سعيد سالم - حكايتي مع الخواجات.. قصة قصيرة

في الصغر سلمتني أمي إلى الخواجة آندرز لأعمل بمصنعه مع الصبية في تعبئة أكياس الشاي خلال إجازة الصيف لقاء خمسة قروش في اليوم. بهرتني شخصيته القاطعة المعالم والقرارات.

استرحت له وتمنيت أن أكون مثله عندما أكبر وأصبح مسئولا عن عمل. من يعمل يكافأ ومن يهمل يفصل ولا حل وسطًا. لم يكن الحب مبعث اهتمامه بي، فتلك كلمة لا يعرفها قاموس العمل عند آندرز. لكنه كان بالتأكيد معجبا بكفاءتي الإنتاجية وعزوفي عن الثرثرة مع الصبية وردودي المختصرة على أي سؤال يوجه إلي.. حتى أنه قال لي يوما:

- يابني.. لقد ولدت في المكان غير الصحيح!

لم أفهم ما يقصده تماما، حتى اصطحبني يوما إلى مكتبه وأخرج لي كتيبا ملونا عن بلاده. راح يفر صفحات الكتيب ليفرجني على مدينته التي غادرها منذ عشرات السنين. خرجت عن إطار زماني ومكاني بفعل قوة خفية غامضة ورحت بكياني كله إلى عالم خيالي مسحور تتجاذبه ألوان الزهور والبحار والجبال والطيور والمساكن الصغيرة ذات الطرز الأنيقة والأسقف القرميدية المخروطة والمحاطة بالحدائق من كل مكان.. وتساءلت في ذهول:

- هل في الدنيا مدن وبيوت ومناظر بهذا الجمال؟!

نظر إليّ في إشفاق وأضاف إلى يوميتي قرشا ومنحني يوما إجازة. بلغت من السعادة غايتها حين قال لي بنبرة موحية:

- لو اجتهدت في حياتك فسوف يمكنك أن تنعم بهذا الجمال.

ولكني لم أجرؤ على سؤاله:

- فلماذا تركت إذن بلادك الجميلة وجئت إلينا لتعيش بيننا كل هذا العمر؟

في المنزل حذرتني أمي من أشياء غريبة. اندفعت الدماء إلى أذني ونكست رأسي في حرج والحسرة تملأ قلبي، فكيف تصدر من أمي مثل تلك الكلمات الشاذة عن عجوز طيب مثل الخواجة آندرز؟!

أردت أن أعيد إليه قروشه وأترك مصنعه، ولكنها بحاجة شديدة إلى تلك القروش، فتراجعت عن فكرتي متوقعا أن يغفرلها الله سوء ظنها بالخواجة وقلة ثقتها برجولتي.

في اليوم التالي بدأ آندرز يدربني على العمل في ورشة الصيانة قائلا إنه يضع بذلك أول حجر أساس لمستقبلي. في خلال فترة وجيزة أثبت كفاءة أذهلت آندرز حتى أنه أصبح يعتمد على مهارة أصابعي في تخليق بعض قطع الغيار غير المتوافرة بالمخزن. ثم عينني مساعدا للخراط بعد أن طرد صديقي «سوكة» - المساعد القديم - بتهمة محاولة السرقة.

عندما اقتربت الإجازة الصيفية من الانتهاء قال الخواجة لأمي:

- إصرارك على تعليم الولد سيضيع عليه فرصا لا تعوض كخراط محترف

- أتضحك عليّ يا خواجة؟!..خراط محترف عمره خمس عشرة سنة؟

- ابنك ياسيدتي صانع عبقري والفلوس أهم من التعليم. صدقيني حتى لا تندمي.

وقال «سوكه» باكيا:

- والله العظيم أنا بريء.

- أنا عارف والله

- منه لله قطع عيشي ولوث سمعتي

- المهم أنه لم ينجح في أن يفرق بيننا.

وفي المساء قلت لأمي بحرقة:

- أوحشتني المدرسة يا أمي

نظرت إلى في توجس ثم أخبرتني بنبرة استفهامية مثقلة بالتردد:

- تقابلت اليوم مع الخواجة.. وانتظرت أن أسألها عما انتهى إليه اللقاء ولكني سألتها بإهتمام:

- هل اشتريت لي حقيبة العام الدراسي الجديد؟

لم تجد بدا من عرض القضية على صاحبها فربما خفف ذلك عن كاهلها قليلا. قالت في حياء:

- ينصح الخواجة بأن تترك المدرسة وتتفرغ للورشة

على الرغم من صغر سني قلت بلا مبالاة محسوبة:

- اتركيه لحاله إنه رجل مجنون

تبددت حيرتها وقالت وهي تتنهد:

- غدا إن شاء الله أشتري لك الحقيبة

- 2 -

في عمر الشباب أحببت كريستينا ابنة جارنا الخواجة أسطفانوس صاحب محل البقالة الذي يقع بجوار بيتنا مباشرة. علمتني أن أقرأ لبلزاك وجوركي وجوجول. علمتها كيف تقرأ سورة مريم وشرحت لها معانيها من كتاب التفسير، كما علمتها أمي كيف تطبخ محشي الكرنب والكوارع بالحمص والدمعة، أما هي فعلمتني كيف أرقص برشاقة على أنغام التانجو والديسكو.

لم يخطر ببال أبي أن تنشأ بيني وبين كريستينا علاقة عاطفية، فقد اعتاد الجميع أن يرونا نلعب معا كأخ وشقيقته منذ الطفولة.. والحقيقة أن كريستينا كانت تتمتع بالعديد من الصفات الجادة التي تميز معظم الرجال، مما ساعد على انتفاء أي شبهة حول علاقتنا الراسخة.

وحين بدأنا نروي زهرة حبنا النضرة من ماء الشباب الدافق بالحيوية والجنون، ازداد تعلق كل منا بالآخر حتى انكشف أمرنا وبات المستور مفضوحا أمام الجميع.

ثارت ثائرة الخواجة اسطفانوس. جاء الى بيتنا يهدد أبي ويتوعده ويعيره بالفجوة العميقة بين مستوانا ومستواه الاجتماعي. لم يسكت أبي- على الرغم من مفاجأته بما حدث - وإنما صدمه بالحقيقة قائلا:

- ما الفرق؟ أنت بقال وأنا ميكانيكي. أنا صاحب البلد وأنت ضيف. أما مكسبي فأضعاف مكسبك؟!

خفت حدة هياج الخواجة حين تيقن من قوة خصمه. تحولت عنصريته المستترة إلى ما يشبه الاستكانة أو التواضع المصنوع حين قال بأدب:

- من فضلك ابعد ابنك عن بنتي.

صاح أبي في حسم:

- ابني ليس لعبة في يدي يا خواجة. هو حر في حياته. قل أنت لابنتك أن تلم نفسها.

.. ويوم مات أبي مشى الخواجة في جنازته وبدا كما لو كان حزينا على فراقه. وبعد الجنازة بعدة أيام جاءني بعرض جيد للعمل في شركة كبرى باليونان بحاجة إلى تخصصى النادر في الميكانيكا. فرحت به وشكرته وطلبت منه أن يمهلني وقتا للتفكير.

حين اختليت بكريستينا قالت إنه يريد إبعادي عنها ونصحتني أن أرفض العرض. استجبت لرغبتها على الرغم من حاجتي الشديدة إلى المال لأدبر به شئون أسرتي المرتبكة، ووعدتها ألا يفرق بيننا إلا الموت. كان دخلي من وظيفتي متواضعا فطلبت من كريستينا - على استحياء - أن تمهلني لعامين حتى أدبر نفقات الزواج. أدهشني أنها انفجرت في الضحك فجأة فسألتها:

- ما الذي يضحكك؟

- هذا الزواج الذي تتحدث عنه

- ألا تحبينني؟

- بالطبع أحبك، ولكن ما علاقة هذا الأمر بالزواج؟

- أنا لم أطالبك بتغيير دينك.

- ليس السبب هو اختلاف الديانة أيها الشرقي الساذج.

- إذن فما السبب؟

- لست مضطرة أن أوضحه لك.

أسرعت إلى أبيها وأعلنته بقبول العقد فقال لي:

- هذا عين العقل يابني.

وسافرت إلى اليونان وانقطعت صلتي إلى الأبد بكريستينا وأبيها.

- 3 -

في اليونان أثبت كفاءتي فعينت مندوبا متجولا للشركة في العديد من دول أوربا. كانت فكرة الزواج تلح علي من حين لآخر أملا في حياة مستقرة وأسرة سعيدة... لكني لم أفكر يوما في الزواج من أجنبية لأنني لم أعد أتصور الزواج من امرأة لا تعرف أن تقول لي في ثورة غضبها:

- يا شيخ بلا نيله!!

لم أشعر بدفء البيت والوطن في أي بلد زرتها. كنت أشعر أنني ريشة خفيفة تطيرها نسمة هواء رقيقة قد تهب في أية لحظة. لم يكن شعوري المكثف بالغربة ناجما عن ضيق ذات اليد أو صعوبة العمل، إذ إنني جمعت مالا وفيرا وأنجزت أعمالا ناجحة عديدة، وإنما هو إحساس بالبرودة والخوف والاختناق.

وحين استقر بي المقام لفترة طالت في أمريكا عرفت «كاتيا». بهرت بمصريتي وأسمتني بـ «الفرعون المهيب» وبذلت أقصى ما تستطيع أنثى أن تبذله للإيقاع برجل. أصبحت على يقين من أنها تحبني فتزوجتها لأحقق لها أمنيتها بالحصول على فرعون صغير مني.. وجاء الفرعون فملأت به دنياي حبا وسعادة، و«ياشيخ بلا نيله»! كانت أحوالي مستقرة في العمل حتى ظهر الخواجة «بربوني» اليهودي الأمريكي ذو الأصل الإيطالي، فأحال حياتي إلى جحيم من الغم والكدر. ظل يوقع بيني وبين رؤسائي ويدبر ضدي المؤامرات للتشكيك في قدراتي المهنية وكان يسميني في غيابي بالمتخلف!

ولما نجح مسعاه لم يبق أمامي إلا العودة إلى وطني وكفى الله المؤمنين القتال. لكن محبوبتي رفضت قائلة انها لا تستطيع الحياة في الصحراء لأنها تكره الجمال والحمير ولأنها لا تطيق الذباب والضجيج والزحام، ولا يمكنها أن تطمئن على فرعونها الصغير من طلقات رصاص الإرهابيين الدمويين المتعطشين إلى حكم دولة فقيرة تعاني أعباء ديونها الخارجية الباهظة.

لم أنجح في إقناعها بشتى السبل، ولما هددتها بالطلاق لم تعبأ وقالت انها تستطيع الحياة من دوني مع فرعونها الصغير وإن لديها العديد من الأصدقاء الذين سيعوضونها عن غيابي كثيرا!

قررت ألا أحرمها من فرصة أخيرة فاصطحبت الولد في غيابها وتوجهت به إلى المطار للسفر إلى القاهرة وتركت لها رسالة بها عنواني في مصر وكلمات رقيقة أتوسل بها إليها أن تحكم عقلها وتأتي مصر حين تشاء.

أمام بوابة المغادرة في المطار ألقي البوليس القبض علي وحوكمت بتهمة «اختطاف ابني»! وصدر على حكم بالسجن والغرامة.. وبعد السجن عدت إلى بلدي فرعونا وحيدا محطما.

- 4 -

في الأربعين من عمري سألني المستر جاكسون الخبير الإنجليزي:

- كم تتقاضى راتبا عن وظيفتك هنا؟

- ما يعادل ستين جنيها استرلينيا.

انفجر الخواجة في ضحك متواصل. كان واضحا أنه يسخر من ضآلة الراتب فسألته:

- كم يتقاضى من يشغل مثل هذه الوظيفة في بلادكم؟

- على الأقل ألف استرليني.

أوضحت له طبيعة المعادلة الاقتصادية في بلادنا وعلاقة الأسعار بالأجور في ظل التضخم واختلال ميزان المدفوعات وزيادة النسل المطردة وقلة موارد العملة الصعبة وما إلى ذلك قال لي إن الحل الوحيد لأزمتنا الاقتصادية هو تطبيق نظام السوق الحرة تطبيقا كاملا كما هو الحال في كل الدول الرأسمالية المتقدمة، ثم أردف قائلا:

- كل ما تسوقه من أسباب هو مجرد حجج باطلة يتشدق بها حكامكم الفاشلون ليظلوا قابعين على أنفاسكم حتى الموت.

- 5 -

جاء هذا الخبير إلى مصر ليشرف على تركيب ماكينة جديدة بالمؤسسة التي عملت بها أخيرًا. سألت عن أجره فعلمت أنه يتقاضى عن اليوم الواحد ما يقرب من سبعمائة جنيه استرليني بالإضافة إلى مائة جنيه مصري كمصروف جيب ومائتي جنيه «بدل سكن»، وذلك بناء على تعاقد رسمي بين مؤسستنا والمؤسسة الموردة للآلة. في البداية تصورت أن هناك خطأ ما في تقدير مثل هذا المبلغ الباهظ كأجر يومي للخواجة، وكان لابد أن ألفت نظر أحد كبار المسئولين إلى ذلك حتى أريح ضميري على الأقل. ثم إني كنت معتقدا أن خبرة هذا الرجل في التركيب لابد أن تكون مستندة إلى مؤهل علمي شديد التخصص نادر الشيوع، وإلا لما وافقت المؤسسة على منحه تلك الثروة اليومية التي تكفي للإنفاق على أسرة مصرية متوسطة الحال لمدة عام كامل. وبالبحث والتحري تبين أنه حاصل على شهادة فنية متواضعة تعادل في بلادنا الدبلوم المتوسط.. غير أن شاربه الأبيض ووجنتيه الحمراوين وجسده الفارع وخيلاءه الشديد قد ساهمت جميعا بقسط كبير في تضخيم قيمة سيادته - المادية وغير المادية - في عيون السادة أبناء البلد المحترمين والمسئولين عن تحديد رواتبنا ورواتب الخبراء من الخواجات.

لم أستطع كتمان غضبي فقررت إثارة الموضوع على أعلى مستوى بالمؤسسة باعتباره جريمة في حق الوطن والمواطنين. توجهت إلى نائب الرئيس لأستفسر عن ملابسات وقوع هذه الجريمة وللبحث عن أسرع وسيلة لإيقاف نزفها المستمر. كان هناك جمع من المنتظرين بمكتب السكرتارية فانضممت إليهم وجلست منتظرا دوري في الدخول. فجأة جاء الخواجة جاكسون فاندفعت السكرتيرة واقفة وتبعها الجميع في تلقائية غريبة. جرت السكرتيرة إلى باب النائب ففتحته ودخل الخواجة - دون انتظار - تسبقه ابتسامته الصفراء الظافرة المتعالية.

من خلال الباب نصف المفتوح لمحت النائب يقف منتصبا كجندي منضبط حين رأي الخواجة، وبابتسامة عريضة ساذجة ترك ضيوفه وأهملهم وراح يرحب بحرارة بالخبير الإنجليزي.

غادرت المكان وعدت إلى مكتبي متباطئا منكسرا حزينا.

- 6 -

بعد إحالتي إلى التقاعد وزعت يومي بين الاستماع إلى نشرات الأخبار بالراديو والذهاب إلى المسجد للصلاة والاستماع إلى القرآن الكريم.

كلما استمعت إلى النشرة طاردتني أشباح آندرز واسطفانوس وبربوني وكاتيا وجاكسون في كل مكان بالعالم. أرى أيديهم ملطخة بدماء المسلمين من البوسنة وحتى العراق وفلسطين، فأستمع إلى القرآن بقلبي وغالبا ما تنتابني الرغبة في البكاء لكني أبتسم.


[SIZE=3]سعيد سالم مجلة العربي يونيو 2007[/SIZE]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى