرت إلى أمي وهي تكاد تجهش بالبكاء ففعلت على نفسي, حينذاك رأف بي جدي وضمني وعيناه تغرورقان بدموع لم يرد لها أن تسقط, ومع ذلك حذّرني (ابنة عمك يتيمة. سيحرقك الله بالنار إن فعلت مرة أخرى ما فعلته بها). أردت أن أحلف أنني لم أفعل, لكن الكلام غاب عني كما لو كنت أخرس.

فجأة بعد أيام من تلك الحادثة ظهر لنا (عثمان) المهبول قادما من بعيد وهو يتمايل بمشيته العرجاء. قلت متظاهرًا بالخوف: (جاء عثمان المهبول سيقتلنا ويلقي بنا في البئر). نظرت إليها بطرف عيني ورأيت الخوف يتملّكها. زدت (أنا سأهرب وأتركك وحدك معه) فتشبّثت بثوبي وهي تصرخ: (لا...لا...دخيلك). عثمان رجل أعرج يطوح بقدميه في المشي كما لو أنه ينتشلهما من الطين, وفمه مائل إلى جهة يسيل منها لعاب دائم الجريان, وصوته يحمحم بضيق مستمر, كما لو أنه يحمل عبئًا. بصورته هذه كان يتقدم نحونا عندما التقطت حجرة وقذفتها نحوه, وفي الوقت نفسه تملّصت من نورا وانطلقت راكضًا وأنا أسمع خلفي خفق الأقدام وحفيف الثياب بأغصان شجيرات القطن. لم أكن خائفًا في البداية, لكن استمرار الأصوات خلفي جلب إليّ الخوف, وبتّ أحس بعثمان وركضه اللولبي يكاد يدهمني ويقبض عليّ.

المفاجأة كانت أنني رأيت نورا, وأنا أرتفع إلى كتفي جدي, تركض وتلتفت إلى الخلف بينما كان الجميع يهلّلون ويركضون نحوها. وعثمان المهبول من بعيد يشير أيضًا بيد مجنونة فرحة.
[SIZE=3]

محمد إبراهيم الحاج صالح مجلة العربي نوفمبر 2004[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى