ابن دريد.. المطر والسحاب

كتاب ابن دريد المشهور، الذي قال الحصري: إن بديع الزمان نسج مقاماته على منواله. انظر قوله هذا في (زهر الآداب) في الوراق، قال: (ولما رأى أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثاً....إلخ) وهكذا ينص الحصري على أنها أربعون حديثاً ، ولكن المطبوع ثلاثون حديثاً. قال عز الدين التنوخي محقق الكتاب: ويضم ثلاثين حديثاً منها سبع وعشرون في المطر والسحاب، وثلاثة أحاديث في الرواد. والحديث الأول في نعت النبي (ص) للسحاب..إلخ. وموضوع الكتاب، من أخص ما تميزت به العرب، في باديتها من معرفة الأنواء ومواقيتها، والأمطار وصفاتها وأحوالها، وما يمطر منها وما لا يمطر، وما أثر عنهم في ذلك من طرائف الكلمات. أتبعها بشرح ما يقع فيها من غريب اللغة. انظر كمثال على ذلك: الحديث التاسع: (مررت بغلمة من الأعراب يتماقلون) والحديث العاشر: (سألت أعرابياً عن مطر أصابهم بعد جدب فقال..إلخ) روى ابن دريد أكثر أخبار الكتاب عن أبي حاتم السجستاني عن الأصمعي، وعن ابن أخي الأصمعي عن عمه. طبع الكتاب لأول مرة ضمن مجموعة (جرزة الحاطب وتحفة الطالب) التي نشرها بليدن المستشرق الإنكليزي (وليم رايت) سنة 1859م معتمداً على نسخة ليدن، التي لا تختلف عن نسخة الظاهرية إلا في مواضع طفيفة. ونسخة الظاهرية أجود نسخة تعرف للكتاب، وهي منقولة سنة 455هـ من نسخة أبي سعيد السيرافي تلميذ ابن دريد، وعليها تعليقات، أملاها الجواليقي صاحب (المعرّب). وهي النسخة التي اعتمدها التنوخي في نشرته، سنة 1962م وأتبعها بذيل اشتمل على (19) نصّاً، وقدم لها بمقدمة ثمينة عن ابن دريد وآثاره. انظر ما استفدناه منها في التعريف بكتاب (الفوائد والأخبار). أما (جرزة الحاطب) فتضم أيضاً (صفة السراج واللجام) لابن دريد و(تلقيب القوافي) لابن كيسان و(ديوان طهمان بن عمرو الكلابي) برواية السكري، و(مقطعات مراث) لابن الأعرابي. وكان قد عثر على هذه المخطوطات في مكتبة جامعة ليدن بهولندا.

المقامات.jpg

تعليقات

ابن دريد
المطر والسحاب

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
قال أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد: نبدأ بحمد الله عز وجل على آلائه، ونختم بالصلوة على خاتم أنبيائه.
هذا كتاب جمعنا فيه ما ذكرته العرب في جاهليتها وإسلامها من وصف المطر والسحاب، وما نعتته العرب الرواد من البقاع، ونرغب إلى الله عز وجل في التوفيق والصواب.
حدثنا إسماعيل بن أحمد بن حفص النحوي المعروف بسمعان النحوي قال حدثنا أبو عمر الضرير قال حدثنا عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب عن موسى بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن جده قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالساً مع أصحابه إذ نشأت سحابة، فقالوا: يا رسول الله، هذه سحابة، فقال: كيف ترون قواعدها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها! قال: وكيف ترون رحاها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد استدارتها! قال: فكيف ترون بواسقها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد استقامتها! قال: كيف ترون برقها: أوميضاً أم خفواً، أم يشق شقاً؟ قالوا: بل يشق شقاً، قال: فكيف ترون جونها؟ قالوا: ما أحسنه وأشد سواده! فقال صلى الله عليه: الحيا، فقالوا: يا رسول الله ما رأينا الذي هو أفصح منك، فقال: وما يمنعني، وإنما أنزل القرآن بلساني لسان عربي مبين؛ قال أبو بكر: قوله قواعدها أسافلها، ورحاها: وسطحها ومعظمها، وبواسقها: أعاليها، وإذا استطار البرق من أعاليها إلى أسافلها، فهو الذي لا يشك في مطره، والخفو أضعف ما يكون من البرق، والوميض: نحو التبسم الخفي يقال: ومض وأومض؛ أخبرنا أبو حاتم قال: أخبرنا الأصمعي قال: خرج معقر بن حمار البارقي ذات يوم، وقد كف بصره، وابنته تقوده، فسمع رعداً فقال لابنته: ما ترين؟ قالت: أراها حماء عقاقةً كأنها حولاء ناقة لها سير وان، وصدرٌ دانٍ، فقال: مري لا بأس عليك! ثم سمع رعداً آخر فقال: ما ترين؟ قالت: أراها كأنها لحم ثنت منه مسيك ومنه منهرت، فقال: وائلي بي إلى قفلة، فإنها لا تنبت إلا بمنجاة من السيل؛ قال أبو بكر: الحماء: السوداء تضرب إلى الحمرة، العقاقة تنعق بالبرق، يريد أن البرق ينشق عقائق الواحدة عقيقة، والحولاء جلدة رقيقة تقع مع سليل الناقة كأنها مرآة، فشبه السحاب في كثرة مائه بالحولاء، قولها لحم ثنت تريد مسترخياً قد أنتن: بعضه متماسك وبعضه متساقط، وهو المنهرت، والقفلة ضرب من الشجر، والجمع قفل قال الشاعر:
ومفرهة عنس قدرت لساقها
فخرت كما تتايع الريح بالقفل
قال أبو بكر قوله: تتايع: تجتمع، ومنه تتايع الفراش في النار؛ المتساقط: أي يسقط ويركب بعضها بعضاً.
أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: سئل أعرابي عن مطر فقال: إستقل سد مع انتشار الطفل فشصا واخزأل، ثم اكفهرت أرجاؤه، واحمومت أرحاؤه، وابذعرت فوارقه، وتضاحكت بوارقه، واستطار وادقه، وارتتقت جوبه، وارثعن هيدبه، وحشكت أخلافه، واستقلت أردافه، وانتشرت أكنافه، فالرعد مرتجس، والبرق مختلس، والماء منبجس فأترع الغدر، وأنبت الوجر، وخلط الأوعال بالآجال، وقرن الصيران بالرئال، فللأودية هدير، وللشراج خرير، وللتلاع زفير، وحط النبع والعتم من القلل الشم إلى القيعان الصحم، فلم يبق في القلل إلا معصم مجرنثم، أو داحض مجرجم، وذلك من قضاء رب العالمين على عباده المذنبين.
قال أبو بكر قوله:
إستقل: ارتفع في الهواء، والسد السحاب الذي يسد الأفق، والطفل اختلاط الظلام بعد غروب الشمس، وشصا ارتفع يعني السحاب، واحزأل أي انتصب، واكفهر تراكم وغلظ، وأرجاؤه نواحيه، الواحد رجا مقصور، احمومت اسودت، وهو سواد تخلطه حمرة، أرحاؤه أوساطه، وابذعرت تفرقت، والفوارق الواحدة فارق، وهي قطعه من السحاب تتفرق عنه مثل فرق الإبل، وهي النوق إذا أرادت الولادة فارقت الإبل وبعدت عنها حيث لا ترى فأنتجت؛ تضاحكت بوارقه شبه لمعان البرق بالضحك، واستطار انتشر، والودق قطر كبار يخرج من خلل السحاب قبل احتفال المطر، ارتتقت جوبه أي تلاءمت، والجوب الفرج، الواحدة جوبة، ووالهيدب: ما تدلى من السحاب في أعجازه فكأنه كالهدب له، وحشكت أخلافه هذا مثل، يقال حشك ضرع الناقة إذا امتلأ لبناً، والأخلاف: الواحد خلف، وهو الضرع للناقة خاصةً، وأردافه: مآخيره، وأكنافه: نواحيه؛ قوله: الرعد مرتجس أي تسمع له رجساً، وهو الصوت بهدة شديدة، ومنبجس منصب؛ والبرق مختلس كأنه يختلس الأبصار من شدة لمعانه، فأترع الغدر أي ملأها. والغدر جمع غدير، وأنبت الوجر أي حفرها وخربها، والوجر جمع وجار، وهو سرب الضبع، وللذئب والثعلب؛ وقوله: خلط الأوعال وبالآجال يريد أنه حط تلك الأوعال من رؤوس الجبال فخلطها بالآجال، والآجال واحدها إجل، وهي قطعان الوحش، وأنه حط تلك من رؤوس الجبال، فجمع بينها وبين البقر التي مراتعها القيعان لاحتمال السيل لها؛ وقوله: قرن الصيران بالرئال، والصيران: جمع صوار، وهو القطيع من بقر الوحش، والرئال: واحدها رأل، وهي فراخ النعام؛ وإنما يريد بهذا كله أن السيل غرق هذه الوحوش فجمع بين السهلي والجبلي؛ وقوله: للأودية هدير: أي تهدر كهدير الإبل لكثرة السيل؛ والشراج: الواحد شرج، وهي مجاري الماء من الغلظ إلى بطون الأودية.
والتلاع أفواه الأودية، الواحد تلعة، أي تزفر بالماء لفرط امتلائها، والنبع والعتم: ضربان من الشجر لا ينبتان إلى في الجبل، يقول: فحط السيل هذا الشجر من رؤوس الجبال إلى القيعان؛ وقوله لم يبق إلا معصم يريد أن الوعول خافت الغرق واستعصمت بالصخور، فنجا ما استعصم منها، وتجرجم ما لم يعتصم: أي صرع فاحتمله السيل؛ والمجرنثم المتقبض.
أخبرنا أبو حاتم وعبد الرحمن عن الأصمعي قال: سألت أعرابياً من بني عامر بن صعصعة عن مطر صاب بلادهم، فقال: نشا عارضاً فطلع ناهضاً، ثم ابتسم وامضاً، فأعتن في الأقطار فأشجاها، وامتد في الآفاق فغطاها، ثم ارتجز فهمهم، ثم دوى فأظلم، فأرك ودث وبغش وطش، ثم قطقط فأفرط، ثم ديم فاغمط، ثم ركد فأثجم، ثم وبل فسجم، وجاد فأنعم، فقمس الربى، وأفرط الزبى، سبعاً تباعاً، ما يريد انقشاعاً، حتى إذا ارتوت الحزون، وتضحضحت المتون، ساقه ربك إلى حيث شاء، كما جلبه من حيث شاء.
قال أبو بكر: قوله نشا عارضاً أي استقل، والعارض سحاب يعترض في أفق السماء؛ وقوله: طلع ارتفع، والوامض البرق، يقال: ومض السحاب وأومض: إذا رأيت البرق في عرضه يلمع لمعاناً خفياً كالتبسم؛ وقوله: فأشجاها أي ملأها؛ وقوله ارتجز يعني ارتجاز الرعد، وهمهم وهو أن تسمع للرعد همهمة كهمهمة الأسد؛ وقوله دوى أي سمعت له دوياً؛ وقوله: فأرك أي مطر ركا، والرك: مطر ضعيف، وكذلك الدث والجمع دثاث وركاك؛ والبغش دون الطش، والقطقط قطر متتابع أكثر من قطر الطش؛ وقوله: ديم الديمة: الديمة مطر يبقى أياماً لا يقلع؛ وقوله أغمط أي دام، وركوده دوامه ثابتاً لا يتحرك، وقوله أثجم أي أقام؛ وبل من الوابل، والوابل: المطر للكبار القطر، الشديد الوقع؛ والسجم: الصب؛ وقوله أنعم أي بالغ فيه، ومنه قولهم: دقاً نعماً: أي مبالغاً؛ وله: قمس الربى أي غوصها في الماء، والربى جمع رابية؛ وقوله أفرط أي ملأ، والزبى جمع زبية، وهي الحفرة تحفر للأسد والذئب أيضاً، والزبية لا تحفر إلا في موضع مرتفع، فإذا بلغ السيل إلى موضع الزبية فقد بلغ الغاية؛ وقوله ارتوت الحزون افتعلت من الري، والحزون الغلظ من الأرض، الواحد حزن؛ وقوله تضحضحت المتون: أي صار فوقها ضحضاح من الماء، وهو الماء يجري على وجه الأرض رقيقاً، والمتن: صلابة من الأرض فيها ارتفاع، وهو دون الحزن.
أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: سئل رجل من العرب عن مطر كان بعد جدب فقال: نشأ حملاً سدا، متقاذف الأحضان، محمومي الأركان. لماع الأقراب، مكفهر الرباب، تحن رعوده حنين الطراب، وتزمجر زمجرة الليوث الغضاب، لبوارقه التهاب، ولرواعده اضطراب، فجاحفت صدوره الشعاف، وركبت أعجازه القفاف، ثم ألقى أعباءه، وحط أثقاله، فتألق وأصعق، وانبجس وانبعق، ثم أنجم فانطلق، فعادت النهاء مترعة، والغيطان ممرعة، حياً للبلاد ورفداً للعباد.
قال أبو بكر: الحمل السحاب الكثير الماء، والسد الذي قد سد الأفق؛ متقاذف الأحضان يريد النواحي؛ وقوله: محمومي هو مفعوعل من الحمة، وهي سواد تخلطه حمرة يسيرة، والأقراب الخصور، الواحد قرب، والقرب والإطل والكشح والخصر واحد؛ والمكفهر المتراكب، والرباب سحاب تراه كأنه متعلق بالسحاب، الواحدة ربابة؛ وقوله حنين الطراب أراد الإبل النوازع إلى أوطانها، فهي تحن، فشبه حنين الرعد بحنين الإبل إلى أوطانها.
وقوله جاحف أي زاحم، والشعاف رؤوس الجبال الواحدة شعفة، والقفاف جمع وقد قدمنا ذكره وهو الغلظ من الأرض لا يبلغ أن يكون جبلاً، يريد أن أعالي هذا السحاب مطلة على الجبال، ومآخيره على القفاف دانية من الأرض؛ ألقى أعباءه أي أثقاله، يريد الماء، والتألق شدة اللمعان؛ والانبجاس الانفجار بالماء، والانبعاق الصب الكثير في سعة، وقوله أنجم أي أقلع وانقشع والنهاء جمع نهي، وهو الغدير الذي له ناه ينهاه أن يفيض؛ والغيطان جمع غائط، وهو البطن الغامض من الأرض المطمئن، ممرعة مخصبة.
أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: سمعت أعرابياً من غني يذكر مطراً أصابهم في غب جدب فقال: تدارك ربك خلقه، وقد كلبت الأمحال، وتقاصرت الآمال، وعكف الياس، وكظمت الأنفاس، وأصبح الماشي مصرماً، والمترف معدما، وجفيت الحلائل، وامتهنت العقائل، فأنشأ الله سحاباً ركاماً كنهوراً سجاما، بروقه متألقة، ورعوده متقعقعة، فسح ساجياً راكداً ثلاثاً غير ذي فواق، ثم أمر ربك الشمال فطحرت ركامه، وفرقت جهامه، فانقشع محموداً، وقد أحيا فأغنى، وجاد فأروى، فالحمد لله الذي لا تكت نعمه، ولا تنفد قسمه، ولا يخيب سائله، ولا ينزر نائله.
أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: كان شيخ من الأعراب في خبائه، وابنة له بالفناء إذ سمع رعداً فقال: ما ترين يا بنية؟ قالت: أراها حواء قرحاء كأنها أقراب أتان قمراء؛ ثم سمع راعدةً أخرى فقال: كيف ترينها؟ قالت: أراها جمة الترجاف، متساقطة الأكناف، تتألق بالبرق الولاف، قال: هلمي المعزقة وانأي نؤياً.
قال أبو بكر: حواء سوداء إلى الحمرة كلون الفرس الأحوى، قرحاء يريد أن البرق في أعاليها فكأنها قرحاء مثل الفرس الأقرح، والأقراب الخصور، شبهها ببطن الأتان القمراء، والقمرة بياض كدر، جمة كثيرة، والترجاف الاضطراب، والاكناف النواحي، تقول: قد استرخت نواحيها لكثرة مائها؛ والبرق الولاف الذي يبرق برقتين متواليتين، وهو لا يكاد يخلف، والمعرفة المسحاة، والنؤي تراب يجمع حول البيت لئلا يدخله المطر.
أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: وقف أعرابي على أبي المكنون النحوي وهو في حلقته، فسأله فقال: مكانك حتى أفرغ لك، فدعا واستسقى فقال: اللهم ربنا وإلهنا ومولانا، صل على نبينا محمد، ومن أرادنا بسوء فأحط ذلك السوء به كإحاطة القلائد بترائب الولائد، ثم أرسخه على هامته كرسوخ السجيل على أصحاب الفيل، اللهم اسقنا غيثاً ثرياً طبقاً مريعاً مجلجلاً مسحنفراً، هزجاً سحاً سفوحاً غدقاً مثعنجراً، قال: فولى الأعرابي مدبراً، فقال له: مكانك حتى أقضي حاجتك، فقال: الطوفان ورب الكعبة! حتى أأوي عيالي إلى جبل يعصمهم من الماء! قال أبو بكر: الطبق المطر الذي يطبق الأرض، والمريع الذي يمرع أي يخصب، والمجلجل: الذي تسمع لرعده جلجلةً أي صوتاً وهدةً، والمسحنفر الجاري، والسح الصب، والسفوح المنسفح، والغدق الكثير الماء، والمثعنجر الجاري حتى يملأ الأرض.
أخبرنا أبو حاتم عن الأصمعي، وأخبرنيه أبو عثمان عن التوزي عبد الله بن هارون عن من حدثه قال: مررت بغلمة من الأعراب يتماقلون في غدير، فقلت لهم: أيكم يصف لي الغيث وأعطيه درهماً، فخرجوا إلي وقالوا: كلنا يصف، وهم ثلاثة، فقلت: صفوا، فأيكم رضيت صفته أعطيته الدرهم، فقال أحدهم:.............
 
أعلى